الأولى

بقلم
فيصل العش
الحرية في القرآن الكريم رؤية أبي القاسم حاج حمد
 أبو القاسم حاج حمد مفكّر إسلامي جريء، سعى إلى تقديم قراءة معاصرة للنصّ الدّيني وخاصّة القرآن الكريم تجاوزت مناهج التّفسير التّراثي للقرآن وأدواته التّحليليّة ليس بحجّة أنّها خاطئة ولكن بحجّة أنّها تمثّل فترة زمنيّة معيّنة أطلق عليها اسم «العالميّة الإسلاميّة الأولى»، وحملت مؤلّفاته رؤية تجديديّة معاصرة، اعتمدت محدّدات منهجيّة جديدة تتلائم مع الفترة الزّمنيّة الحاليّة، والتي أطلق عليها تسمية«العالميّة الإسلاميّة الثانيّة». 
ولأنّ ما يهمّنا في هذا المقال رؤية أبو القاسم حاج حمد لمبحث الحرّية من خلال تفاعله مع القرآن الكريم، فإنّنا سنكتفي بالنّبش في مؤلّفاته التي لها علاقة بالموضوع وخاصّة كتابه «حرّية الإنسان في الإسلام» الذي تناول فيه مشكلة الحرّية بطريقة مختلفة عن غيره من المفكّرين الاسلاميّين وقدّم فهمًا جديدًا، يطرح وجهة نظر متميِّزة ومثيرة، معتمدا منهجا قرآنيّا يختلف عن سائر المناهج المعروفة، ينطلق من الوحدة العضويّة للوجود الكوني وحركته. وتعتمد هذه المنهجيّة(1) التي لا تقبل التّوفيق ولا التّوسُّط «على «الجمع بين القراءتين»(في القرآن ككتاب مسطور والكون ككتاب منظور) وفق مراتب مختلفة، ولكنّها متراتبة: تبدأ بفهم علاقة «ثنائيّة جدليّة» هي «الخالق- الخلق»، ثمّ تبحث في «جدليّة» الخالق والخلق؛ في إطار التّأليف بين القراءتين (المشيئة)، والتّوحيد بين القراءتين (الإرادة)، والدّمج بين القراءتين (الأمر). وهي مراتب متداخلة من الأدنى إلى الأعلى»(2).
يجزم الحاج حمد بدون تردّد وبعيدا عن المقاربة أو المقارنة(3) على أنّ الإسلام دين الحرّية، وأنّه لا يشجّع على حرّية الإنسان لأجل الحرّية فقط، بل يعتبرها سبيلًا لتحقيق إنسانيّته وشرطا لإبداعه وتطوّره. لهذا فإنّ القرآن -على خلاف مذاهب العالم التي تحدّد مفهوم حرّية الإنسان من زاوية علاقات الإنسان بغيره-  «ردّ مفهوم الحرّية إلى تكوين الإنسان نفسه، باعتباره الكائن المركّب على مقومات الحرّية ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونََ﴾(النحل:78). فهنا سمْع لا أذن، وبصر لا عين، وفؤاد لا مضخَّة في الصّدر، أي جعل مقومات الوعي التي تجعل الإنسان في حالة تدامج وتواجد. وما السّمع والبصر والفؤاد إلَّا أجنحة يحلِّق بها الإنسان في جوّ السّماء، ليستحوذ على الكون كلّه، وقد خلق اللّه له ما في الأرض جميعًا منه، فيندمج به، فقوّة الحرّية في الإنسان، إنّما تكمن في ذاته بمقومات التّفاعل مع الكون كلّه، والحرّية هي المدى الذي يبلغه الإنسان في القدرة على التّفاعل». ثمّ سهل اللّه المعنى، وضرب مثلًا ليوضّح هذا المعنى ﴿أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾(النحل:79).
مثال الطّير في جوّ السّماء، دلالة الحرّية في أرقى مناظرها المرئيّة بالعين النّاظرة، الطّائر بجناحين، والإنسان بثلاثة أجنحة، السّمع والبصر والفؤاد وفي الكون كلّه، وليعلم الإنسان من بعد أن أخرجه اللّه من بطن أمّه لا يعلم شيئًا، والطّائر رمز الحرّية في أدبنا المعاصر، فمن ذا الذي يفتري على اللّه كذبًا ويقيّد معنى الحرّية عند هذا الإنسان؟»(5).
