نافذة على الفلسفة

بقلم
أ.د. عبدالرزاق بلقروز
من عقلانية الحداثة الغربية إلى عقلانية الإيمان التوحيدي: نحو حداثة إسلامية متصلة (1-5)
 مقدمة:
لئن شكّل العقل في النّشاط المعرفي والأخلاقي للإنسان قيمة حيويّة، فإنّه قد استحال إلى مَرجعيّةٍ قويّة في المشروع الحداثي الغربي، ومبدأ من مبادئه. وجرى الارتكاز على العقل لا في المعرفة فحسب، بل في الدّوائر والنّظم الاجتماعيّة والسّياسيّة والقانونيّة والتّكنولوجيّة، حتّى أضحى الملمحُ الجوهري للحداثة هو وحدة الحداثة والعقلانيّة. وتبعاً لذلك تبدّت ملامح حديثة في تصوّر العالَم والإنسان والحياة؛ إذ ليس من مُفردات معجم الحداثة العقلانيّة الكلام عن مشروع إلهي يحكم المملكة الإنسانيّة، أو عن أطر قوميّة تكون محدّدات للأنظمة الاجتماعيّة، إنّما بثّ أحكام العقل وأنشطته، وتوزيعها في قطاعات الحياة المتنوعة، وهو ملمح التّعقيل «l’intellectualisation» بما هو مبدأ وغاية في الآن نفسه. إنّ مؤدّى هذا أو مقتضاه كما يقول ألان توران «Alain Touraine» هو «إقصاء الحداثة كلَّ نزعة غائية، فالدّنيويّة وزوال السّحر... يعبّران عن قطيعة ضروريّة مع غائيّة الرّوح الدّينيّة التي تُنادي دائما بغاية التّاريخ، وتكون تحقيقاً كاملاً للمشروع الإلهي، أو فناءً لبشريّة فاسدة ومُتنكّرة لرسالتها...[ولهذا] ترتبط فكرة الحداثة ارتباطاً وثيقاً بالعقلنة. والتخلّي عن إحداها يعني استبعاد الأخرى»(1).
ونظراً لهذه الوحدة والمؤاخاة بين الحداثة والعقل، فإنّنا سندفع بسعينا التّحليلي إلى استعراض ظروف هذه الوحدة، وأسرار تحوّل العقل من مصدر محدود إلى نـزعة تفعلُ فعلَها في غيرها، لننعطف بعدها على استعراض المآلات المحمودة والمذمومة التي جلبتها نـزعة العقلانيّة إلى الإنسان والعالَم، ثمّ نفكّر بعدها في إرساء دعامة وفَهْم آخر للعقل، لا يقطع مع الوحي الإلهي، ولا يتنكّر للقداسة ولا يُلغي مصادرها، بقدر ما يتواشجُ العقل والإيمان في نظام جديد؛ بغية الخروج من الحداثة المنفصلة عن تسديد الوحي، والإقامة في الحداثة المتّصلة على النّحو الذي يتحدّد في سياق الممارسة الإسلاميّة.
وفي ما يأتي أقوى المسوّغات التي دفعت بنا إلى التّشاغل على مسألة العقل والعقلانيّة وحدود مرجعيتهما كما تبدّى لنا في سياق التّجربة الغربيّة، والدّفع -في المقابل- بجهدنا البحثي نحو الرّغبة في تطوير مرجعيّة الإيمان الإسلاميّة للممارسة العقلية:
- إنّ ثمّة تحوُّلاً منهجيًّا وتاريخيًّا في الحضارة الغربيّة، من العقل بوصفه مصدراً من مصادر المعرفة موصوفاً بالمحدوديّة والإجرائيّة والتّكامليّة مع مصادر أُخرى كالحسّ والوحي من أجل بلوغ الحقيقة، إلى العقلانيّة بوصفها نسقاً فكرانيّاً(2) لا يُعطي دلالة إلاّ للموضوعات التي تستجيب لمبادئه ووحداته المنهجيّة مثل: الملاحظة، والفرضيّة، والتّجربة، والصّياغة الكمّية للواقعة، والتّرييض (استخدام اللّغة الرّياضيّة)، وما لا يقع أو يستجيب لهذه المبادئ والمناهج فهو من جنس اللاّمعقول، ومن ثمّ لزم إقصاؤه.
- إنّ كلّ مَنْ تولّى النّظر في وسائل النّهوض بواقع العالَم الإسلامي والعربي لم يتردّد في جعل العقلانيّة على رأس هذه الوسائل، مُشيداً بفضائل المناهج العقليّة وفوائدها في تحصيل المطلوب من التقدُّم والتحضُّر.
- «إنّ هذه الدّعوة إلى العقلانيّة التي تشترك فيها الفئات الإسلاميّة والعربيّة، على تباين اختياراتها العقديّة، تزايدت في الشدّة والانتشار على مدى فترة استغرقت قرناً ونصفاً من الزّمن، وامتدت من منتصف القرن التّاسع عشر إلى نهاية القرن العشرين»(3).
- سَعْيُنا لنقد ظاهرة الغرور الإنساني التي أعلت من شأن العقل، وأضفت عليه كمالات الفعل الإلهي بحيث يَسُدُّ مسده، ويُغني عن الرّجوع إليه؛ ويتجلّى ذلك في الادعاءات العريضة للإنسان الحديث مثل «السّيادة على الطّبيعة»، و«كشف أسرار الحياة»، و«امتلاك أسباب القوّة التي لا حدّ لها»، و«تحقيق التقدُّم المُفضي إلى سعادة الإنسان»، و«إقامة أعدل نظام سياسي في العالَم»، و«التّحكُّم في مصير الإنسانيّة»، و«ضبط مسار التّاريخ ومآله» (4).
