في الصميم

بقلم
نجم الدّين غربال
فُرص الحد من الفقر - المقدمات والتحديات
 قبل أن نُعدّد التّحدّيات التي تعترض أي جهد للحدّ من الفقر، عالميا ومحليا، معرفة بحجمها وما ينتظرنا من مُجاهدة لرفعها او التّقليل من إعاقتها وتمهيدا لمقال لاحق نتصفح من خلاله، إن شاء اللّه، ما هو متوفّر من فرص وإمكانات تُساعد على الحدّ من الفقر محليّا وعالميّا، نعرض مُقدّمات ضروريّة نبني عليها فُرَصَ الحدّ من الفقر وذلك طلبا للهداية الى سبيل الغِنَى، سبيل الغَنِيِّ الحَمِيد الذي يريد بالنّاس تمكينا لا استضعافا، إيواء لا يُتما، هداية لا ضلالا وغنًى لا عَيْلَةً، إطعاما من جوع وأمنا من خوف، كلّ ذلك تيسرا لحياتهم، وفي تناغم مع تكرِيمِه لهم منذ أن خلقهم، فماهي هذه المقدّمات؟
I- مُقدّمات ضروريّة للحدّ من الفقر
فيما سبق من سعي نحو الالمام بالسّبل التي أبعدتنا عن سبيل الحدّ من الفقر(1)وحتّى نُحدّد ما نبني عليه فرص ذلك الحدّ وبالاستناد الى الهدي القرآني واستئناسا بالتّجارب البشريّة(2) اهتدينا الى المُقدّمات التّالية:
- سبيل الحدّ من الفقر هو السّبيل الذي ينطلق من أنّ الإنسان مُكرّم وحرّ ومُفضّل وله رزقه مهما كان جنسه أو جنسيته أو لونه او لغته أو عرقه أو مذهبه أو دينه، وتبعا لذلك لا يُمكن النّظر اليه والتّعامل معه ككلفة أو مورد بل النّظر اليه كقيمة مُطلقة في الإطار النّسبي الذي يحيا ويعيش فيه وأنّ تحقيق نفعه، الحافظ لنوعه وعرضه وعقله ونفسه وماله وحرّيته، هو غاية أيّ نشاط اقتصادي أو اجتماعي أو بيئي أو غيرها من الأنشطة البشريّة.
- سبيل الحدّ من الفقر ليس السّبيل الّذي يقتصر على تحقيق النّمو الاقتصادي بأيّ نوع أو نمط وبأي غاية أو وسيلة، بل هو السّبيل الذي يستحثّ النّمو الاقتصادي، المُتصالح مع بيئته الطّبيعيّة والبشريّة وكذلك الثّقافيّة والحضاريّة، وهو السّبيل الذي يعتمد على سياسات تؤدّي الى تمكين الشّعوب، أفرادا وهيئات ومؤسّسات من أوطانها وسيادتها على خيراتها وثرواتها الطّبيعيّة، وتؤدّي أيضا الى تمكينها من الأسواق المحليّة والجهويّة وكذلك الإقليميّة والعالميّة بمختلف أنواع أنشطتها، على أن يُراعى التّوازن السّليم بين مجموع تلك السّياسات. 
- سبيل الحدّ من الفقر ليس هو سبيل التّمكين الذي يتّخذ التّمويل محورا وأداة حصريّة بل هو من يتّخذ الإنسان محورا وغاية، فالنّظرة الأداتيّة للتّمكين كمثيلتها للإنسان لا تؤدّي إلاّ الى مزيد من التّضحية بأغلبيّة النّاس لصالح القلة منهم، المانحين الماليّين والمترفين في العالم أو لتصفية حساباتهم فيما بينهم، وسبيل الحدّ من الفقر هو السّبيل الذي ينظر للتّمكين على أنّه مسار لامتلاك القدرة وصيرورة الى حالة من أخذ مكان راسخ في الحياة بأبعادها المتعدّدة الاقتصاديّة والماليّة والاجتماعيّة عموما، للأفراد والدّول بمختلف مؤسّساتها وقطاعاتها، ممّا يُفعّل آليّة التّنافس ضمانا لإنتاج سلع جيّدة وسليمة وإسداء خدمات راقية ومُفيدة، تليق بالإنسان كقيمة ثابتة، سُخِّرَ له ما في السّماوات والأرض وأُمرت الملائكة بالسّجود له، وهو السّبيل الّذي يُعيد صياغة التّوازنات الدّوليّة والعالميّة على أساس الأخوّة الآدميّة والشّراكة في الحقّ في خيرات الأرض لأنّ ملكيتها لخالقها، وتبعا لذلك فالتّصرّف فيها يكون وفقا لإرادته تُجاه كلّ البشر من رحمة وتيسير عبر إيوائهم وأمنهم وإطعامهم وتقديم الخدمات البيئيّة والصّحية والتّعليميّة لهم وغيرها.. 
