في العمق

بقلم
أ.د.عماد الدين خليل
مدخل إلى بناء الكون في المنظور القرآني (الحلقة الثامنة)
 الغيب والتجريب معاً
إنّ تأكيد القرآن الكريم على الإيمان (بالغيب) لم يمنعه من التّأكيد على التّجريب والاختبار والنّشاط العقلي، والممارسة العلميّة، بل على العكس، يتساوق معه، يوازيه ويعتمده في تعميق الإيمان بالغيب كتسخير يقيني للوجود الكوني والبشري على السّواء، بما فيه من دقّة وضبط وتوافق وانتظام، يؤكّد هذا أنّ ما قدّمه القرآن الكريم حول بعض القوانين والسّنن الكونيّة من معطيات (في حقول الطّبيعة والحياة والفلك ... الخ) جاءت الكشوف العلميّة أخيراً لكي تعزّزها وتوضّح أبعادها التي خفيت عن أذهان أجيال كثيرة في الماضي ... وهذا هو مصداق الآية الكريمة: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (فصلت:53). 
معجزة الخلق والنّظام
وهذا يقودنا إلى الإرادة الإلهيّة الكليّة الشّاملة، التي تملك القدرة المطلقة على الخلق والأمر، والتي بيدها ملكوت كلّ شيء، أن تبني هذا الكون المحكم في جانبيه المنظور والمغيّب، وأن تتجاوز به التّناقض أو الانهيار أو الزّوال، وأن توحي في كلّ سماء أمرها، وأن تمسك بمقاليد السّماوات والأرض وتسوقها عبر أزمان لا يعلم مداها إلاّ اللّه سبحانه وتعالى في هذا المسار المحكم الذي تراه عيوننا وتسمعه آذاننا وتلمسه أيدينا وتسلّم به عقولنا وأفئدتنا ... فقط إذا عرفنا كيف نفتت الرّان الذي يحيط بهذه الأفئدة والقلوب، ونجعلها تتفتّح على هذه المنظومة المعجزة والمدهشة من الحقائق الكونيّة التي تشهد جميعاً بأن: لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له (جلّ في علاه): ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ . فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ (فصلت:12-11). ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...﴾(الروم:22). ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرهِ ...﴾ (الروم:25). ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ (الحج:70). ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾(لقمان:16). ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ﴾(سبأ:2). ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾(سبأ:3). ﴿إِنَّمَا أَمْرهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾(يس:82). ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ﴾(الصافات:5). ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾(الشورى:12). ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾(الأحقاف:33). ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ . وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾(القمر:49-50). ﴿قُلْ مَن بِيَدهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾(المؤمنون:88-89). ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾(الزخرف:84). ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (يس:83).
في واحدة من أكبر المدن الآسيويّة: «كوالا لامبور» عاصمة ماليزيا، أحدث عطل موقوت في شبكة «التّرافيك لايت»، لم يتجاوز الدّقائق المعدودات، إرباكاً هائلاً في المواصلات، وبالتّالي في المسار اليومي للأنشطة المزدحمة المتشعّبة كافّة. فماذا لو حدث عطل كهذا في مسارات النّجوم والسّدم والمجرّات عبر الكون العريض؟ ما الذي سيتمخّض عنه فيما ينذر بالويل الذي لا يحيط بأبعاده أشدّ النّاس قوّةً في الخيال؟
ملايين السّنين، بالحسابات الضّوئية، وحركة الكواكب والأقمار والنّجوم والسّدم والمجرّات، تمضي في مساراتها المرسومة دون أن تتحرّك قيد أنملة عمّا أريد لها أن تمضي فيه: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ . وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ . لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾(يس:38-40).
إنّها يد اللّه سبحانه القديرة، المريدة، الفاعلة، من يمسك بالكون ويحميه من الفوضى والتّسيّب والارتطام والإجهاز على كلّ شيء: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً﴾(فاطر:41). ولطالما حدّثنا كتاب اللّه في مواقع عديدة من آياته البيّنات عن هذا الإحكام الكوني، ولفت أنظارنا إلى المشيئة المطلقة التي تقف وراءه (فيما سبق وأن أوردنا شواهده المزدحمة).
