بحثا عن المشترك

بقلم
أ.د.احميده النيفر
تونس العالمة بوحديبة، جعيط، الفرجاني و آخرون
 لم تنقض خمسة أشهر عن إعلان الاستقلال السّياسي للبلاد التّونسيّة في مارس 1956 حتّى أصدر الوزير الأكبر رئيس الحكومة في صيف ذات العام مرسوما له فاعليّة القانون يُعرف بمجلّة الأحوال الشّخصيّة. تمّ بمقتضى هذا النّصّ القانوني منع تعدّد الزّوجات و إقرار معاقبة كلّ من يخترق هذا المنع بعقوبة جزائيّة، كما أقرّ المساواة الكاملة بين الزّوجين في كلّ ما يتعلّق بأسباب الطّلاق وإجراءاته وآثاره فضلا عن تنظيم شؤون الحضانة والنّسب والميراث والأهليّة من حجر ورشد. 
الهامّ في هذا الأمر الذي وُضع لمعالجة قانونيّة للواقع الاجتماعي المتعلّق بالأسرة والمرأة أنّ غايته لم تكن مقتصرة على رفع المظالم التي كانت مسلطة على عدّة نساء ومهدّدة لأسر بمخاطر التّفكّك. مثل هذا السّعي كانت قد انتبهت إليه عدّة أطراف قبل الاستقلال بسنوات  لضرورته، ذلك ما جعل أحد أعلام الزّيتونة، الشّيخ عبد العزيز جعيط، عند تولّيه وزارة العدل يحرّر لائحة في هذه الوجهة لإصلاح الأحوال الشّخصيّة على مقتضى المذهبين المالكي والحنفي. 
ما حدّد طبيعة المجلة الجديدة هو أنّها كانت إشارة انطلاق لإرساء مشروع تحديثي يرمي إلى تغييرات مجتمعيّة قائمة على تصوّر يرتكز على قيمتي التقدّم والعقلانيّة، مصاغتين حصريّا ضمن الأفق الحضاري الغربي. لذلك ينبغي أن تُُقرأ مجلة الأحوال الشّخصيّة ضمن مشروع شامل ورؤية كاملة ستعمل الحكومة على وضعها موضع التّنفيذ لتنتهي إلى  تقويض المجتمع التّقليدي بكافّة عناصره. 
ما شهدته تونس في السّنوات القليلة التي أعقبت الاستقلال كان ثورة في المجتمع قامت بها الدّولة بعد أن غدت حاملة لرسالة تحديث شملت الأسرة والتّعليم والثّقافة والاقتصاد. 
لكنّ المفارقة الكبرى لهذه الثّورة أنّها ظلّت تسعى إلى غاياتها على قدم واحدة، فكان التّحديث الشّامل للمجتمع بمؤسّساته ونظمه وقيمه لكن بالإعراض عن أيّة حداثة سياسيّة. لذلك لم تأبه قيادة الدّولة منذ البداية وحتّى نهاية السّبعينات بكلّ ناقد لخياراتها الكبرى وقراراتها السّياسيّة الجوهريّة، فلم تسع إلى تنظيم علاقة شرعيّة مع سائر المعترضين. انفردت بالسّلطة والقرار وظلّت تعتبر أنّها أدرى بالمصلحة العامّة وأقدر على تحقيق التّحديث بمفردها دون سائر الأطراف. 
ما نريد أن ننبّه إليه في هذا التّوجه هو اعتماده على فكر سياسي ذي نزعة شَعبوية (populiste)، كان يواجه بها أنصاره و المختلفين معه. يقتضي هذا النّمط من الفكر اتجاها سياسيّا يولّي الزّعامة القياديّة الفذّة المدعومة بقاعدة حزبيّة ذات إيديولوجية تعبويّة أهمّيةً قصوى إزاء الاعتبارات الفكريّة والنّظرية والنّقديّة. هو اتجاه «براجماتي» يعلي من شأن الممارسة والفعل، ولا يخفي توجّسه من النّخب والمفكرين لاعتقاده أنّهم يحتقرون الشّعب، مستودعَ الحقيقة في نظره.   
من أخطر تبعات هذا التوجّه هو تضييق الخناق على الحياة الفكرية الأمر الذي زاد في انحسار جهود العلماء والباحثين خاصّة تلك التي كان يمكن أن تظهر من داخل المؤسّسة الزّيتونيّة والتي تتمثّل قيمة التقدّم من داخل موروثها الحضاري والقِيَمي. 
ما عرفته تونس العالِمة طوال العشريتين اللّتين تلتا الاستقلال السّياسي كانت حالة من الضّمور والانزواء حاول القائمون على الشّأن الثّقافي الرّسمي معالجتها دون بلوغ النّتائج المرجوّة. ذلك أنّ القيادة كانت آنذاك لا تولّي أهميّة تُُذكر للنّخب الفكريّة فضلا عن ازدرائها بتلك المنحدرة من المؤسّسة الزّيتونيّة التي كانت تقلّل من شأنها، فتصفها أحيانا بأنّها « جواد خاسر»، أو تسعى إلى استلحاقها اتقاء تضامنها مع الخصوم السّياسيين. 
