نافذة على الفلسفة

بقلم
أ.د. عبدالرزاق بلقروز
من عقلانية الحداثة الغربية إلى عقلانية الإيمان التوحيدي: نحو حداثة إسلامية متصلة (3-5)
 عقلانية الحداثة الغربيّة: نتائجها ومآلاتها
لا أحد يُنكِر المكاسب الإيجابيّة التي جنتها الحداثة العقلانيّة من هذه المبادئ والإنجازات، خاصّة في مراحلها الأولى التي لم تسفر فيها عن الطّابع العدمي والمآلات الانحطاطيّة التي كانت تلازمها؛ إذ إنّ إعادة الاعتبار إلى الإنسان كذات حرّة، واكتشاف دور العقل في فهم العالَم، والتخلُّص من هيمنة الذّهنيّات التي تتقنّع الدّين وتتحالف مع قوى المال والسّلطة، كلّ ذلك مكاسب محمودة ارتقت بأسبابها الإنسانيّة إلى تحقيق مستوى عالٍ من الضّمانات الاجتماعيّة والوعي وإدارة الصّلات الإنسانيّة إدارة عقلانيّة، إلاّ أنّ هذه المقاصد التي كانت تلوح في مراحل المشروع العقلاني الأولى لم تحافظ على نقاوتها ومقاصدها الأصليّة التي نهضت من أجلها؛ ذلك أنّها لم تنتبه إلى المفاعيل العكسيّة التي كانت تعمل في الخفاء، وهي مفاعيل نُبصر فيها نحن أعراض مَرضٍ في مشروع الحداثة العقلانيّة، لا تكفي فيها المُسكّنات الوقتيّة، بقدر ما تحتاج إلى إعادة بناء النّظرة الكلّية إلى العالَم، وما يتشعّب عنها من النّظرة إلى المعرفة، والنّظرة إلى القيم، والنّظرة إلى الإنسان، والنّظرة إلى الطّبيعة.
إنّ النتائج والمآلات التي أفضت إليها الحداثة العقلانيّة، وهي بتعبير الفيلسوف الألماني نيتشه مآلات انحطاطيّة، يمكن لنا تجميعها في المناحي الآتية:
1. نـزع القداسة عن المعرفة واختزالها في تنمية دوافع القوّة والهيمنة:
كان من نتائج هذه الذّهنيّة العقلانيّة في تأويل العالَم، أن فصلَتْ –تدريجيّاً- القداسة عن المعرفة، وحوّلتها إلى معرفة علمانيّة خالية من نداوة الإيمان ورطوبة الرّوح. «وقد بدأت العمليّة قديماً في اليونان مع فقدان الرّوحيّة الرّمزيّة وبروز العقلانيّة والتّشكيكيّة وغيرها، ولئن احتفظت اليونان مع ذلك بإرث حكمي إلهي، فقد تمّ صرفه إثر الصّراع الذي قام بين الهيلينيّة والمسيحيّة. ثم ّكانت القطيعة الكبرى مع المقدّس عندما أحال ديكارت الأنا الفرديّة إلى محور الواقع بعد فصلها عن الوحي وعن العقل، وهما مركز الثّبات في الكون، وأخيراً استطاع هيجل بعدما مهّدت له شكوكيّة هيوم ولاأدريّة كانط، أن يقوّض هذا المركز تماماً، مختزلاً الكينونة إلى صيرورة، والحقيقة إلى عمليّة زمنيّة، والعقائد الميتافيزيقيّة الجليلة إلى فكر دنيوي مقوّض ومفكّك»(1).