II- حجم التّحدّيات أمام الحدّ من الفقر
• عالميا، توجد ثلاثة تحدّيات رئيسيّة وجب رفعها إذا توفّرت إرادة عالميّة حقيقيّة للحدّ من الفقر، وهي كالتّالي:
-  التّغيّرات المناخيّة النّاتجة أساسا عن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بسبب نمط الإنتاج لدى الدّول الغنية وعدم التزامها بمعايير سلامة البيئة والمحيط، وما يصحب تلك التّغيرات من انحباس حراري وتداعياته من جفاف وفيضانات وندرة المياه، وما يُنتِجه من اتساع لدائرة الفقر وتضاعف لأعداد الفقراء.
-  الصّراع الدّولي للسّيطرة على الموارد الطّبيعية وبسط النّفوذ كالذي يجري في القارة الافريقيّة والحرب الروسية الأوكرانيّة وما أدّت اليه من اتساع دائرة الجوع في العالم.
-  تداعيات الأوبئة مثل كوفيد 19 وما أفرزته من بطالة وتراجع الإنتاج العام للدّول وتدهور صحّي لفئات عريضة من المجتمعات، الأمر الّذي جعلها عرضة للفقر وأفقدها القدرة على مواجهته.
• مُتوسطيّا، والى جانب التّحديّات السّابق ذكرها وتأثيراتها في منطقة البحر الأبيض المُتوسّط، على مستوى اتساع دائرة الفقر، تُوجد كذلك تحدّيات رئيسيّة ثلاثة وجب رفعها إذا توفّرت أيضا إرادة سياسيّة حقيقيّة للحدّ من الفقر، وهي تباعا:
-  طبيعة علاقة دُول شمال المُتوسّط بدول جنوبه والّتي لم تشهد بعد نُقلة نوعيّة رغم مرور عقود طويلة على مرحلة الاحتلال العسكري التي طبعت علاقة الأولى بالثّانية في القرنين التّاسع عشر والعشرين ميلاديا، علاقة تطبعت بعقليّة براغماتيّة أنانيّة نفعيّة عكستها سياسات الاستنزاف ليس فقط للثّروات الطّبيعيّة بل كذلك للكفاءات العلميّة والمهارات اليدويّة (200 مليار دولار خسائر تكبّدتها الدّول العربيّة جراء هجرة الكفاءات، حسب منظمة اليونسكو).
- القضيّة الفلسطينيّة والتي عجز العالم، منذ وعد بلفور، عن حلّها وتمكين أصحاب الحقّ من حقوقهم، وكذلك ضعف أصحاب الحقّ ذاتهم من عرب ومسلمين على استرداد حقّهم، خاصّة حقّهم في أحد الأماكن المقدّسة الثّلاثة لديهم، ألا وهو القدس الشّريف.
- العلاقات البينيّة بين دُول جنوب المتوسط، والمتّسمة بالتّوتر وعدم التّكامل، وعلاقات هذه الدّول الضّعيفة بالدّول الافريقيّة الواعدة على مستوى الاستثمار والتّصدير، باعتبارهما محرّكين رئيسيّين لأيّ نمو اقتصادي مُرتقب. 
• وطنيّا، ومع وقع كلّ التّحديات السّابق ذكرها عالميّا ومتوسطيّا على واقعنا بكلّ أبعاده، سواء على مستوى أداء الاقتصاد ومحرّكاته الأساسيّة من استهلاك واستثمار وتصدير، أو على مستوى الماليّة العموميّة والأداء الحكومي وأهليّة قطاع النّقل والتّعليم ونجاعة القطاع الصّحي وما لذلك مجتمعا من تداعيّات سلبيّة على القدرات الفرديّة والجماعيّة على مستوى أنشطة الدّولة ومكوّنات المجتمع الاقتصاديّة، وكذلك من آثار سيّئة على المستوى الاجتماعي تمثّلت في اتساع دائرة الفقر متعدّد الأبعاد(فقر في الدّخل، حيث ما يُقارب المليون عائلة معوزة أو محدودة الدّخل و29 % من الأطفال يعانون من الفقر، وفقر تعليمي حيث 25 % من التّلاميذ فقط يصلون الى اجتياز الباكالوريا وأكثر من مائة ألف تلميذ ينقطعون سنويّا عن مزاولة التّعليم.....)، وانتشار الأمّيّة (مليونيْ أمّي بتونس) وفي التّدهور البيئي وغيرها، هناك ثلاثة تحدّيات رئيسيّة أمام الحدّ من الفقر في وطننا، وهي:
- منوال التّنمية المُتّبع منذ عقود والذي لم يكن مُتصالحا ومُتلائما، بالقدر الكافي لا مع بيئته الطّبيعية والبشريّة ولا الثّقافيّة منها أو الحضاريّة ولم يكن مُتوازنا، في المجال الاقتصادي سواء على مستوى القطاعات أو الهياكل أو التشريعات، كما أنّه لم يكن عادلا بين الجهات ولا بين الأفراد.