لا غرابة إذن إن ذهبت دعوات المفكّر محجوب بن ميلاد للحوار الفكري و«تحريك السّواكن» سُدى. كان، وهو من رموز تونس العالِمة في ذلك الطّور، يقول في فصل بعنوان «ضرورة تحقيق الانقلاب العقلي في سبيل بناء المسلم الجديد» من كتاب «في سبل السُنة الإسلامية» الصادر سنة 1962، إنّ:«أخصّ خصائص العهد الجديد الذي هو عهد تونس الجديدة إنّما هو روح الثّورة العنيفة الشّاملة على التّقليد وعلى أوضاع التّقليد لما اتسمت به من الذّهول المطلق عن نواميس الحياة في تطوّرها المتّصل، فهذه الثّورة يجب أن تكون أعنف ما تكون وأشمل ما تكون في الميدان التّربوي». ما أثير في هذا الكتاب من قضايا اللّغة والعقيدة والتّصوّف ومناهج التّفكير الدّيني والفلسفي بقي على أهمّيته وعمقه دون مجيب لأنّ الرّهان السّياسي الرّسمي كان غير مبالٍ بالتّجديد الفكري، فلم يسع إلى توفير الشّروط الموضوعيّة له. 
ذلك ما يؤكّده هشام جعيط حين وصّف تلك الخيارات التّحديثيّة السّياسيّة بأنّها «خيارات ثقافيّة في نهاية التّحليل وأنّها متّجهة نحو الغرب» وأنّه لم يقع «تبريرها ولم يقع الحوار حولها، فهي كالكابوس المسلّط على رؤوسنا».
شبيه بهذا نجده في دراسة لعياض بن عاشور صدرت سنة 1983 بعنوان «الإسلام المندثر والإسلام المستعاد» تناولت العوامل التي تفسّر بروز الحركة الإسلاميّة بتونس في سبعينات القرن الماضي. يقول الباحث الحقوقي بأنّ غاية الدّولة التّونسيّة الحديثة كانت منذ السّنوات الأولى هي «تفكيك الإسلام المؤسّساتي ممثَّلا في البنية الزّيتونيّة بكلّ الطّرق، وذلك بالحطّ من قيمتها، وإتلاف الرّوابط الفكريّة والاجتماعيّة والقيميّة التي تفرزها ضمن النّسيج المجتمعي التّونسي».
ما أنتجه رجال الفكر وخرّيجو الجامعة التّونسيّة في طور الاستقلال حتّى مطلع القرن الحادي والعشرين يظلّ في غالبه شاهدا على أنّ نبض تونس العالمة لم يتوقّف وإن بقي ضعيفا. ما تؤكّده جملة كتابات النّخب الجديدة من أمثال المسعدي والقليبي والشّملي ومزالي والفيتوري والسّويسي والدّشراوي وأحمد عبد السّلام هو أنّه ما كان لهم أن يتصدّروا تلك المكانة لولا تواصلهم النّقدي مع الماضي وفكره وحضارته.  ذلك ما جعلهم- رغم انقطاع صلتهم بالمؤسّسة الزّيتونيّة التي غدت غائبة- يتمثّلون بصورة جديدة حضورها من خلال رفضهم القطعَ التّاريخي مع التّراث. لكنّهم بقوا رغم ذلك في بوتقة مجموعة اجتماعيّة مستقلّة عن حياة المجتمع ومشاغله وتوجهاته. 
من هذه النّاحية الثانية، فإنّ الزّيتونة بخرّيجيها كانت حاضرة بما يشهد على أنّها كانت أقدر على اختراق هذا المدى الضّيق، إذ تجاوزت في جلّ أطوارها الممتدة مكانة المعهد العلمي الذي يصنع خريجوه فئةً منغلقة على نفسها. أهمّ ما حقّقته تلك المؤسّسة في أطوار نضجها هو تدعيمها لسُنّة ثقافيّة عريقة تعمل على تكوين نخب موحَّدة تؤطّر الحياة الفكريّة والاجتماعيّة والرّوحيّة لمختلف الفئات. لقد استطاعت بذلك أن تتحوّل إلى مرجعيّة تحقّق توازنا اجتماعيّا صعبا ومركز ثقل للنّسيج الثّقافي والفكري الذي يتخلّل أنحاء القطر التّونسي بل يتعدّاه إلى الجارين الجزائري واللّيبي. 
ما عاد بعد ذلك إلى الظّهور من نبض تونس العالمة ليتناول الإسلام حضارة وفكرا واعتقادا من أمثال بوحديبة وجعيط والفرجاني والآخرين يسترعي الانتباه لأنّه يلتقي رغم اختلاف مناهجه واهتماماته في القول بأنّ المثقّف مستقلٌ أو لا يكون. بذلك يصبح جانب من مهمّة المثقّف هو مناقشة الخيارات الحضاريّة والسّياسية والاجتماعيّة وتحليلها، لتقدير وجاهتها الفكريّة، وهل ينبغي قبولها أم لا. هو إن واصل على هذا الدّرب فستشخص أمامه ثانيةً شهادة المؤسّسة الزّيتونيّة التّاريخيّة بأبعادها وألقها.  عندئذ سيدرك أنّ صدام «المثقّف الموضوعي» بـ«الفقيه المفلس» أصبح غير مجدٍ لأنّه لا يفضي إلاّ إلى جدع الأنوف. إنّه الانتهاء إلى ما يعرف بـ« انتقام العضو المبتور» ذلك أنّ إلغاء جزء من الطّيف الثّقافي لحساب جزء آخر يؤدّي إلى إعاقة المنظومة الثّقافيّة ومزيد من عجزها عن مباشرة واعية للحظتها التّاريخيّة.  ذلك هو التحدّي الذي يواجه أقلام تونس العالمة في طورها الحالي لإنهاء دوامة الحلول الإقصائيّة المنطلقة من فكر آحادي يدّعي تفسير كلّ الظّواهر وتقديم كلّ الحلول لكلّ المشاكل.