إنّ المعرفة التي كان من مقاصدها الاتصال بالوحي ومعرفة اللّه، ثمّ الاتصال بالعالَم والإنسان، جرى توجيهها نحو مقاصد أُخرى، هي: علمنة المعرفة، وتكثير الاستدلالات البُرهانيّة، والالتحام بالمعرفة الحسّية. لقد تركّزت المعرفة في الأنا الواعي لذاته، الذي جعل وجهته الذّات العارفة وموضوع المعرفة. أمّا الوحي والإله فقد جعل دورهما لاحقاً على دور الإنسان؛ ما أدّى ببعض المناحي الفكريّة إلى الفصل بين الفلسفة والحكمة، والفارق بينهما أنّ الأولى حصرت جهدها في العالَم الحسي، في حين جدّدت الثّانية الاتصال بالأفكار القريبة من التّصوّف أو البصيرة النّورانيّة، كالأفلاطونيّة أو الفيثاغوريّة. غير أنّ انتشار الرّشديّة والأرسطيّة أعاد القيمة إلى مشروع نزع القداسة عن المعرفة؛ فنتيجة لأثر الأرسطيّة الشّديد، جرى التّأكيد مع (التّوماويّة) على القيمة الكبيرة للحسّ، والتوكُّؤ على المقولات الأرسطيّة في التّعبير عن المسيحيّة، وقد أدّت هذه العوامل دوراً مركزيّاً في استكمال مشروع العلمنة.
ومع مسارات الزّمن في أفق الحداثة العقلانيّة، انبجست الهيجليّة التي سمت بالعقل إلى مرتبة المطلق، واختزلت الحقيقة إلى عمليّة زمنيّة، والواقع إلى جدل منطقي دائم التّحوُّل. وفي المقابل، فـ «إنّ خسارة معنى الدَّوام في المدارس الفلسفيّة أوصل بمعيّة وضعية أوغست كونت Auguste Comte إلى المرحلة المتقدّمة من علمنة المعرفة وأيضاً إلى خسارة معنى المقدّس، وهذا ما طبع الإنسان الحديث بطابعه، أمّا الفلسفات التي تلت، من قبيل اللاّعقلانيّات التي جاءت ردَّ فعل على الهيجليّة أو الفلسفات الوضعيّة المختلفة أو الفلسفة التّحليليّة، فقد استكملت المراحل الأخيرة من برنامج التّدمير التّام لكلّ ما هو مقدّس في المعرفة، إمّا بفصله تماماً عن الدّين والسّعي وراء المقدّس من خلال العقلانيّة والمنطق، وإمّا باستنـزاف اللّغة والعمليّات الفكريّة، وهي بالطّبع مرتبطة باللّغة، من كلّ ما هو ميتافيزيقي لا تنفصل المعرفة فيه عن السّعي إلى المقدّس»(2).
وقد بلغت العلمنة ونزع القداسة عن المعرفة قمّتها عند نيتشه (Nietzsche)، الفيلسوف الذي أبصر في إرادة المعرفة مجرّد إرادة قوى تُعبِّر عن نفسها فيها ومن خلالها. وإمعاناً منه في التّقليل من قيمة إرادة المعرفة بإرجاعها إلى أصولها الحيويّة وصيغتها التّأويلية للعالم، المندرجة في إطار الصّيرورة، يقول ساخراً: «ما المعرفة في التّحليل الأخير؟ إنّها تأويل؛ استثمار لمعنى، فهي في أغلب الحالات لا تفسّر؛ إنّها تأويل جديد لتأويل قديم أضحى غير صالح ولا منتفع به، ولم يعد سوى مجرّد علامة، لا توجد هناك حالة واقعيّة، كلّ شيء في سيلان، يستحيل المَسْكُ به، والأكثر دواماً هي آراؤنا،»(3) وكأنّ الصّيرورة هي الثّابت الوحيد في وسط عالم لا يعتدّ بالنّظريات الكبرى والتّأويلات الشّاملة، وهذه خطوة حاسمة خلع فيها النّسبيّة والسّيولة المعرفيّة على الحقيقة الموضوعيّة والذّات المُدركة. وبهذا، فإنّ ما في المعرفة أو الحقيقة وما يُختزَن داخلهما هو منظور وحسب، لا يتماثل مع الواقع أو يقترب منه، إنّما هو علامة أو أثر على إرادة القوّة التي تنجح في فرضه، والنّجاح في فرضه يعني أنّه حقيقي. فالمعرفة وَفقاً للتأويل النيتشوي لا تسكنها الماهيات والجواهر، ولا تُحرِّكها المبادئ والغايات، فضلاً عن الأشياء التي لا معاني لها في ذاتها؛ فالمعاني والدلالات تفرضها إرادة القوة بما هي منظور مخصوص وأثر لرغبات الكائن الإنساني. كما أنّ «منهج الحقيقة لم يبتكر لبواعث الحقيقة، لكن من أجل دوافع القوة والهيمنة»(4).
