مرايا

بقلم
عبدالقادر رالة
المجتمع القسنطيني في كتابات المفكر مالك بن نبي
 لعب الاستعمار الفرنسي دوراً كبيراً وخطيراً في تمزيق المجتمع القسنطيني وتدميره، منذ اللّحظات الأولى التي سقطت فيها مدينة قسنطينة سنة 1837م، ولقد استهلّ مالك بن نبي مذكّراته الرّائعة «مذكرات شاهد للقرن» بهذا الدّور التّخريبي التدميري، إذ تحدّث بتأثّر عن جدّته الأولى، التي كانت إحدى الصّبايا  اللّواتي كن يفررن من العساكر الفرنسيّين وهم يستبيحون المدينة العريقة: « ففي ذلك اليوم لم يعد لعائلات قسنطينة من همّ، سوى إنقاذ شرفهم، وخاصّة تلك العائلات التي كانت تكثر فيها الصّبايا، فقد أخلوا المدينة من جهة وادي الرّمل ّ»(1)  « فبينما كان الفرنسيون يدخلون المدينة من كوّة في السور كانت صبايا المدينة يُسرع بهن أباؤهن إلى الجهة الأخرى منه يتدلين هرباً ، وكثيراً ما كانت تتقطع بهن الحبال  فتلقى بالعذارى في هوة المنحدر»(2). ولقد أثّرت في مالك الطّفل تلك القصص المروّعة التي كانت ترويها جدّته زليخة، ابنة تلك الجدّة الأولى التي كانت إحدى تلك الصّبايا ...
لقد ضرب الاستعمار الفرنسي العائلات القسنطينية في الصّميم، إذ قام بتشريد المواطنين، وتقتيل الأبرياء ومصادرة الأملاك، ولكن وحتّى وإن انهارت المقاومة العسكريّة المادّيّة فإنّ المدينة استمرّت تُقاوم اجتماعياً ونفسياً ...
كتب مالك بن نبي عن التّغييرات التي طرأت والمقاومة التي استمرت ضدّ تلك التّغييرات، في العادات والتقاليد، ومراسيم الأعراس والجنائز، والختان والأعياد الدينية، وتأسّف وهو يتحدّث عن طفولته لاختفاء بعض العادات والمظاهر الاجتماعيّة وظهور أخرى. ورغم سطوة الاستعمار والغلاء فإنّ العائلات الكبيرة استمرت تُقاوم وتحاول الحفاظ على تلك القيم والعادات التي كان متعارفا عليها في المجتمع القسنطيني قبل الغزو الفرنسي ... كتب مالك عن تلك المراسيم فقال: « كل ذلك كانت تقيمه عائلات المدينة في أبهة كما كان يجري في الماضي، مع أنّ مواردها لم تعد تسمح بذلك. ولو شاءت عائلة أن تزوّج ابناً أو بنتاً لها، لاضطرت لأن تبيع بيتها، لتقوم بالمراسيم المعتادة التي تليق بها»(3)
ومن الطبيعي أن تتأثّر الحياة الاقتصاديّة بالظّروف الجديدة التي أنتجها استعمار غاشم ماكر استهدف الإنسان والأرض والثّروات، وهذا أمر مألوف ويتكرّر في تاريخنا الوطني، أو حتّى في تاريخ الأمم والشّعوب الأخرى إذ تختفي طبقات وتظهر أخرى.« لقد لفّ الغلاء الحياة في المدينة فهدم طبقة قديمة تعيش على موارد الأرض والحرف التّقليديّة، ورفع على أنقاضها بفضل المضاربة طبقة من الأثرياء الجدد تعيش على التّجارة. لقد أذن ذلك العصر بأفول العائلات القديمة لقسنطينة وأضحى الحظّ الاقتصادي الجديد يفرض تحوّلاً في العقلية وفي مظاهر الحياة»(4) حتى لعب الأطفال التي كان يلعبُ بها الطّفل مالك، أو يلعب بها أولاد مدينة قسنطينة تميزت بمميّزات تخصّ هذه المدينة وحدها ، وكتب المفكر مالك بن نبي عن ذلك مقارناً إيّاها باللّعب التي يُلعب بها في مكان أخر ؛ في مدينة تبسة: « فأطفال مدينتي الأولى قسنطينة أكثر رفاهيّة وبالتّالي فقد كانت لعبهم أكثر أناقة ورقة»(5)