عطب في المكائن والآلات الكبيرة يمكن السّيطرة عليه ... عطل في شبكة «الترافيك» يمكن إصلاحه وإعادة الأمور إلى نصابها ... لكن العطب الكوني إذا قدّر له أن يقع فلن يكون بمقدور قوّة في العالم أن تتداركه، وستقف أقوى دولة في الدّنيا عاجزة يائسة مستسلمة أمام تحدّيه القاهر المخيف.
فكيف بعمليّة بناء الكون نفسه؟ أيّة قدرة مطلقة تمكّنت من تصميمه وإنجازه؟  ﴿مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً﴾(الكهف:51) ... هذا هو الجانب الآخر من المشهد الكبير الذي طالما لفت القرآن الكريم أنظارنا إليه: خلق الكون!
إننا إذن أمام معجزتين كبيرتين: خلق الكون، والإمساك بنظامه المحكم ... وليس ثمّة تفسير للمعجزتين سوى وجود اللّه سبحانه وتعالى الذي لا يعجزه شيء في السّماوات والأرض، والذي إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن فيكون ... وكلّ التّفاسير المادّية الكافرة، التي سعت ولا تزال إلى إبعاد الوجود الإلهي عن الخلق والصّيرورة الكونيتين لا تعدو أن تكون، تخبط عميان، و(سخفاً طائشاً) إذا استعرنا عبارة «سوليفان» في (حدود العلم) وهي جميعاً تدعو للسّخرية ولا تنطوي على أيّ قدرٍ من الإقناع لكلّ من يملك ذرّة من بصيرة أو عقل.
وها هنا عبر هذا الفارق الكبير بين المنظور القرآني لخلق الكون، بدءًا وصيرورةً وانتهاءً، وهدفاً ومغزى، وبين معطيات المخاليق التي طاشت بها السّهام حتى بلغت دهاليز «الجنون والدّجنة» (إذا استخدمنا عبارة «فاولي» في كتابه: عصر السّرياليّة)، وتجاوزتها إلى قتل اللّه وحاشاه، وقتل الإنسان، كما فعلت تيارات الحداثة، وتركت ساحات الكون يهيمن عليها العبث، والفوضى واللاّجدوى، كما أجمع عليه رواد الطّليعية والوجوديّون والدّادائيّون والسّرياليّون، وذبحت بسكينها الملطخة بمعطيات العقل البشري المحدود الثّوابت والمعتقدات، وأدخلت البشريّة دوامة القلق والتّشاؤم واليأس والعذاب ... والهروب إلى المغيبات... والانتحار، كما تشهد ساحات الدّول المعاصرة الأكثر تقدّماً: الولايات المتحدة واليابان والسّويد... حيث أعلنت فضائيّاتهم عن تخصيص ثلاثين مليار دولار لملاحقة حالات الاكتئاب والانتحار في السّاحة اليابانيّة، وحيث يصاب عشرة بالمائة من الأمريكيّين بداء الاكتئاب المركّز الذي يسوقهم إلى تناول العقاقير المغيبة، وفيما تشهده السّويد، رغم التّقدّم الأسطوري لهذه البلدان على مستوى المدنيّة ... إنّه خراب الرّوح، وغياب الهدف النّهائي للحياة الدّنيا، وضياع الإيمان باليوم الآخر الذي توضع فيه الموازين القسط، ويتحقّق الإنسان بالحياة الحقيقيّة الأبديّة ... حياة بالطّول والعرض والعمق ... فيما يمنح الأمل العميق بجدوى المسعى البشري في العالم ...
ها هنا يمكن أن نستعيد التّحدّي القرآني مرّة ومرّتين وعشرين مرّة: ﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ؟ ...﴾ (لقمان:11) ... لا شيء!
إنّنا لو تأمّلنا الفارق بين صنع اللّه سبحانه وتعالى وصناعة العبيد، لوجدناه فارقاً في النّوع وليس في الدّرجة، فارقاً حاسماً لا ينطوي على أيّة مقاربة بين قدرات الخالق والمخاليق! ... إنّ كلّ ما يفعله هؤلاء هو أنّهم يلجؤون إلى المادّة الأساس، أو الأوّليات التي وضعها اللّه سبحانه وتعالى بين أيديهم، فيبدلون في نسبها وأحجامها، أو يسوون نتوءاتها وتعاريجها لكي تكون أكثر ملاءمة لوضعهم البشري، أو أنّهم يكشفون عنها النّقاب بينما هي موجودة ابتداء، حاضرةً مركوزة في فطرة الكون والنّاس والأشياء ...