وبذا، أنجز نيتشه أخطر الخطوات بشطبه كلّ إحالات المعرفة نحو عالم آخر غير العالَم الأرضي، وسعيه من خلال تقليبه أنظمة المعرفة التاريخية إلى الكشف عن رهاناتها المصلحية والعوامل الحيوية المُنتجة لها. وفي المقابل، فقد دعا إلى المطابقة بين الحياة والصيروة، حيث تستحيل المعرفة وهماً في يد إرادة إحدى القوى أو أحد آثارها.
2. هيمنة العقل الأداتي واستعماره عالم الحياة:
تُمثِّل مدرسة فرانكفورت أحد أهم الاتجاهات الفلسفيّة التي أبانت عن لاعقلانيّة العقل، الذي اصطلحت على تسميته بـ«العقل الأداتي»، أو «الإجرائي»، أو «الحسابي»، وهو عقل لا يهتم كثيراً بالغايات والقيم، وتنحصر دائرة اهتمامه في التّحسيب والإجراء؛ إنّه عقل كمّي آلي، لذلك جرى وصفه بالعقل القمعي. وقد عملت هذه المدرسة على تزويد العقل بالبُعْد الفنّي والأسطوري لكي يتحرّر من إرادة السّيطرة. إنّ هذا العقل الذي تعارضه مدرسة فرانكفورت وتناهضه، نال من الاهتمام ما رفع من شأن قيمته إلى رتبة عليا، وهو العقل الذي «سيتصدّى بالنّقد إلى الأساطير والأديان في صورة ربّما جاز لي أن انعتها بالقاصرة لأنّها قصّرت عن رؤية المحتوى الإنساني في الأساطير وفي الدّين. ويمكن القول إنّ هذا العقل قد أنشأ نظريّاته -خاصّة النّظريّات العلميّة منها- وبنى فكرة أنّ العالَم قابل للإدراك كليّاً عن طريق العقل لأنّ الإنسانيّة يقودها العقل. وإذ هذا العقل المتحكّم في كلّ شيء قد صار كأنّما توجّهه العناية الإلهيّة أو كأنّما تحكمه أسطورة أشبه بالدّينيّة»(5).
وبذا، فإنّ نقد ثقافة العقل القمعيّة، والإبانة عن دوافع الهيمنة المستبطنة خلف الأنساق المعرفيّة «العلميّة لدى أعضاء المدرسة؛ يُمثِّلان مقدمة معرفيّة نقديّة يتمّ التّوجّه بها بخاصّة لدى «هربرت ماركيوز «(Herbert Marcuse (1898 -1989» نحو جبهة أخرى، هي مناهضة الأنظمة الاجتماعيّة القائمة، أو التّحوّل من العقل النّظري إلى الممارسة الاجتماعيّة. وقد حدّد ماركيوز مقصداً دالاًّ في أثناء مساءلته لما يسميه «العقلانيّة التّكنولوجيّة»، هدف إلى إقامة البرهان على الطّابع الدّاخلي الأداتي النّزعة لهذه العقلانيّة، ذلك الطّابع الذي يجعل منها قبليّاً، وعلى نحوٍ مسبق تكنولوجيّاً، وبالتّالي إقامة البرهان على قبليّة التّكنولوجيا بوصفها شكلاً من أشكال الرّقابة والسّيطرة الاجتماعيّة»(6). فالتّقنية، وهي أوج الفكر العلمي، سيطرت على الطّبيعة وعلى الإنسان، سيطرة منهجيّة تتوسّل التّحسيب والتّجريب. وقد رفض ماركيوز الفصل بين مجالات المنهج العلمي ودوائر الاشتغال السّياسي؛ لأنّ القبليّة التّكنولوجيّة التي أشار إليها ما هي إلاّ قبليّة سياسيّة، من مصلحتها المنافحة عن «الوجود الموضوعي للأشياء»، بغية تبرير وجود المؤسّسات القائمة، وإعادة إنتاج النّظام القائم، ومضاعفة الإنتاجيّة تحت أقنعة الفكر العلمي. وتبعاً لهذا، فالصّلة وثيقة بين هذا الفكر العلمي وعالم التّفاعل الاجتماعي؛ إذ إنّهما يخضعان لمنطق واحد وعقلانيّة واحدة، إنّه منطق السّيطرة وعقلانيتها.
