فواصل

بقلم
د.عماد هميسي
التعايش السلمي في التصوّر القرآني وأثره في ترسيخ القيم الحضارية (الحلقة الخامسة: الأسس المنضوية في ا
 الأسس المنضوية في الأصل الإيماني العقدي
أ)  مبدأ تكريم الإنسان: 
إنّ تكريم الإنسان هو تكريم وجودي، مرتبط بحقيقة الجنس البشري في تعمير الأرض والعيش فيها بسلام وتسامح نبيل. يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ (الإسراء :70). 
فالتّكريم المقصود في الآية الكريمة عام لكلّ البشر باعتبار وحدتهم في حقيقة الإنسانيّة بقطع النّظر عن أيّ انتماء كان. وهنا التّكريم له تجلياته : 
أوّلا: التكريم في أصل الخلق: يقول اللّه تعالى: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾ (التين :4). 
أي لهم مكانة رفيعة عند العوالم الرّوحيّة العلويّة، مكانة اشرأبت إليها أعناق الملائكة وتطاولت إليها نفوسهم فما بلغوها. تكريم خصّ اللّه تعالى به الإنسان فيه تتجلّى مظاهر الرّفعة والعزّة علوّ شأن وانتقاء أي من أيّ معنى من معاني الخّسة والذلّ والابتذال. ولعّل أول مظاهر التّكريم للذّات البشريّة هي تلك الصّورة الحيّة التي قدّمها القرآن الكريم والتي يأمر فيها اللّه تعالى الملائكة بالسّجود له عند تسويته والنّفخ فيه. يقول اللّه تعالى : ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ (الحجر :29) 
 إنّ سجود الملائكة للإنسان المتمثّل في آدم عليه السّلام هو تشريف له، والعقاب الشّديد الذي ناله إبليس دالّ على القيمة العليا لهذا الكائن الجديد وعلوّ شأنه عند اللّه تعالى، بل ذهب  البعض إلى القول بأنّ عدم احترام هذه الذّات الإنسانيّة إنّما هو الشرّ ذاته (1). 
والتّعبير بالخلق باليدين هو كناية عن التّشريف والتّعظيم لمخلوق على نحو قولك: «إنّ الأمير باشر الأمر بيديه» إذا رأيت تصوير أهمّيته وعلوّ شأنه. لقد ركّب اللّه تعالى الإنسان على هيئة ماديّة رفيعة مكّنته من حفظ نفسه والسّعيّ بها نحو التّرقّي المستمرّ في تحقيق  العزّة والرّفعة، أمّا تكريمه على المستوى الرّوحي فهو اشتماله على نفخة من روح اللّه تعالى، هذا العنصر الرّوحي الزّائد على المادّي هو عنصر تكويني رفيع القيمة والشّأن.
وجملة القول إنّ اللّه تعالى أكدّ على أنّ الخلق كان في أحسن تقويم، ويتجلّى ذلك في خلقه وتركيبه على النّحو الفائق في تركيبه الجسماني البالغ في الدّقة والتّعقيد أو في تكوينه العقلي الفريد أو في تكوينه الرّوحي العجيب. وفي معنى يقاربه جاء في تفسير المنار «أنّ اللّه تعالى أصلح حال البشر بنظام الفطرة  وكمال الخلقة وما آتاهم من القوى العقليّة، وما أودع في خلق الأرض من السّنن  الحكيمة، وما  بعث به الرّسل من مكملات الفطرة» (2) 
وبناء على هذا التّكريم للذّات الإنسانيّة بحسب أصل الخلقة، فإنّ القرآن الكريم يلزم بمعاملة الإنسان معاملة كريمة في كلّ الظروف ويمنع امتهانها وابتذالها، وفي هذا النطاق جاء منع التّعذيب والتّشويه وأيّ نوع من أنواع الاحتقار والتّمييز والعنصريّة، بل جاء التّشريع بالحريّة والعدل وضمان حقوقٍ عريضةٍ لم تعرف التّشريعات الوضعيّة مثيلا لها بما في ذلك مواثيق حقوق الإنسان  في العصر الحديث. ولا شكّ أنّ ذلك كان مدخلا أساسيّا من مداخل النّاس إلى الإسلام حتّى انتشر ذلك الانتشار الكبير في المدّة الوجيزة (3). 