إن ما فعله هؤلاء في حقول العلوم الصرفة أنّهم كشفوا النّقاب عن السّنن والنّواميس التي وضعها اللّه –سبحانه وتعالى- في تكوين العالم ... وفي العلوم التّطبيقيّة ... وظّفوا ما أعطاهم اللّه إيّاه من سنن ومواد خام. لم يستطع أي واحد منهم، ولن يستطيع، أن يخلق خليّة أو حجيرة واحدة من العدم ... لن يستطيع أن يهب الحياة للجمادات ويمنحها الحركة ... إنّهم يجيئون إلى عالم أحكم اللّه – سبحانه وتعالى – صنعه، وأغدق على خلقه بنعمه، وخيراته، فهم لا يفعلون بأكثر من التّغيير والتّبديل في النّسب والأبعاد ولا يصنعون بأكثر من أن يكشفوا النّقاب عن السّنن التي شاءت إرادة اللّه سبحانه وتعالى أن تكون مغطاة من أجل تحفيز الإنسان على البحث والكشف والتّنقيب والفاعليّة والتّحضّر.
إنّ الأشياء الكبيرة يصنعها اللّه سبحانه وتعالى، والبشر لا ينجزون سوى الأشياء الصّغيرة ولا يقومون –إذا صحّ التّعبير- سوى بالأمور التّكميليّة: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ...﴾ (الزمر:67). ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً...﴾(البقرة:29). ﴿... وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ...﴾(الأنعام:101). ﴿أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ ...﴾(الأعراف:185). ﴿... وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرهُ تَقْدِيراً﴾ (الفرقان:2). ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً ...﴾ (فاطر:11). ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ﴾(يس:71). ﴿أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً﴾ (مريم:67). ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ (القمر:49). ﴿... أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ...﴾(فاطر:40). ﴿أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ. أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ﴾ (الواقعة:58-59). ﴿أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ (النحل:17). ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾(النحل:20). ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ (الطور:35). ﴿ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ...﴾ (الأنعام:102).
على مدى خمسين عاماً والعلماء السّوفييت –بأمر من الدّولة- يعملون في مختبراتهم ومعاملهم لتخليق الحياة من المادّة الميّتة، والهدف واضح، أن تتأكّد علميّاً معطيات المادّيّة الدّيالكتيكيّة التي أصبحت عقيدة الحزب الشّيوعي والدّولة السّوفيتيّة، والتي ألغت اللّه سبحانه وتعالى من الصّيرورة الكونيّة وجعلت المادّة تخلق نفسها وفق وهم المتغيّرات الكمّية التي تتحوّل بقدرة قادر إلى متغيّرات نوعيّة!! خمسون عاماً أعلن العلماء في نهايتها عجزهم المطلق عن تحقيق المطلوب وألقوا السّلاح أمام معجزة الحياة!
العبرة بالخلق الأوّل من الموات، كما أكّد عليها القرآن الكريم، وبإعادة الحياة للموات مرّة أخرى كما أكّد القرآن الكريم أيضاً، وليس ببناء تشكيلات وإقامة منظومات إبداعيّة من المادّة الحيّة التي لم يكن لأحد من البشر أي دور في بعثها على الإطلاق: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (البقرة:28).
خاتمة
لقد سمّيت هذا البحث (مدخلاً) إلى بناء الكون في المنظور القرآني، وهو لا يعدو أن يكون تمهيداً لبحوث شاملة ينفّذها مجموعة من الباحثين المختصّين بالعلوم القرآنيّة وبعلم الفيزياء الكونيّة (الكوزمولوجي) وأحسب أنّ المعهد العالمي للفكر الإسلامي يقوم بمهمّة كهذه من أجل ملء الفراغ في هذا الموضوع الذي تفرّقت به السّبل ... هذا إلى تناوله من قبل العديد من الباحثين في سياق الفكر الإسلامي المعاصر.