ويماثل ماركيوز بين العقلانيّة التّكنولوجيّة وأدوات الضّبط السّياسي وفقدان الحرّية في عالم اليوم، بقوله: «إنّ التّكنولوجيا المعاصرة تضفي صيغة عقلانيّة على ما يعانيه الإنسان من نقص في الحرّية، وتقيم البرهان على أنّه يستحيل «تقنياً» أن يكون الإنسان سيّد نفسه وأن يختار أسلوب حياته. وبالفعل، إنّ نقص الحرّية لا يطرح نفسه اليوم على أنّه واقعة لاعقلانيّة أو واقعة ذات صبغة سياسيّة، وإنّما يعبّر بالأحرى عن واقع أنّ الإنسان بات خاضعاً لجهاز تقني يزيد من رغد الحياة ورفاهيتها كما يزيد من إنتاجيّة العمل. إنّ العقلانيّة التّكنولوجيّة لا تضع شرعيّة السّيطرة موضع اتهام، وإنّما هي تحميها بالأحرى؛»(7) أي إنّ التّقنية والفكر العلمي النّاهم بالفعاليّة العقليّة يساوي جوهراً آخر هو جوهر العبوديّة المستديمة. وبعبارة أُخرى، فإنّ هذا الجوهر التّقني ألغى تجربة التأمّل المنسيّة، وألغى إمكانيّة إعادة بناء العقلانيّة بناءً نقديّاً. ومع أنّ النّقد الذي طال العقلانيّة التّكنولوجيّة يجد منابته لدى هيدجر، الذي ناقش مشكلة هذا التّصوّر التّجاري للتّقنية، وسمّاه بالتّصور الأداتي والأنثربولوجي للتّقنية،(8)فخلَّف ما يبدو عقلانيّاً وموضوعيّاً ومحايداً، إلاّ أنّ ثمّة إرادة قوّة كامنة تريد أن تُؤوِّل العالَم وَفق منظورها؛ تلبية لدوافع وحاجات معيّنة.
3. متتالية العلمانيّة والرّؤية العلمانيّة للوجود والتّاريخ:
كان من نتائج سلوك منهج العقلانيّة تنامي العلمنة التي أضحت لازمة من لوازم الحداثة الغربيّة، هذه العلمنة التي لم تتمكّن المسيحيّة من التّصدي لها، بسبب نفوذها في مجالات الفكر والحياة برمّتها، ونـزوع أغلب الفلاسفة –وفي مقدّمتهم ديكارت- إلى الثّقة بالوعي، ونظرة الإنسان المركزيّة إلى الكون، وانكفاء المسيحيّة على استكمال تأويل النّصوص التي -بسبب كثرتها- أفقدت النّصّ الأصلي قيمته وقداسته.
إنّ هذه العلمنة التي أفرزتها العقلانيّة لا تتعلّق بجوانب الحياة العامّة فحسب، بل امتدّت إلى دوائر الحياة الخاصّة وأمكنة القداسة بصورة خاصّة. فمفاهيم العلمانيّة الأولى كانت تحيل إلى فصل الدّين عن الدّولة. أمّا الشّؤون الأُخرى الخاصّة، كالأسرة وصلات التّراحم وأمكنة العبادة، فلا شأن للعلمانيّة بها. ولكنّ التّحليل التّاريخي يفيد بأنّ لهذا المفهوم ظروفه الخاصّة فيما يتعلّق ببنية الدّولة آنذاك.
ذلك أنّ الدّولة لها «مضمون تاريخي وحضاري محدّد، فهي تعني بالدّرجة الأولى المؤسّسات والإجراءات السّياسيّة والاقتصاديّة المباشرة. كما أنّ الدّولة في القرن التّاسع عشر حين وُضِعَ التّعريف، كانت دولة صغيرة وكياناً ضعيفاً، لا يتبعها جهاز أمني وتربوي وإعلامي ضخم (كما هو الحال الآن)، ولا يمكنها الوصول إلى المواطن في أيّ مكان وزمان. وكان كثير من مجالات الحياة لا يزال خارج سيطرة الدّولة، فكانت تديرها الجماعات المحليّة المختلفة، منطلقة من منظوماتها الدّينيّة والأخلاقيّة المختلفة. فالنّظام التّعليمي على سبيل المثال لم يكن بعد خاضعاً للدّولة، كما أنّ ما أسميه «قطاع اللّذة» (السّينما – وكالات السّياحة – أشكال التّرفيه المختلفة مثل التّليفزيون) لم يكن قد ظهر بعد. والإعلام لم يكن يتمتّع بالسّطوة والهيمنة التي يتمتع بهما في الوقت الحاضر»(9).