ثانيا: تسخير الكون للإنسان: 
مرّة أخرى ينطلق بنا القرآن الكريم إلى زاوية أخرى من زوايا الإنسان وهي استحضار منافع الكون، واستثمارها، فالكون كما صرّح القرآن الكريم  مسخّر للإنسان ومذلّل له وهي فكرة مردّدة في كلّ مناسبة يعرض فيها  جانبا  أو جزءا من هذا الكون،  وحقيقة طالما أكّدتها الآيات القرآنيّة لتستقرّ في النّفوس. يقول اللّه تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ (الجاثية :13)
وهذا سائر فيما يرد ذكره من البحار والكواكب من الشّمس والقمر والنّجوم، كلّ في إطار الانتفاع والاستثمار والتّسخير، أي أنّ اللّه تعالى خلق المادّة الكونيّة ابتداء لصالح حفظ حياة الإنسان وتنميته. وقد سمّى القرآن الكريم هذا النّشاط الإنساني للانتفاع بنعم اللّه تعالى والتي بعضها ظاهر قريب التّناول وبعضها خفيّ يحتاج إلى عمل وجهد واستخراج.
 وبالإضافة إلى مظاهر التّسخير الماديّ للكون لصالح الإنسان، فإنّه سُخّر له أيضا تسخيرا معرفيّا أي إنبناؤه على قوانين إلهيّة ثابتة لا تتغيّر، ممّا يسمح للعقل الإنساني أن يرصدها و يتأمّلها ويتفكرّها، فيعرف بالتّالي حقائق الموجودات  الكونيّة وذلك أوّل  طريق الاستفادة منها  وحسن استثمارها (4). يقول اللّه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ (الانشقاق :6). 
ثالثا: الاستخلاف في الأرض:  
مكّن القرآن الكريم الإنسان من آداء رسالة في إعمار الأرض وصلاحها وبناء الحضارة الإنسانيّة وإنماء الحياة بالعلم والعمل والعمران، فالإنسان خلق في هذه الأرض ليجسد إرادة اللّه تعالى وحكمته  في الأرض وهي الإحياء ووضع عالم الخير والنّعيم على هذه الأرض، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المهمّة على لسان النبيّ صالح عليه السّـلام فقـال تعـالى :﴿ وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ﴾ (هود :61). 
يقول ابن عاشور في هذا الصدد: «لا جرم أنّ اللّه تعالى أراد من الشّرائع كمال الإنسان وضبط نظامه الاجتماعي في مختلف عصوره وتلك حكمة إنشائه» (5). يقول اللّه تعالى : ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ (المؤمنون :115). 
وحينما يستقرّ هذا المعنى في ذهن المؤمن، فإنّه ينطلق تلقائيّا إلى العمل على جلب ما به تكون السّعادة ودفع ما يكون به الشّقاء، بل إنّ استقرار هذا المعنى في نفس كلّ فرد من شأنه أن يجعل مجموع المسلمين يسعون إلى إسعاد الإنسانيّة جمعاء وإنقاذها من البؤس المادي والمعنوي، فكأنّما وضع اللّه تعالى قلم الأقدار في يد الإنسان وهو خليفته في الأرض ليخطّ في حدود حدّدها له، وتلك سلطة عظيمة تستلزم المسؤوليّة أمام من نحتها بقدر ما أعطى من القدرة. يقول اللّه تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا  وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ (الملك :2). ويقول الرّسول ﷺ: «أعملوا فكلّ ميّسر لما خلق له».
ولنا أن نقارن ذلك مع فلسفات وأديان تقوم على اعتبار الوجود الإنساني ضربا من العبثيّة التي لا غاية لها ولا حكمة فيها، أو هو ضرب من العقاب له والانتقام منه، أو صدفة مادّية عمياء قذفت به بين ملايين الحشرات والحيوانات والموجودات في الكون. حينها يقع الاستهتار بالإنسان والاعتداء عليه والاستهانة به، وقد بدا ذلك جليّا في الاستعمار الذي كان في كثير من الأحيان إباديّا، وفي الأنظمة الاستبدادية التي مارست القمع والترهيب على شعوبها. وشتّان في الأثر الحضاري بين فكرة تقوم على الوجود الإنساني سببه التّفضّل عليه بالخير والسّعادة وبين فكرة تقوم على أنّ وجوده عبث أو صدفة عمياء. فالأولى ثمرتها  توجه حضاري إنقاذي تجاه الإنسانيّة  بينما  الثانيّة  ثمرتها توجّه حضاري استهتاري استبدادي انعزالي. ففيها تتجمّع المآسي والآفات وتنتهي إلى الدّمار الشّامل وهذا ما حصل، ومازال يحصل، في البشريّة بأشكال مختلفة،  ففرعون تكبّر وطغى، وتألّه بسلطانه، وقال أنا ربّكم الأعلى، واضطهد شعبه واستعبده،  وقارون  بغى على قومه وتألّه عليهم بماله، فكانت  عاقبتهما الهلاك. كما تألّه رجال الدّين من الأحبار والرّهبان(6) فكان ما كان من الثّورة عليهم في تاريخ المسيحيّة في أوروبا. وهكذا يفصح القرآن الكريم عن الدّور الحضاري والعمراني للإنسان ويحدّد مسؤوليته الحياتيّة على سطح الأرض المتمثّلة في إعمارها واستثمار خيراتها وملئها بالعلم والعمل الصّالح، وتوظيف طاقات الإنسان جميعها في مجال الخير والبناء، فينفع النّاس والمجتمع والإنسانيّة جمعاء في نطاق التّعاون الهادف لعمارة الأرض (7).