- المنظومة الاجتماعية ونظامها القائم الضّعيف الفاقد للقدرات على حسن القيام بمهامه على مستوى الضّمان والحيطة الاجتماعيّة وتقديم الخدمات الصّحيّة.
- هشاشة قطاعات الاقتصاد الثّلاثة العام والخاصّ والاجتماعي التّضامني وعدم قدرتها على الاستفادة من الكفاءات العلميّة والمهارات اليدويّة، وكذلك قطاعات التّعليم في مراحله الثّلاث، وقطاع النّقل والمواصلات وضعف البنى التّحتيّة المادّية والمعلوماتيّة وانعدامها في كثير من مناطق البلاد ممّا حرم فئات عريضة من فرص الشّغل (30 % من العاطلين عن العمل خريجو جامعات في المنطقة العربيّة حسب البنك العالمي) كما حرم فئات عريضة من إمكانيّات التّخلّص من الفقر، ودفع بالكثير الى الهجرة (80 % من الأطباء الشّباب هاجروا في السّنوات الأخيرة حسب نقابة الأطباء في تونس و6500 مهندس تونسي يهاجرون بلدهم سنويّا). 
• فرديا، ومع ما يرزح تحته كلّ فرد في مجتمعنا من تبعات التّحديّات السّابق ذكرها مجتمعة وما تنتجه من بيئة تفقيريه عامّة، توجد ثلاثة تحدّيات رئيسيّة أمام الحدّ من فقر الفرد وكذلك أمام مساهمته في الحدّ منه وطنيّا، وهي على التوالي:
- ضعف قدراته الذّهنيّة والمعنويّة والبدنيّة أو انعدام بعضها أو كلّها لدى أفراد كُثُر سواء لانقطاعهم المبكّر عن التّعليم أو لضعف في جودة التّعليم في مستوياته الثّلاثة ولغياب دورات التّكوين والرّسكلة أو لإصاباتهم  بأمراض لم يتم التّعامل معها في الإبّان أو لغياب تمكين الأفراد، بسهولة من الاندماج في عالم المال والاعمال وذلك لعدم توفير أحد عوامل التّمكين أو بعضها أو كلّها، من فرص استثمار وتمويل ملائم وشراكات ذكيّة وكذلك بنية تحتيّة واستثمار في المصاحبة والدّعم وأيضا في تقوية الثّقة في الذّات والامكانات وقٌدراتها على الولوج الى السّوق.
- سلوكيّات الإنفاق غير الرشيدة لدى أفراد كُثُر، كالإسراف والتّبذير أو الاكتناز أو التّقتير.
- ضعف منظومة العمل الخيري القادرة على الحثّ عليه وحسن تأطيره وتنويع مصادره وموارده وحسن توظيفها وايصالها الى مستحقّيها مع غياب مؤسّسات بحالها كمؤسّسة الزّكاة والوقف وغيرها.
استنتاج عام:
ما توصّلنا إليه فيما كتبنا من مُقدّمات ضروريّة للحدّ من الفقر وألفنا من تحدّيات عالميّة ومتوسطيّة ومحليّة، وطنيّة وفرديّة، يُعتبر أرضيّة تصوريّة صلبة ومعرفة واقعيّة متعدّدة الأبعاد جغرافيّة وسياسيّة واقتصاديّة والماما بتداعياتها الاجتماعيّة والبيئيّة تمكّن مجتمعة من الخوض وبحظوظ وافرة في البحث فيما هو متوفّر من فرص وإمكانات تُساعد على الحدّ من الفقر محليّا وعالميّا، وصياغة ما سنتوصل اليه وبتوفيق من اللّه، في ورقات في مقالات لاحقة إن شاء اللّه على أعمدة مجلة الإصلاح الالكترونيّة، مساهمة في بلورة بدائل لأمّهات القضايا التي تستهدف حياتنا ومعاشنا بل وجودنا الحضاري والإنساني، بدائل نسعى من خلال منتدى الفارابي للدّراسات والبدائل أن تكون مُتصالحة مع بيئة مجتمعنا الطّبيعيّة والبشريّة والحضاريّة.
الهوامش
(1) راجع مجلة الإصلاح الالكتروني العدد 192 (جويلّة 2023)
(2) راجع مجلة الإصلاح الالكتروني العدد 193 (أوت 2023)