وبالفعل، فحركة العلمنة -إذا استقصينا التّعريفات التي أشرنا إليها في الفكرة السّابقة- امتدّت إلى رؤية العالَم والقيم. فالعلمنة لا تقتصر على الجوانب السّياسيّة والاجتماعيّة للحياة فحسب، ولكنّها تشمل أيضا وبالضّرورة الجوانب الثّقافيّة؛ إذ تعني «زوال وظيفة الدّين في تحديد رموز التّوحيد والاندماج الثّقافي للمجتمع»، وهي تعني «أنّ هناك مساراً تاريخيّاً لا رادّ له تقريباً هو الذي يتحرّر بمقتضاه المجتمع والثّقافة من الخضوع لوصاية الدّين والأنساق الميتافيزيقيّة المغلقة. والعلمنة تطوّر «تحرّري» وثمرتها النّهائيّة هي النّسبيّة التّاريخيّة، وهكذا فإنّ التّاريخ بالنّسبة إلى العلمانيّين عبارة عن سيرورة لتحقّق العلمنة. إنّ العناصر المكوّنة للعلمنة تتمثّل في عدم الانبهار بالطّبيعة وتحرير السّياسة من الدّين ونزع القداسة عن القيم»(10).
وبهذا، فقد جُرِّد الدّين والمرجعيّات المفارقة من أيّ سلطة لصوغ رؤى تفسيريّة للعالم، أو إمداد المُنظّرين بأسس تتعلّق بآليّات إدارة الشّؤون الاجتماعيّة والاقتصاديّة. والفكر الغربي بتبنّيه هذا التّأويل العلماني للعالم، وقع في دوّامة التّأويل اللامتناهي للأشياء، والالتحام بالأرض والصّيرورة، وهذا ما اصطلح الدّكتور عبد الوهاب المسيري على تسميته بـ «العلمانيّة الشّاملة»، التي برأيه هي «إيديولوجيّة كاسحة، لا يوجد فيها مجال للإنسان أو القيم،... وهي فصل القيم والغايات الدّينيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة عن الدّولة، وعن مرجعيّتها النّهائيّة، وعن حياة الإنسان العامّة والخّاصّة، وتطبيق القانون الطّبيعي، المادّي على كلّ مناحي الحياة، وتصفية أيّ ثنائيّة، بحيث يتمّ تسوية كلّ الظّواهر الإنسانيّة بالظّواهر الطّبيعيّة، فتنزع القداسة تماماً عن العالَم، ويتحوّل إلى مادّة استعماليّة»(11).
يتبين ممّا سبق أنّ العلمنة عملت على تحويل العالَم إلى مادّة استعماليّة وسوق رائج للتّجارة بغرائز البشر، ويجد هذا المعنى دلالته في التنكُّر للقداسة، وتهميش (أو إلغاء) الوحي بوصفه مصدراً من مصادر المعرفة، والمفاضلة بين مصادر المعرفة وتقسيمها إلى حقائق متعارضة ومتنافرة؛ ما أدى إلى تدمير الحقيقة كأفق ورجاء قد لا نبلغه في عالمنا الذي نعيش، وهذا ما يذهب إليه بول ريكور.