رابعا:الحرّية الدّينيّة: 
تمثل الحرّيّة الدينيّة قاعدة كبرى من قواعد شريعة الإسلام وركيزة عظيمة من ركائز سياستها في مجال حقوق الإنسان وسمة من أبرز السّمات التي قامت عليها الدّعوة الإسلاميّة، وتتبيّن هذه الكلمة بسائر تصاريفها في اللّسان العربي على معان فاضلة ترجع إلى معنى التّخلّص من الشّوائب أو الرّق أو اللّؤم. ومعناه أن تعيش الأمّة عيشة راضيّة تحت ظلّ ثابت من المنّ على قرار مكّنه من الاطمئنان. ومن لوازم ذلك أن يُعطي لكلّ من الأفراد حدّ لا يتجاوزه وتقرّر له حقوق لا تعوقه عن استيفائها يد غالبة. والمقصود بالحريّة الدّينيّة حرّية الاعتقاد وهي مكفولة للجميع. فاللّه  جلّ في علاه لم يبعث محمدا ﷺ إلاّ شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إليه بإذنه وسراجا منيرا (8).
فقد أقرّ الإسلام بوضوح حريّة المعتقد، ولم يمنع أحدا من اعتناق الدّين والدّخول إليه، وترك القرآن الكريم الباب واسعا لكلّ النّاس في حريّة الاختيار والمشيئة دون جبر أو إكراه لا فرق بينهم في ذلك. يقول اللّه تعالى :﴿ ..فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ...﴾ (الكهف :29) 
ويتجلى من خلال هذا الوجه المشرق لهذا الدّين وتسامحه مع جميع البشر، ومنحه حرّية المعتقد لغير المسلمين سواء كانوا من أهل الكتاب أو مجوسا، لأنّ الإيمان ليس كلمة تنطق باللّسان فقط أو طقوسا متعارفا عليها تؤدّي بالأبدان بل هي إقرار بالقلب وإذعان وتسليم حتّى يكون دليلا بالحجّة والبرهان وليس بالإلزام والإكراه. وقد نصّت الفقرة 60 من العهد النبوّي على أنّه: «لا يجبر أحد من كان على ملّة النّصرانيّة كرها على الإسلام»(9). 
ولقد تعايش الإسلام مع أصحاب الأديان المخالفة، ولم يكتف بذلك فقط بل أباح لهم ضمن تشريعاته السّمحة ممارسة شعائرهم والحفاظ على أماكن عبادتهم تحقيقا للعيش الإنساني المشترك بينهم وبين المسلمين وترسيخا للأمن والسلام داخل وطن المدينة المنورة. يقول القرطبي: «ولا يحلّ لمسلم  أن يسبّ صلبانهم ولا دينهم ولا كنائسهم»، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك لأنّه بمنزلة  البحث على المعصيّة»(10).
ولم يحمل الإسلام السّيف  ليكره النّاس على اعتناق  عقيدته، ولم ينتشر بالسّيف على هذا المعنى كما يردّد  بعض العلمانيين، وإنما جاهد ليقيم نظاما آمنا يأمن في ظلّه أصحاب العقائد جميعا ويعيشون في إطاره خاضعين له وإن لم يعتنقوا عقيدته، إذ المجتمع أخوّة وتسامح وإنسانيّة. فقوله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ...﴾ (البقرة :256) نزلت في رجال من الصحّابة كان لهم أولاد قد تهوّدوا وتنصّروا قبل الإسلام، فلما جاء أسلم الآباء وأرادوا إكراه أولادهم على الدّين، فنهاهم اللّه تعالى عن ذلك حتّى يكونوا هم الذين يختارون الدّخول فيه (11). 