ولم يستطع الاستعمار أن يمْحُو قيمْ الشّعب الجزائري وتقاليده، وسكّان قسنطينة من هذا الشّعب. كتب مالك فرحاً ومفتخرا بالإنسانيّة والفعاليّة « فمن الأهمّية القصوى بمكان أن نلاحظ بعض الأطباء في قسنطينة قد خصّصوا كلّ أسبوع يوماً اجتماعيّاً لصالح الشّعب الفقير. وهذا دليل على اتجاه جديد»(6)    
تلك التّحوّلات التي كانت تتعرضُ لها مدينة قسنطينة أحيانا بعنف، وأحياناً بهدوء، كان لها الأثر العميق والبعيد في الطّفل مالك بن نبي، وفي تفكيره وتوجّهه العقلي فيما بعد لمّا أضحى طالباً يدرس أو فيلسوفاً يُحلّل ويُناقش .. وحينما انتقل الى مدينة تبسة كان دائم الحنين الى قسنطينة...فنجده يقول: «في الواقع منذ أمدٍ بعيد كنت أتمنّى العودة الى قسنطينة»(7). بل واعتبر عودته إليها مجدداً انتصاراً(8)
وما أجملها و أروعها من مقارنة بين حياته في تبسة، وعودته الى قسنطينة إذ كتب « وباختصار فإنّي أتصوّر أنّ فلاحاً صغيراً يأتي من الرّيف الى باريس في اللّيل، لم يكن انطباعه عمّا استولى على نفسي في تلك السّاعة»(9) « فمالك في تبسة كان يرى الأمور من زاوية الطّبيعة والبساطة، أمّا في قسنطينة فأخذ يرى الأشياء من زاوية المجتمع والحضارة واضعاً في هذه الكلمات محتوى عربيّاً وأوربيّاً في آن واحد»(10)، لذلك استمرت في وجدان الكاتب. وقد كتب عن ذلك بكلّ وضوح فقال:« ولهذا فقد ظلّت قسنطينة تستقطب تفكيري طيلة سنوات طفولتي»(11) 
ومن التّحولات الكبيرة التي صاحبت سقوط قسنطينة واحتلالها من طرف الفرنسيّين ظهور طبقتين جديدتين سبّبتا الآلام للشّعب الجزائري هما طبقة الأوربيّين الوافدين الجدد، وطبقة اليهود المتأصّلين في المجتمع القسنطيني، وقد تسبّب ظهورهما في تغيير البنية الاجتماعيّة لمدينة قسنطينة وظهور الكثير من الآفات والقيم السلبيّة بين القسنطينيّين، وقد كتب عن ذلك مالك بن نبي. وقد رفض القسنطينيّون الاستعمار بشدّة، فمالك بن نبي يذكر جده لوالده «الذي هجر الجزائر المستعمَرة ليلجأ الى طرابلس الغرب، فقد هاجر مع الموجة الأولى من الهجرة، التي اجتاحت حوالي  1908 مدناً كثيرة كقسنطينة وتلمسان، تعبيرا عن رفض الأهالي معايشة المستعمرين، والذي يعدّ البذرة الأولى لكثير من الأحداث السّياسيّة التي جرت فيما بعد، وخصوصاً ذلك الشّعور بضرورة مقاومة المستعمر الذي تفجّر في الفاتح من نوفمبر سنة 1954»(12) « وكانت الألفة في قسنطينة بين المسلمين واليهود تسود طيلة القرون قبل الاستعمار، ثمّ بدأت الحياة تتعكّر بالتّدريج على حساب المسلمين بسبب أذى اليهود لهم، حتّى أصبح صريحاً كتحديات مقصودة »(13)  وأشار مالك بن نبي الى دور اليهود الاقتصادي بالدّرجة الأولى كمرابين« كان اليهود يقرضون بفوائد كبيرة »(14)، والدور السّياسي إذ اختاروا الوقوف بجانب المستعمرين من معمّرين أوروبيّين أو فرنسيّين ضدّ الجزائرييّن الذين عاشوا بينهم معزّزين مكرمين  لقرون عديدة...«  فأصبحت حوانيت اليهود عبارة عن وساطة لانتقال الملكيّة من أيدي الجزائريين الى أيدي  المعمّرين »(15) 