 «والإنسان هو كائن مقوّماته الوعي الذي يسبح في فلك الكتاب المسطور والكتاب الكوني الطّبيعي كما حالة الطّير في جو السّماء، فالحرّية، قمّة الحرّية، أن يتجلّى الإنسان بالوعي حرًّا في هذا كلّه، فإن حجب نفسه وأسر نفسه، فإنّ اللّه يسأله» (6) .
***
إذن الحرّية في الإسلام، ترجع إلى الإنسان، فما الذي يميّز حرّية الفرد في المجتمع المسلم عن حرّيته في المجتمع اللّيبرالي مثلا؟. يجيبنا «حاج حمد» عن هذا السّؤال بقوله: «في المجتمع اللّيبرالي، تقيّد حرّية الفرد إلى أخلاق المنفعة الذّاتيّة، فالإنسان هو كائن منتج ثمّ مستهلك فقط، ويتطوّر بدافع الإشباع المادّي، فليس لدى هذا النّوع من المجتمعات سوى منع التّعارض مع حرّية الغير بنفس المعادلة. أمّا الحرّية الإسلاميّة فمقيّدة إلى أخلاق الرّوح لا إلى امتدادات الجسد الحسّي بالمنفعة اللّيبراليّة. ففي الإسلام يلتزم الإنسان بحرّية «البعد الرّابع» في تكوين الإنسان نفسه، فالبعد الأول هو البدن (وشبيهه الجماد)، والبعد الثّاني هو النّبات (وفيه التطوّر من الجماد إلى الحواس)، والبعد الثّالث هو البهيمة والأنعام (وفيه التطوّر من الحواس إلى النّفس). أمّا البعد الرّابع فهو الرّوح. فالرّوح سلطة فوق النّفس والحواس والبدن، هي ناهٍ للنّفس التي تحرّك فيها الحواس دوافع المنفعة واللّذة الفرديّة، فتقيّدها إلى منظور آخر في التّعامل. فالإسلام لا يبيح لك أن تستجيب للمنفعة واللّذة حيثما اتَّفق أو حيثما وجدتها، ولو كانت مشروعة بالعرف اللّيبرالي»(7).
ذلك أنّ الإنسان يتميّز عن العوالم الأخرى، الحيوان والنّبات والجماد، بأنّه كائن راشد ومكلّف ولا يتأتّى له ذلك إلاّ بكمال الحرّيّة على جميع مستوياتها الكونيّة، ووفق ذلك يتحمّل جميع تبعاته ومسؤوليّاته.
وعلى الرّغم من تأسيسه لمفهوم الحرّية من منطلق ديني، فهو يحيل ذلك إلى تكوين الإنسان، المادّي والرّوحي، لهذا فإنّ الحرّية برأيه «مقيّدة إلى أخلاق الرّوح» لا إلى امتدادات الجسد الحسّي بالمنفعة اللّيبراليّة. ومن خلال ربط حاج حمد الحرّية بنفخة الرّوح بإطلاق الوعي الإنساني كونيًّا يتحدَّد العمود الفقري لمسألة الحرّية في الإسلام عنده.  
الحرّية في القرآن -حسب حاج حمد- إذن هي حرّية روحيّة تنطلق في مفهومها من قيمة الإنسان بوصفه كائنًا يملك مقوّمات الوعي (السّمع والبصر والفؤاد)والتي تعلو بالرّوح على النّفس. ويرتبط مسار الإنسان في الدّنيا والآخرة بمدى تفعيله لمقومات وعيه. ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾(الإسراء:36) . يقول الحاج حمد :«القيمة الرّوحيّة للإنسان، مع ترقيه بقوى الإدراك، تجعل الإنسان متجاوزًا في تكوينه خصائص المادّة الطّبيعيّة وحركتها، وبالتّالي فقد طلب إلى الإنسان أن يخضع الطّبيعة له لا أن يخضع لها هو، وهذا هو مضمون «الاستخلاف»، ومن هنا تأتي التّشريعات الرّوحيّة المفارقة لنوازع الإنسان الطّبيعيّة، إذ تصبح الرّوح هي النّاهية للنّفس الطّبيعية الأمَّارة بالسوء»(8) . والحرّية الإسلاميّة هي «حرّية روحيّة أساسها السّلم وليس تقنين الصّراع بوجهه الدّيموقراطي اللّيبرالي، لأنّ علاقات النّاس في المجتمع المسلم لا تتقوّم بحدود المنفعة، وإنّما تخضع لضوابط التّشريع الاقتصادي والاجتماعي التي تعامل الإنسان كإنسان وتربطه بمسؤوليّة الرّأي -سمعًا وبصرًا وفؤادًا- بالكتاب –الإمام- وتنتهي لديه إلى قاعدة اجتماعيّة غير متناحرة طبقيًّا»(9). والحرّية بالمفهوم القرآني ليست حكرا على المؤمنين وإنّما هي للنّاس كافّة. لذلك كان الخطاب القرآني موجّها للإنسان بصفة عامّة  ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ﴾(البقرة :208)