إنّ أيّة مقارنة جادّة بين معطيات القرآن الكريم بخصوص بناء الكون وبين كشوفات العلوم الفيزيائيّة والرّياضيّة المعاصرة لابدّ أن تضع في حسبانها مبدأ إحالة هذه الكشوف على المعطيات القرآنيّة، وليس العكس بحالٍ من الأحوال ... ذلك أنّ علم اللّه الخالق والمالك (جلّ في علاه) هو غير معطيات الباحثين من علماء الفيزياء والرّياضيّات ... في الحالة الأولى نجدنا قبالة حقائق مطلقة يتحتّم التّسليم بها ، وفي الحالة الثّانية قبالة علوم تزداد بمرور الوقت قدرة على تجاوز ظنّيتها والالتحام الجادّ بالحقائق الكونيّة ... وفي هذه الحالة، كما أكّد هذا البحث مراراً وتكراراً، سيكون اللّقاء الحميم بين الدّين والعلم ... بين ما أكّده كتاب اللّه، وما كشفت عنه العلوم المعاصرة بعد رحلة متطاولة في فيزياء الكون، لكن هذا لا يمنع من أن تكون هناك ثمّة ثغرات، أو مساحات لم يصل فيها أصحابها مرتبة اليقين المطلق، كما يؤكّدون هم أنفسهم، وكما وردت الإشارة إلى بعضهم في صفحات هذا البحث.
لقد كتبت أبحاث كثيرة، استهدفت الإفادة من معطيات العلم الحديث لتعزيز الايمان باللّه ورسالاته عموماً، وبالإسلام وكتابه الكريم على وجه الخصوص ... كما أنّ عدداً من التّفاسير المعاصرة للقرآن مارست الأسلوب ذاته بهذا القدر أو ذاك. وقد اتخذت تلك الأبحاث والمحاولات اتجاهات أساسيّة ثلاثة، تمثّل أوّلها في فحص البنية الدّقيقة المحكمة للكون على ضوء كشوفات العلم الحديث، وتأكيد القول بأنّ هذا الإعجاز البنائي لا يمكن أن يتحقّق إلّا على يد قدرة مريدة مدبّرة ومتفرّدة هو اللّه سبحانه وتعالى، وهذا ما نجده في أبحاث عديدة من مثل (العلم يدعو للإيمان) لموريسون، و(اللّه يتجلّى في عصر العلم) لجماعة من العلماء و(مع اللّه في السّماء) لأحمد زكي وغيرها.
وتمثّل ثاني تلك الاتجاهات في شرح وتحليل مجموعة الإشارات القرآنيّة إلى هذا الإحكام في بناء الكون. والقرآن الكريم يعود المرّة تلو المرّة لكي يؤكّد هذه الحقيقة الكبيرة الخطيرة، ويدعو الإنسان إلى التمعّن فيها وإدراك أبعادها التي كادت لبداهتها ووضوحها أن تغيب عن العيان.
وأمّا ثالث الاتجاهات وأكثرها ارتباطاً بالموضوع، فيتمثّل بالمحاولات العديدة، الخصبة لتفسير الآيات، والمقاطع القرآنيّة التي كشفت عن عدد من الحقائق المتعلّقة ببناء الكون، ما كان الإنسان يومها بقادر على الكشف عنها، وجاء العلم أخيراً لكي يزيح عنها النّقاب ويؤكّد بأساليبه الخاصّة صدق المقولات القرآنيّة، ونستطيع أن نعثر على نماذج للاتجاهين الأخيرين في مؤلفات: عبد الرزاق نوفل، ونديم الجسر، ومصطفى محمود، ووحيد الدّين خان، ومحمد قطب، ومحمد رشيد رضا، وطنطاوي جوهري، والنّديم، وموريس بوكاي وزغلول النّجار والزّنداني ... وغيرهم.
إنّ الذي يقرأ كتاب اللّه في محاولة للإحكام بطبيعة موقفه من (العلم) يجد نفسه أمام حشد من الآيات البيّنات ممتدّة وفق أبعاد أربعة توازي المسألة العلميّة في اتجاهاتها كافة. يتناول أولها مسائل تتعلّق بطبيعة العلم وآفاقه وأهدافه، فيما يعرف بفلسفة العلم ونظريّة المعرفة. ويتناول ثانيها منهج الكشف عن الحقائق العلميّة المختلفة. ويعرض ثالثها لمجموعة من السّنن والقوانين والحقائق في مجالات العلم المختلفة. وبخاصّة الطّبيعة والجغرافيا وعلوم الحياة، فيما يسمّى بالعلوم المحضة أو الصّرفة. ويدعو رابعها لاستخدام هذه السّنن والحقائق التي كشف عنها منهج تجريبي في البحث، من أجل ترقية الحياة وتنميتها على طريق خلافة الإنسان لإعمار الأرض، فيما يعرف بالعلوم التّطبيقيّة (التّقنية).