وكتب مالك بن نبي عن الطّرق الصّوفيّة  في أكثر من موضع من كتبه، لما لها من تأثير روحي نفسي، وتوجيه اجتماعي، بل إنّه كان يرتاد حلقاتها ومجالسها في طفولته، وقد اشتهرت مدينة قسنطينة بوجود الطّريقة العيساويّة. «وكانت الطّريقة العيساويّة ذات رعاية من أهل قسنطينة وخاصّة التجار، أمّا العماريّة فكان مريدوها من الباعة المتجوّلين وسائقي العربات والخيول ورماة الجيش المقيمين في ثكنة المدينة»(16) وكان جده بين الحين والأخر يصحبه إلى « الزّاوية العيساويّة التي كان أحد أركانها، وكانت تحيي كلّ سبت حلقة من الذّكر تعرض فيها الكرامات المدهشة والعجائب»(17) 
ومن المتعارف عليه تاريخياً أنّ الطّرق الصوفيّة بجميع مدارسها وشيوخها ومُريديها في الجزائر أو في باقي الدّول العربيّة( والإسلاميّة ) لعبت دوراً بارزاً وكبيراً في مقارعة الاستعمار، ورفض كلّ أشكال الاحتلال الماديّة، أو الرّوحية أو الاجتماعيّة...
وقد أورد لنا مالك بن نبي قصّة بطوليّة، لأحد مريدي الطّريقة العيساويّة اسمه بوشلوح، «فالعيساوية في جانبها البطولي، ففي ذلك العصر كان الحديث كثيرا عن مآثر شابّ خارج عن القانون ولجأ إلى أودية وممرّات وادي الرّمل، كان يُدعى (بوشلوح) ، لقد كان بطلاً يملأ خيال المراهقين قبل نومهم. لقد جنّدتْ له الإدارة الفرنسيّة أفضل رجالها خشية أن تملأ المدينة أسطورته البطوليّة، غير أنّ(بوشلوح) كان دائماً يحبط خططهم، إذ حُوصر مرّة في فندق فتسلّل هارباً من نافذته عبر مجرى للماء يأخذ مياه المدينة إلى أسفل وادي الرّمل ، ومن هنا اختفى بأعجوبة ، وكانت هذه الأسطورة تُذكّى خيال الطّفل مالك بن نبي وتغذيه »(18). « لقد أثارت محاكمة (بوشلوح) - بعد القبض عليه - الشّعور في قسنطينة حين انتشرت كلمته إلى رئيس المحكمة الذي نطق بحكم الإعدام «إنكم تحكمون على المقعد الذي أجلس عليه، أما أنا فإنّكم لا تستطيعون أن تحكموا علي»»(19) 
أمّا الفن الغنائي، فكانت مدينة قسنطينة تشتهر ولا تزال بالمالوف، غير أنّ مالك تنبّه الى الفنّ المشرقي الذي بدأ يزحف ببطء نحو المدينة وبالأخص بين الشّباب وطلبة المدارس، وهذا الغناء كان ذا طابع فنّي ترفيهي في البداية ثمّ تحوّل الى قومي وحدوي،  إذ كتب قائلا: « وفي الوقت الذي كان فيه الذّوق الأوروبي (يتأمرك) أخذ ذوقنا نحن الجزائريين (يتمصّر) ولعلّ من ميزات ذلك الزّمن أنّ الأسطوانة المصريّة لم تكن قد بدأت في خلق مشاكل أمام الإدارة المُستعمرة»(20) «غير أنّه في قسنطينة كان النّاس لا يزالون مع المالوف»(21).