ومن الأدلّة على التّسامح في إثبات حريّة المعتقد في سيرة النّبيّ ﷺ نجد وثيقة المدينة عند الهجرة، فقد أثبت النّبيّ ﷺ هذا المبدأ في أوّل وثيقة دستوريّة أعلنها إذ نصّت في إحدى بنودها على حريّة العقيدة الدّينيّة وممّا جاء فيها: «وإنّ يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم  وللمسلمين دينهم  مواليهم  وأنفسهم إلاّ من ظلم وأثم فإنّه لا يوقع إلاّ نفسه وأهل بيته. وإنّ ليهود (12) بني النّجار مثل ما ليهود بني عوف. وإنّ ليهود الحار بمثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني ساعدة ما ليهود بني عوف». وهذا لعمري قمّة التّسامح و الاعتراف بالآخر. وكان من بين ما غنم المسلمون من يهود خيبر عدّة صحف من التّوراة، فطلب اليهود ردّها، فأمر الرّسول ﷺ تسليمها لهم ولم يصنع ما صنع  الرّومان حينما فتحوا أرشليم وأحرقوا الكتب المقدّسة وداسوها بأرجلهم، و لا ما صنع النّصاري في حروب اضطهاد اليهود في الأندلس حين أحرقوا صحف التّوراة، ولا كما فعل التّتار بكتب المسلمين إذ ألقوها في نهر دجلة حتّى أسودّ، ولا كما فعل رتشارد قلب الأسد يوم قتل ثلاثة آلاف أسير مسلم بعدما أعطاهم الأمان، ولا كما فعل الإسبان بالمسلمين في محاكم التّفتيش، ولا كما فعل  بعض القساوسة الأمريكان لمّا أحرقوا المصاحف ومزّقوها أمام كنائسهم.
كذلك تعامل النبيّ ﷺ بالحسنى مع النّصارى حيث فتح لوفد النّصارى سنة 10 هـ/ 631 م أبواب مسجده ﷺ بالمدينة المنورة، فصلّوا فيه صلاتهم موالين وجوههم قبل المشرق، ثمّ تركهم وما يدينون. وذلك مبدأ أساسي في ديننا الحنيف الذي يدعو إلى التّعايش السّلمي بين فئات المجتمع بمختلف عقائدها وأجناسها وأصولها (13) 
أمّا عن حفظ العدل، فنذكر معاملة خلفائه من بعده لأتباع الأديان الأخرى على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم بالقسط والعدل والوفاء بحقوقهم والإنصاف لهم ممّن ظلموا طبقا للتّوجيه الإلهي:﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (المائدة :42). 
يقول ابن عبد البر:«وإن تظالموا بينهم زجرهم الحاكم وقمعهم وأخذ لضعيفهم من قويهم ولمظلومهم من ظالمهم، ولا يدعهم يظلموا بعضهم بعضا، فهو ما يجب عليه من الوفاء لهم بعدهم» (14) 
ومن الصّور الجميلة التي تظهر حقيقة التّعايش في حريّة المعتقد، ما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنّه في معاهدته لأهل القدس، فقد كتب لأهل إيلياء:«هذا ما أعطى عبد اللّه عمر رضي اللّه عنه أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسقيمهم وبريئهم وسائر ملّتهم، أنّه لا تُسكن كنائسهم  ولا تُهدم  ولا يُنتقص منها ولا من حيّزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم ولا يضارّ أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود» (15) 
ونستشفّ هذا  التّعايش أيضا من خلال الصّلح الذي عقده خالد بن الوليد رضي اللّه عنه مع الرّوم عندما  فتح الشّام، وممّا جاء فيه : «ألاّ يهدم لهم بيعة ولا كنيسة، وعلى أن يضربوا نواقيسهم في أيّ ساعة شاؤوا من ليل أو نهار، إلاّ في أوقات الصّلاة، وعلى أن يخرجوا الصّلبان في أيّام عيدهم» (16)
ومن ثمّ فإنّ التّعايش السّلمي في المنهاج القرآني قضيّة أخلاقيّة وقيمة  إنسانيّة وضرورة  عالميّة  وسبيل لتدبير الاختلاف وإدارته، فرسالة  الإسلام عالميّة تتّجه إلى النّاس كافّة، رسالة  تأمر بإقامة العدل وتنهى عن الظّلم والفحشاء  والمنكر، وترسي دعائم السّلام العالمي والأمن  الاجتماعي في الأوطان، وتدعو إلى التّعايش مع النّاس جميعا بغض النّظر عن أصولهم ولغاتهم وأعرافهم، فهم جميعا من أصل واحد ونفس   إنسانيّة واحدة. يقول اللّه تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ (النساء :1). 