والقرآن الكريم -حسب حاج حمد -شرّع أبواب الحرّية وأعطى للمفهوم بعداً حضاريّاً وإنسانيّاً...إذ لا يقتصر المعنى الرّوحي للحرّية على ضمان الحرّية الذّاتية للإنسان كفرد، بل تشعره بأهمّيته من خلال وعيه لذاته ودوره ومسؤوليّاته تجاه الكون المسخّر له، هنا تأخذ الحرّية بعداً آخر غير تقليدي عندما تفسح الطّريق للإنسان ليعطي بكامل وعيه وإدراكه من تجربته وإبداعه للتّجربة الإنسانيّة الكونيّة، فيبقى الإنسان بذلك في حركيّة وحيويّة مستمرّة لا تعرف الخمود والكسل، انطلاقاً من معركة العقل الحرّ المنفتح على الآخر.. 
***
تتجسّد حرّية الإنسان في علاقته مع الخالق من جهة وعلاقته مع الكون المسخّر له من جهة أخرى. أمّا من حيث علاقته بخالقه فهي علاقة عبوديّة لكنّها عبوديّة تتناقض مع عبوديّة المسترق المملوك للبشر. «فقد نهى اللّه بشدّة معنى استلاب الحرّية الإنسانيّة وذلك حين حذّر من ممثالة علاقة العبد بالعبد المسترق والمملوك للبشر، فقد اعتبر اللّه العليم الحكيم هذه المماثلة ضربا بالمثل بالجهل ﴿فَلَا تَضْرِبُواْ لِلَّهِ ٱلْأَمْثَالَ إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾(النحل :74) ثمّ يحدّد الفارق بين العبوديتين، عبوديّة البشر للّه وعبوديّة المسترق المملوك لمالكه البشري: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَّا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾(النحل :75) (...) العلاقة بين المالك الإلهي والعبد البشري علاقة تقوم على العطاء والوعي والحرّية في التملّك والتصرّف، وهذه قواعد نقيضة تماما لعلاقة المالك البشري  بعبيده» (10)
ويضيف الحاج حمد موضّحا عبودية البشر للّه فيقول : « هنا يصبح شعور العبد البشري بالانتماء للعبوديّة الرّبانيّة شعورا «طوعيّا» أو إراديّا حرّا لأن الإنسان مقوم بالوعي وحرية الإرادة وذلك خلافا لإبداء العبودية قسرا في حال المملوك للمالك البشري، فقد ترك اللّه الناس لممارسة  حرية إرادتهم في تحسس العلاقة به» (11)
 وأمّا في علاقته بالكون فهي تقوم على تفوّق إرادته الحرّة على المشيئة الطبيعيّة «فحين نأخذ بمفهوم الحرّية الروحيّة الإسلاميّة، فالإنسان عوضا من أن يكون في نظامه مجرّد انعكاس للبناءات التحتيّة، تكون هذه البناءات خاضة لإرادته، أي أنّ الإرادة تعلو على المشيئة المفسّرة جدليّا وماديّا» (12) ويشير  حاج حمد « أنّ الإسلام لا يلغي فلسفيّا قوانين علم المشيئة، فالتّفاحة تظل تسقط، وإنّما يلغي خضوع إرادة الإنسان لهذه المشيئة الطّبيعيّة، ويطلب من الإنسان التّعالي بإرادته ليعود ويتحكّم في اتجاهات ونتائج الصّيرورة والحركة في عالم المشيئة (13).
***
يدافع أبو القاسم حاج حمد عن حرّية الرأي والاعتقاد ويرى أنّ «اللّه تعالى الذي أطلق الحرّية للإنسان ملزمًا إياه استخدام السّمع والبصر والفؤاد، قد شرع لأن تنال هذه الحرّية أقصى مدى، وبما يفوق حدود وسقف الحرّية اللّيبراليّة الدّيمقراطية نفسها في مجال إبداء الرّأي، فما حدَّ اللّه حرّية الحواس إلَّا ليُعطي الإنسان حرّية الوعي»(14). ويستدل بقوله تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ * إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾(الغاشية:21-26) فعلاقة المسلم بغيره ممن يناقضه بأفكاره هي علاقة تذكير، أي محاورة ومجادلة حسنة لا غير.