جليّة -إذن- المسوّغات التي دفعت بنا إلى مساءلة قيمة العقل والعقلانيّة، وبيان حدودهما كما تخلّقت في أنساق الثّقافة الغربيّة، وبسبب هذا لزم تطوير نموذج آخر للعقل والعقلانيّة في صلة تفاعليّة وجدليّة مع الإيمان التّوحيدي الإسلامي.
وحدة الحداثة الغربيّة والعقلانيّة: الظّروف والفضاءات
لا يأتي دمج مفردة الحداثة بالغرب في قولنا: «الحداثة الغربيّة»، من جانب حشر الحداثة في انتمائها الثّقافي وموطنها الأصلي على سبيل التّشهّي والتّحكُّم، إنّما يأتي من مسوّغ أنّ هذه الحداثة ليست كونيّة، بل هي غربيّة المنشأ والتّكوين، وأنّها تشرّبت قيم الغرب، بما هي قيم خصوصيّة لا قيم كونيّة. من هنا، لا يصح فهم ثقافة العقل والعقلانيّة إلاّ بإدراجها ضمن هذا المعنى. وحين نؤكّد أنّ ثمّة وحدة بين الحداثة والعقل والعقلانيّة، فإنّ مقصودنا بذلك أنّ العقل لم يكن في أنشطة الإنسان بما هو أداة إدراك؛ ولم يكن في صلة تقابليّة ضدّية مع الإيمان الدّيني، كما أنّ العقل كان متواضعاً، لا يتجاوز الأطر والحدود التي لا تنطبق على موضوعاته، خاصّة مع تجربة إيمانويل كانط «kant» النّقديّة التي وضعت العقل على المحكّ؛ إذ خضع لعمليّة تشريح لملكاته، وترسيم لحدوده، وبيان الاستعمالات المشروعة وغير المشروعة لهذه الملكات. يقول كانط في هذا المقام: «بما أنّ العقل الإنساني لا ينفكّ عن التّوق إلى الحرّية، فإنّه حين يكسّر قيوده، ينقلب حتماً إلى استعماله الأوّل لحرّيةٍ فَقَدَ منذ أمد طويل التعوُّد عليها، إلى مغالاة وثقة متهوّرة في استقلال قدرته عن كلّ قيد، وإلى اقتناع بالسُّلطة المطلقة للعقل التأمُّلي الخالص الذي لا يقبل شيئاً آخر سوى ما يمكن تبريره بمبادئ موضوعيّة وقناعة دوغمائية»(5).
وهذا التهوُّر -بعبارة كانط للعقل- هو مدار الاعتراض؛ لأنّه مع بداية مشروع الحداثة الغربيّة، الذي كان من مرتكزاته الثّقة بالعقل واستبعاد التّوجيه الدّيني، استحال العقل من مجرّد أداة إلى قوّة عليا يُحسب لها حسابها في أنشطة المعرفة والفعل الإنسانيّين، وصار للعقل وظيفة توسّعيّة تتمّ بمقتضياتها عقلنة فضاءات الحياة برمّتها، أو دوائر الثّقافة بمحدّداتها جميعاً: عقلنة الفكر الدّيني، وعقلنة الفكر السّياسي، وعقلنة أشكال التّنظيم الاجتماعي، وعقلنة الممارسة الأخلاقيّة. وبهذا الاعتبار «فإنّ نظريّة المعقوليّة يمكن وصفها بكونها إيديولوجيا العلم؛ لأنّها تقدّم مصفوفة من التّصوّرات تحدّد للعقل الإنساني الموقف الذي يقضي من منطلقه في كلّ أحداث العالَم والكيفيّة التي يقضي بها فيها»(6).
وتتجلّى فضاءات هذه العقلنة في:
1. عقلنة رؤية العالَم
2. عقلنة التّنظيرات الاجتماعيّة والسّياسيّة
3. عقلنة التّاريخ
4. عقلنة الدّين
سنخصّص الحلقة القادمة إن شاء اللّه للتوسّع في الحديث عن فضاءات العقلنة الغربيّة 
الهوامش
(1) توران، ألان. نقد الحداثة، ترجمة: عبد السلام الطويل، المغرب: إفريقيا الشرق، 2010م، ص15-16.
(2) استعملنا مفردة «فكرانية» من الفعل «فكّر» بوصفها مصدرًا صناعيًّا، مثل مفردة «عقلانية» من الفعل «عقل»، ولم نستخدم المصطلح الشائع «إيديولوجية»؛ لأنّه ليس جارياً على عادات العرب في التعبير والتبليغ، بخلاف لفظة «فكرانية» الموافقة لقواعد الصرف وأصول الاشتقاق. انظر:
- عبد الرحمن، طه. تجديد المنهج في تقويم التراث، المغرب-بيروت: المركز الثقافي العربي، 1994م، ص24-25.
(3) عبد الرحمن، طه. سؤال الأخلاق (مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية)، المغرب-بيروت: المركز الثقافي العربي، 2002م، ص60.
(4) عبد الرحمن، طه. روح الدين من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية، المغرب-بيروت، المركز الثقافي العربي، 2012م، ص46.
(5) كانط، إيمانويل. ما التوجه في التفكير؟، ترجمة: محمود بن جماعة، تونس: دار محمد علي للنشر، 2005م، ص113.
(6) أبسالون، أدموندس. الموجز في راهن الإشكاليات الفلسفية-مشكل غاية التأسيس وعقلانية الفلسفة، ترجمة: أبو يعرب المرزوقي، تونس: الدار المتوسطية للنشر، 2009م، ص23.