يقول غوستاف لوبون: «إنّ مسامحة محمد لليهود والنّصارى كانت عظيمة إلى الغاية، وإنّه لم يقع بمثلها في مؤسّسة  الأديان التي ظهرت قبله كاليهوديّة والنّصرانيّة على وجه الخصوص، وسار خلفاؤه على سنّته، وقد اعترف بذلك التّسامح بعض علماء أوروبا المرتابون أو المؤمنون القليلون الذين أمعنوا النّظر في تاريخ العرب» (17). 
وغاية المرام في تحقيق المقام أنّ التاريخ لم يحفظ أنّ أمّة سوّت رعاياها المخالفين لها في دينها برعاياها الأصليّين مثل أمّة المسلمين، تصوّر ذلك قوانين العدالة ونوال حظوظ الحياة بقاعدة: « لهم مالنا وعليهم ما علينا» (18).
فكان المسلمون مع الجميع على أحسن  ما يعامل به العشير عشيره، فتعلّموا منهم وعلّموهم، وترجموا كتب علومهم وجعلوا لهم الحريّة في إقامة رسومهم واستبقوا لهم عوائدهم المتولّدة عن أديانهم.
الهوامش
(1) بوازار ( مارسيل) : إنسانيّة الإسلام – منشورات دار الآداب - 1400 هـ / 1980 م – بيروت، ص 79 
       بنت الشاطئ ( عائشة) : القرآن وقضايا الإنسان – دار العلم للملايين – ط 4 – 1401 هـ /1981 م – لبنان،  ص34 .
(2) رشيد  رضا ( محمد) : تفسير المنار ، دار المعرفة للنشر و الطباعة – 3 ط – بيروت – لبنان – 8/464.
(3)  السباعي ( مصطفى) : من روائع حضارتنا  دار الوراق للنشر و التوزيع- ط 1- 1420 هـ /1990 م - ص61 وما بعدها.
(4) المبارك (محمد): نظام الإسلام العثماني في العصر الحديث،  دار العالمية للكتاب الإسلامي، 26 - 1416 هـ/1995 م – السعوديّة ص.ص 32، 33
(5) ابن عاشور : التحرير و التنوير – 27/27 
(6) البخاري الصّحيح – كتاب القدر باب وكان أمر  الله قدرا مقدورا 4/ 505 حديث رقم 231 .
(7) كامو ( ألبير) : الإنسان  المتمرد- منشورات عويجات - ط3 1403 /1983 م – بيروت – باريس- 7 / كرم (يوسف) : الفلسفة اليونانيّة طبعة القاهرة – 1356 هـ /1986 م – 108 / المبارك (محمد) : نظام الإسلام  العثماني في العصر الحديث  - ص.ص40 - 42   
(8) المطيعيني (عبد العظيم) : مبادئ التعايش والتسامح في الإسلام منهجا وسيرة – دار الفتح للإعلام العربي -1417 هـ/1996-ص64 
(9) حميد الله (محمد) : مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة  الراشدة – دار النفائس  ط6 -1407 هـ/ 1987 م - ص188
(10) القرطبي : الجامع الأحكام القرآن – 7/61
(11) ابن قيم الجوزية: هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى، دار القلم،دار الشامية - ط1 - 1416 هـ/1996 م – السعودية ص237 
(12) ابن كثير : البداية  والنهاية – دار الهجر  للطباعة  و النشر و التوزيع و الإعلام – ط1 1418 هــــ/1997 م- 3/255.
(13) خليف ( خالد ) : السيرة النبويّة  وبناء الدولة من التكوين إلى التمكين – دار الكلمة- ط 2 – 1436 هــ/2015م – مصر.
(14)  ابن عبد البرّ : الكافي  في فقه أهل المدينة – مكتبة الريّاض الحديثة – ط 2 – 1400هـ/1980 م -المملكة العربية السعوديّة – 1/484 .
  الطبري : تاريخ الرسّل والملوك  - دار التراث ط2-1387 هــ- بيروت -3/609 
(16)حميد الله (محمد) مجموعة الوثائق السياسيّة للعهد النبويّ والخلافة الراشدة -288 
(17) لوبون (غوستاف) : حضارة العرب – دار إحياء الكتب العربية – ط3 -1956 م – القاهرة128 .
(18) ابن عاشور: أصول النظام الاجتماعي – الشركة التونسية للتوزيع – 1977 -233 -234 .