ويربط الحرّية بشرط العدالة ويجعلها -أي الحرّية- أداة فرز بين من يقف مع الإسلام ومن يقف ضده، فيقول : « فالحرّية والعدالة صنوان، وما فسدت الحرّية وقُمعت إلاّ عبر تسلّط بالطّبقيّة الجائرة. ومن هنا فإنّ معركة الفرز التي لا توسّط فيها تتحدّد دوما بمدى ما تتسلّط فئة معيّنة على مجتمع ما. فالذي يحدّد الـ «مع» والـ «ضد» في مفهوم التّغيير الإسلامي هو ميزان «الحريّة»... فمن هو مع الحرّية هو مع الإسلام ومن هو ضدّها هو ضدّ الإسلام»(15).
وبناء على استقرائه لآيات القرآن الكريم، رفض حاج حمد بشدّة ترتيب أيّة عقوبة جسديّة أو بدنيّة على المرتدّ، معتبرا أنّ القرآن الكريم أتى بنقيض ما يتصوّره الفقهاء فيما يختص بالموقف من الأفكار التي يُقوِّمها البعض بأنّها «منحرفة» أو حتّى «مرتدة» عن الدّين. معتبرا أنّ مواقف الفقهاء ما هي إلاّ انحراف عن جوهر القرآن وهي  مواقف تاريخيّة ملتبسة بأحداث سياسيّة وصراعات مذهبيّة.
ويحذّر الحاج حمد انطلاقا من القرآن الكريم من مبطلات «الحرّية» الإنسانية الذاتيّة والموضوعيّة ويدعو إلى مقاومتها فيقول: « هناك إبطالان أو تعطيلان لحالة الحرّية الإنسانيّة في الإسلام  يحذّر اللّه العزيز الحكيم منهما : الحالة الأولى هي حالة «إبطال ذاتي» يقوم به الإنسان نفسه حين يستخفّ بمقومات الوعي لديه من سمع وبصر وفؤاد فيتّبع (يقفو) ما لم يحكّم فيه مقومات وعيه، فالإنسان مسؤول عن الموقف في كل صغيرة وكبيرة(راجع الإسراء:36). الحالة الثانية هي حالة «الإبطال الموضوعي» التي تجهض القيمة الذاتية لحرّية الإنسان حين تربط مفهوميّا إلى القيود الفلسفيّة للنظام الإجتماعي في شكل المفهوم «الطّبقي» للحرية ومفهوم «النظام-الدولة»، فهذه الأشكال الإجتماعيّة تقولب - من قالب- حرّية النّشاط الذّهني الواعي للإنسان وتُجهض قيمة وعيه الذاتية». فالإسلام يرفض أن يؤطّر أي نظام نهجَ مقومات الوعي وقدراته الذاتية عند الإنسان. يشير اللّه إلى هذا الجانب من الإبطال الموضوعي المقيّد إلى نهج الأنظمة بحالة الإستخفاف الوارد في قوله تعالى: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾(الزخرف:54). فالاستخفاف هنا -بحسب حاج حمد- تعطيل لمقوّمات وعي الإنسان، إذ يقول: «وقد ربط اللّه ما بين الاستخفاف والفسق، بمعنى أن القابل لأن يستخفّ بعقله هو الفاسق. وخطورة هذه الآية أنها لا تؤكّد على لزوم ممارسة الحرّية فقط، لكنّها أيضًا تؤكّد على ضرورة ألَّا يخضع المسلم في اتخاذ قراره لموحيات أو مؤثّرات لا تحتكم إلى الوعي. وتدخل هنا جملة من العوامل الكثيرة المعروفة التي تجتذب النّاس لاتّخاذ قرارات غير موضوعيّة، ومنها ما هو في حالتنا التّاريخيّة الأيديولوجيّة الرّاهنة ما يمسّ الاجتذاب بالتّأثير الاتِّباعي فيقفو الإنسان (يتبع) ما يقال له باستناده إلى سلف صالح من دون أن يستوثق منه بقدرات ومقومات وعيه»(16).