وما من شكّ في أنّ هناك ارتباطاً وثيقاً ومحكماً بين هذه الأبعاد، يقود أحدها إلى الآخر. فالفلسفة تحلّل أهداف العلم، والمنهج يقدّم طريقة عمل للكشف عن الحقائق: السّنن والنّواميس التي تحكم الكون والعالم والحياة وتحمي صيرورتها الزمنة ذات النّظام المعجز ... وهذه السّنن والنّواميس تمنح الإنسان –بدورها- المعادلات التي يتمكّن بها من أن يدخل إلى صميم التّركيب المعجز هذا لبنية الكون والعالم والحياة، من أجل اعتماد تلك السّنن والحقائق لتنفيذ قدر من (التّطبيقات) العلميّة، تمضي بالحضارة البشريّة قدماً صوب الأحسن والأرقى وتتيح للإنسان التّحرّر من شدّ الضّرورات لكي يكون أكثر قدرةً على محاورة السّماء وتلبية حاجاته الرّوحيّة التي بها يتميّز الإنسان عن سائر الخلائق، ويتمكّن من تنفيذ أكثر امتداداً لمقتضيات خلافته (العمرانيّة) في العالم.
وإنّه لأمر بديهي أن تتعانق معطيات القرآن ومعطيات العلم، وتتوازيان، لا أن تتضادّا وتقوم بينهما الحواجز والجدران، ذلك أنّ مصدر العطاء واحد، وهو اللّه (جلّ وعلا) صانع السّنن والنّواميس ومنزل القرآن ... ليس هذا فحسب، بل إنّ الإنسان باعتباره معنياً بالاثنتين معاً، الإنسان بما أنّه المستخلف في هذا العالم، واليد التي تسعى لإعماره يقود إلى هذا اللّقاء الأكيد بين كتاب اللّه وسننه في هذا العالم، وكيف يستطيع الإنسان أن يؤدّي دوره، في إطار تعاليم القرآن وشرائعه، إن لم يتحرّك –ابتداء- لفهم هذا العالم والكون والكشف عن سننهما ونواميسهما؟!.
يقول الباحث الانكليزي روم لاندو في كتابه (الإسلام والعرب)(1) «في الإسلام لم يولّ كلّ من الدّين والعلم ظهره للآخر ويتّخذ طريقا معاكسة لا، وبالواقع أنّ الأول كان باعثاً من البواعث الرّئيسيّة للثّاني»(2). ويقول « العلم الإسلامي لم ينفصل عن الدّين قط. والواقع أنّ الدّين كان ملهمه وقوّته الدّافعة الرّئيسيّة. ففي الإسلام ظهرت الفلسفة والعلم معاً إلى الوجود لا ليملأ محلّ ألوهيّة الدّين ولكن لتفسيرها عقليّاً، لإقامة الدّليل عليها وتمجيدها ... إنّ المسلمين وفقوا، طوال خمسة قرون كاملة، إلى القيام بخطوات حاسمة في مختلف العلوم من غير أن يديروا ظهورهم للدّين وحقائقه، وأنّهم وجدوا في ذلك الانصهار عامل تسريع ونجاح، لا عامل تعويق واحباط»(3) .
وهذا البحث الذي قدّمناه للقراء في ثمان حلقات ممتالبة إنّما يمثل واحدة من الحلقات الثّلاثيّة التي قدّم لنا كتاب اللّه منظوره المعجز لخطوطها العريضة. وثمّة حلقتان أخريتان عملت عليهما لإتمام الصّورة قد يتاح لهما النّشر مستقبلاً، وهما: «مدخل إلى بناء العالم في المنظور القرآني» و«مدخل إلى نهاية التّاريخ في المنظور القرآني» ... هذا الكتاب المعجز الذي لا تنقضي عجائبه ولا يخلق على كثرة الرّد.
الهوامش
(1) الإسلام والعرب، ترجمة منير البعلبكي، الطبعة الثانية، بيروت: دار العلم للملايين، 1977م.
(2)  المرجع السابق، ص 246
(3)  المرجع السابق، ص 281-280.