مجمل القول، إنّ العقلانيّة التي جلبتها الحداثة الغربيّة إلى العالَم، هي مآلات لا ترتقي -بنظرنا- بالإنسان إلى المقاصد الكبرى التي تليق به؛ أي الارتقاء به إلى المراقي الرّوحيّة والنّفسيّة والمعرفيّة والعمرانيّة التي تكوّن الصّورة التّركيبيّة المتكاملة؛ ذلك أنّها ألغت عامل القداسة من حياة الإنسان. علماً بأنّ المقدّس هو «مصدر كلّ فاعليّة... [إنّه] يتمتّع بقدرة جذب سحرّية. قمّة الإغراء هو، وأقصى درجات الخطر؛ مرغوب يستحثّ الرّاغب على الجرأة والإقدام، ومرهوب يهيب بمن يُحاذيه إلى الرويّة والحذر... إنّ المقدس يشكّل طاقة خطيرة... شديدة الفاعليّة»(12).
ولكن، وعلى الرّغم من تجربة نموذج العقلانيّة الغربيّة، ونتيجة للثّقة المفرطة بهذه العقلانيّة وبمبادئها؛ فقد تعذّر عليها إدراك كيفيّة توظيف المقدّس، أو الالتحام بطاقته، ما أدّى إلى تآكُل هذا النّموذج العقلاني، وفقدان بريقه الأدبي، وتَشكُّل مناحٍ فلسفيّة احتجاجيّة ترفض هذا التّأويل العقلاني للعالم، وتُناهِض اختزاله في صورته المرّئيّة؛ إنّها كما سمّاها الأستاذ طه عبد الرحمن عقلانيّة مجرّدة، وهي بوجه خاص «عبارة عن خاصّية الفعل الإنساني الذي يقوم في السّعي إلى تحقيق مقاصد لا يقين في نفعها بوسائل لا يقين في نجوعها... إنّها تخلّ بشرط النّفع في المقاصد لوقوعها في النّسبيّة والفوضويّة والاسترقاق، كما تخلّ بشرط النّجوع في الوسائل لإقصائها المعاني الرّوحيّة واكتفائها بالظّواهر الخارجيّة واعتمادها للوسائط المادّية وحدها»(13)
من هنا، فإنّ المسلك الآمن لاجتراح أفق حداثي جديد لا يحاكي هذه التّجربة الغربيّة، هو وجوب النّظر فيها من زاويتين اثنتين: زاوية تلتزم مبدأ المسافة معها ومع منجزاتها الحضاريّة، وزاوية تفكّر في شقّ طرائق أُخرى لا تتعارض مع القداسة، ولا تركن إلى العلمنة، وتعيد بناء مفهوم جديد للعقل والعقلانيّة، يتنزّل العقل بمقتضى هذا البناء في مكانه الحقيقي، وتُعطى تبعاً لهذا دلالات أُخرى لمفهوم رؤية العالَم، وقيمة المعرفة والحقيقة، وجميع المفاهيم المتشعّبة عنها.
الهوامش
(1) نصر، سيد حسين. «نـزع القداسة عن المعرفة في الغرب»، المحجة، عدد20، شتاء-ربيع 2010م، ص155.
(2) المرجع السابق، ص166.
(3) Nietzsche F, La volonté de puissance tom 1, Trad.G. Bianquis,N R F Galimmard, 1948, § 197, p. 99.
(4) Ibid., § 190, p. 96.
(5) موران، إدغار. هل نسير إلى الهاوية؟، ترجمة: عبد الرحيم حزل، الدار البيضاء: إفريقيا الشرق، 2012م، ص38.
(6) ماركيوز، هربرت. الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة: جورج طرابيشي، بيروت: منشورات الآداب، 1988م، ص189.
(7) المرجع السابق، ص190-191.
(8) Voir, Heidegger Martin. Essais et conférence, trad. Andre bréau, Gallimard, Paris: 1958, p. 9.
(9) المسيري، عبد الوهاب. العلمانية والحداثة والعولمة (حوارات)، تحرير: سوزان حرفي، سوريا: دار الفكر، 2009م، ص104.
(10) العطاس، سيد محمد نقيب. مداخلات فلسفية في الإسلام والعلمانية، ترجمة: محمد طاهر الميساوي، ماليزيا-الأردن: دار الفجر، دار النفائس، 2000م، ص43.
(11) المسيري، عبد الوهاب. حلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر-سيرة غير ذاتية وغير موضوعية، القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2001م، ص299.
(12) كايوا، روجي. الإنسان والمقدس، ترجمة: سميرة رشا، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2010م، ص39-40.
(13) عبد الرحمن، سؤال الأخلاق، مرجع سابق، ص75.