لقد أبدى الحاج حمد حرصًا على التميّز في التّعامل مع مفهوم الحرّية، وقدّم لنا فهما يختلف عنه في المجال التّداولي الآخر، سواء كان إسلاميّا أو غربيّا، مرتكزا على ما جاء في القرآن بصفته المرجع الأساسي للمسلم، فكانت «الحرّية الرّوحيّة» التي يعتبرها «أسمى وأرفع نوع من الحرّية لمن يدرك حقائقها مباشرة من القرآن ومن دون توسّط أولئك الذين يجعلون الاجتهاد مقيّدا إلى شروط تسبق الاجتهاد» (17).
الهوامش
(1) المنهجيّة التي يقصدها هي التي يحدّدها بقوله: «هي النّظام الشّمولي للكون في وحدة مظاهره المتكاثرة، والتي لا تَقبل أشكالًا جزئيّة من المعرفة المادّية أو الوضعيّة أو اللاّهوتيّة، ولا تجزِّئ بين نظرات القوانين بتقيُّد استخدامها في مجالات دون أخرى؛ ما وراء الطّبيعة، وعلوم الإنسان، وعلوم الطّبيعة، وإنّما تضع الحركة الكونيّة كلّها، ما يفهم أنّه وراء الطّبيعة (الغيب) وما يفهم أنّه خاصّ بالإنسان (علم النّفس والاجتماع) وما يفهم أنه خاصّ بالطّبيعة المادّية (علوم الطّبيعة التّجريبيّة والتّطبيقيّة)، تضع ذلك في كلٍّ واحد متحرّك بجدليّة الغيب والإنسان والطّبيعة، وضمن صيرورة خلق وتشيؤ بتطوريّة غائيّة، فتصنيفنا الإسلامي المنهجي للعلوم الكونيّة الشّموليّة، يقوم على أخذ الكون في وحدته وتوزيع موضوعاته على مراتب المعرفة الثّلاث وتفرّعاتها الأحد عشر، وبهذه المنهجيّة الإسلاميّة نحيط بالعلوم جميعًا، خلافًا لتصنيفات العلوم الوضعيّة الرّاهنة والمنبثقة من الجهد الحضاري الإنساني المحدود، فالقرآن هنا هو الذي يحيط ويصنف وضعه المعادل بالوعي للوجود الكوني وحركته وغاياته» منهجيّة القرآن المعرفيّة؛ أسلمة فلسفة العلوم الطبيعيّة والإنسانيّة، حاج حمد، محمد أبو القاسم، دار الهادي، ط1، سنة 1424هـ-2003م، ص ص237-238. 
(2) منهجيّة القرآن المعرفيّة؛ أسلمة فلسفة العلوم الطّبيعيّة والإنسانيّة، حاج حمد، محمد أبو القاسم، دار الهادي، ط1، سنة 1424هـ-2003م، ص 236.
(3) المقاربة التّجديديّة التي اتجهت إلى محايثة حرّية الإسلام بالحرّية الدّيموقراطيّة اللّيبراليّة الأوروبيّة الغربيّة الصّناعيّة، والمقارنة المنطلقة من «مثاليّة» المبادئ المجترحة من الإسلام على نحو تميّزه بعدالة إنسانيّة اجتماعيّة لا هي بالرّأسماليّة ولا هي بالاشتراكيّة وبتأثّر نزعة «الدّفاع ضدّ اللّهو» اللّيبراليّة التي انتهت إلى تجريد المجتمع من حرّية التّشريع وتنسيب مبدأ «الحاكميّة» للّه عبر فئة تتمثّل هذه الحاكميّة في تشريعات القرآن، وتأخذ بالشّورى في حدود الجماعة. وقيل في هذا الصّدد إنّ القرآن هو «دستور الإسلام»: أنظر: أبو القاسم حاج حمد، الحرّية في الإسلام، بيروت: دار الساقي، ط الأولى، 2012م، ص19.
(5) أبو القاسم حاج حمد، الحرية في الإسلام، م.س، ص41.
(6) نفسه  ص43.
(7) نفسه  ص45-46.
(8) نفسه  ص 49.
(9) نفسه  ص 47.
(10) نفسه  ص 102-103.
(11) نفسه  ص 103.
(12) نفسه  ص 61.
(13) نفسه  ص 62.
(14) نفسه  ص 50.
(15) نفسه  ص 82.
(16) نفسه  ص 49-50.
(17) نفسه  ص 110.