ولقد أفرد الفيلسوف مالك بن نبي حيزا واسعاً للمقاهي لما كان لها من دور في تحريك الحياة الثّقافيّة والسّياسيّة في المدينة، وبالأخص في فترة ما بعد الحرب العالميّة الأولى، وهذا الدّور في الحقيقة لم تلعبه المقاهي في قسنطينة فحسب وإنّما في كامل القطر الوطني، إذ فيها كانت تُروّج جميع الأفكار وتُناقش الآراء المختلفة، وفي العموم كان روّادها من المثقّفين والطّلبة والتّجّار والأعيان وحتّى طلبة العلم الشّرعي!. وكان «مقهى بن يمينة» أهم المقاهي في مدينة قسنطينة إذ لعب دوراً كبيراً ومحوريّاً في تنشيط الحركة الثّقافيّة والسّياسيّة  ، وقد كان مالك بن نبي من روّادها الدّائمين .. أمّا الأحاديث والنّقاشات فيها فمتنوعة، ومتشعّبة ومتباينة؛ أحاديث عن الحرب العالمية الأولى، وأحاديث عن الهند والصّين النائيتان، وعن حرب الرّيف، وعن الملاكمة، وعن ظلم الإدارة الفرنسيّة ...ويبدو أن المقهى استمدت مكانتها ودورها من قربها من مكتب العلامة الشّيخ عبد الحميد بن باديس رائد الإصلاح والتجديد في الجزائر .. وعن ذلك كتب مالك « وفي النّهاية أصبح مقهى بن يمينة  الحيّ العام للمدرّسين (أي الطّلاب)، وعلى بعد خطوات منها كان مكتب الشّيخ (بن باديس)»(22)«وكان مرور تلاميذ الشّيخ بن باديس أمام مقهى بن يمينة يُوثق عُرى الصّلات بيننا وبينهم»(23)   « كان الحديث في مقهى( بن يمينة ) بالعربيّة والفرنسيّة ، أمّا في مكتب الشّيخ فمن الطّبيعي أن يكون الحديث بعربيّة فصيحة ، أمّا في المدينة فلم تكن اللّغة لا عربيّة ولا فرنسيّة، إنّها لغة محلية»(24)«وكان هناك صالون أدبي في مقهى (بوعبريط) وكان طلاّب الثانوية يجلسون معاً ليتناقشوا في موضوع سياسي أو حول أهمّ حدث في ذلك( اليوم)»(25)
أمّا المكتبات فقد تردّد ذكر اسم مكتبة النّجاح في أكثر من موضع من كتبه، وهي المكتبة التي كان يحصل منها على الكتب الفرنسيّة أو العربيّة هو وزملاؤه « إذ اعتادوا التردّد عليها من آن لآخر، فيتعرّفون على ما جدّ من نتاج الأدب العربي»(26)
لم تكن قسنطينة في معزل عن العالم، وإنّما كانت على اتصال دائم بأحداث العالم الإسلامي الكبيرة مثل الحرب العالميّة الأولى مثلاً إذ كانت حديث النّاس في المقاهي والكتاتيب وفي كلّ مكان، وكان دخول تركيا الحرب يعني الكثيرين. كتب مالك عن ذلك:«دخلت تركيا الى جانب ألمانيا والنمسا، فهذا الحدث وضع موضوع الحرب على الصّعيد الدّينّي لأنّ خليفة المسلمين في إسطنبول أصبح الآن طرفاً فيها ...»(27) « لقد كان لمعركة الدّردنيل في قسنطينة دويّ كبير خاصّة في الوسط اليهودي »(28)
الهوامش
(1)  مالك بن نبي ،مذكرات شاهد للقرن ،ص15
(2) نفس المرجع ، ص15
(3)  نفس المرجع ، ص17
(4)  نفس المرجع ،ص34
(5) نفس المرجع ، ص 22
(6) مالك بن نبي ، وجهة العالم الإسلامي ،ص 73
(7) مالك بن نبي ، مذكرات شاهد  للقرن ، ص 31
(8) نفس المرجع ، ص31
(9)  نفس المرجع ، ص 32
(10)  نفس المرجع ،ص36
(11)  نفس المرجع ،ص20
(12)  نفس المرجع ، ص16
(13) نفس المرجع ، ص317
(14)  نفس المرجع ،ص 112
(15) نفس المرجع ، ص112
(16)  نفس المرجع ،ص 49
(17) نفس المرجع ، ص33
(18) نفس المرجع ،ص54
(19)  نفس المرجع ،ص55،54
(20)  نفس المرجع ،ص 102
(21)  نفس المرجع ،ص 101
(22)  نفس المرجع ،ص 85
(23)  نفس المرجع ،ص 85
(24) نفس المرجع ، ص 92
(25)  نفس المرجع ، ص 63
(26)  نفس المرجع ، ص 109
(27)  نفس المرجع ، ص 34
(28)  نفس المرجع ، ص 34