بحثا عن المشترك

بقلم
أ.د.احميده النيفر
الصيف ورقائق التصوّف
 لفصل الشّتاء حضور بارز فيما يروى عن أهل التّصوّف من رقائق مقارنةً بأيّ فصل آخر من فصول السّنة. برد الشّتاء وثلجه حبيبان للصّوفي اختبارا لنفسه وصدق إيمانه.
من ذلك قول بعضهم : «دخلتُ على بـِشر بن الحارث في يوم شديد البرد وقد تعرّى من الثّياب، فقلت: يا أبا نصر، النّاسُ يزيدون في الثّياب في مثل هذا اليوم وأنت قد نَـقَّصتَ. فقال : ذكرتُ الفقراء وما هم فيه ولم يكن لي ما أواسيهم به، فأردت أن أوافقهم بنفسي في مقاساة البرد».
أمّا أبو الحسن العلوي، تلميذ إبراهيم الخوّاص، فإنّه رأى شيخه بوسط الجامع والثّلج يقع عليه. فأدركه الإشفاق، وقال له: لو تحوّلتَ إلى الكنّ؟ فقال: لا. ثمّ أنشأ يقول :
قـد وضـح الطّـريق إليكَ قـصدا   **   فـمــا  أحـد  أرادك  يـستـدِلُّ
فإن ورد الشّتـاء فـفـيك صيـف  **    وإن وردالمصيف فـفـيك ظِـلُّ
ثمّ قال: «هات يدك. فناولته يدي، فأدخلها تحت خِرقته، فإذا هو يتصبّب عرقاً».
هذا شأنُهم هم في زمنهم لا يأخذون طريق التّصوّف، كما قال الجنيد :«عن القيل والقال. لكن عن الجوع وترك الدّنيا وقطع المألوفات والمستحسنات، لأنّ التّصوّف هو صفاء المعاملة مع اللّه تعالى، وأصله التّعزّف عن الدّنيا».
أمّا نحن في هذا الزّمان، فأحرى بنا أن نستحضر رقائق أهل التّصوّف وحكاياتهم وأشعارهم في فصل الصّيف خاصّة. هو الفصل الذي نجهر فيه بالشّعار الكبير الذي نكاد نجتمع عليه مهما اختلفت بنا السّبل:«أنا أستهلك، فأنا موجود». لا صلة للصّوفي بهذا النّهج، فهو يلبّي حاجته محاولا ألاّ تمتلكه تلك الحاجة جامعا بين الجوع والتّقوى. 
يروي القشيري عن إبراهيم بن أدهم أنّه قيل له: إنّ اللّحم قد غلا، فقال أرخصوه أي لا تشتروه، ثمّ أنشد:
إذا اللّحـم غلا  عليّ  تـركتُـه ** فيكون أرخص ما يكون إذا غلا.
عَمَلُ الصّوفيّ من أجل تنشئة الذّات الحرّة عبر قيمتي الزّهد والقناعة هو في ذات الوقت إدراك دقيق لقوانين السّوق من عرض وطلب.
لا بدّ هنا من ملاحظة أنّ كثيرا ممّا نحمله من أفكار متعلّقة بأهل التّصوّف بحاجة إلى مراجعة لإنكارها راهنيّة الفكر والسّلوك لدى الصّوفي. هي أفكار وأحكام توارثناها دون كبير تمحيص نتيجة الصّراع القديم بين الفقهاء والمتصّوفة والذّي لم يُحسَم في التّاريخ إلاّ بالعنف والإقصاء. من ذلك الصّراع استأثرت «المعياريّةُ الفقهيّة» بالذّهنيّة العربيّة الإسلاميّة عقودا من الزّمن في قرون خوال، ثمّ رجعت لتستعيد جانبا من نفوذها عن طريق الدّعوة إلى أوّليّة الشّريعة في كلّ مشروع نهضوّي حديث.
لا بدّ أن نتساءل إذن: أيمكن التّصديق بأنّ الصّوفي مَعنِيٌّ بخلاصه الفردي فقط، وأنّه خانع مستسلم لشيخه لا يحكِّم عقلا ولا يرعى حقّ جماعة المسلمين عليه؟ 
كيف نقبل بهذا وأبو بكر الرّازي يقول: «من لم ينظر في التّصوّف فهو غبيّ»؟.  
 محاولةً للإجابة نستعرض بعض الرّقائق التي يمكن أن تساعدنا على إعادة النّظر في مدى راهنيّة الصّوفي ورهافة حسّه الدّنيوي والحضاري.
- عن عمرو بن عثمان المكّي قال «التّصوّف أن يكون العبد في كلّ وقت مشغولاً بما هو أولى في الوقت».
- نقل السريّ السّقطي عن الجنيد شيخ الطّائفة: مارستُ كلّ شيء من أمر الزّهد، فنلت منه ما أريد إلاّ الزّهد في النّاس فإني لم أبلغه ولم أُطِقْه».
- أمّا الشّبلي فقد أجاب عن سؤال :«ما التّصوّف؟» قائلا: «تصفية القلوب لعلاّم الغيوب». ثمّ أضاف «هو تعظيم أمر اللّه والشّفقة على عباد اللّه».
- يروى عن يحي بن معاذ قوله:«إلهي! لا أقول تُبتُ ولا أعود، لِما أعرف من خُلقي ولا أضمن ترك الذّنوب لما أعرف من ضعفي. ثمّ إنّي لا أقول لا أعود لعلّي أن أموت قبل أن أتوب».
- قال القشيري مبرزا اختلاف الصّوفي مع شيخه في الفهم حسب التّجربة والمعاناة:«دخل عليّ شابٌّ فسألني عن التّوبة. فقلت : التّوبة أن لا  تنسى ذنبك. فعارضني وقال : التّوبة أن تنسى ذنبك».
- مرّ بِشر ببعض النّاس فقالوا هذا رجل لا ينام اللّيل كلّه ولا يفطر إلاّ في كلّ ثلاثة أيام. فبكى بشر قائلا إنّي لا أذكر أنّي سهرت ليلة كاملة، ولا أنّي صمت يوما ولم أفطر من ليلته. ولكنّ اللّه سبحانه يُلقي في القلوب أكثر ممّا يفعل العبد».
- جاء رجل إلى سهل التّستري وقال إنّ النّاس يقولون إنّك تمشي على الماء. فقال سهل : «مؤذِّنُ المَحَلَّة رجلٌ صالح لا يكذب، فاسأله». فسأله، فقال المؤذن:«لا أدري هذا! ولكن كان في  بعض الأيام نزل الحوض ليتطهّر فوقع في الماء، فلو لم أُخرجه أنا لبقي فيه».
عند هذا الحدّ لا بدّ من أن نسأل عن تلك الكرامات والعجائب المنسوبة إلى الصّوفي وعن تلك العصمة التي يُنعَت بها بعض المشائخ. 
في هذا الخصوص نحتاج إلى التّذكير بثلاثة عناصر :
- ما يروى عن عجائب الصّوفي هو من قبيل الكلام المرموز. من ذلك الحديث عن التّيه في البادية ، فالمقصود به حياة ما قبل الالتزام بالسّلوك التّعبّدي المراقب للنّفس. نجد رواية عن الخوّاص أنّه عطش في بعض أسفاره حتّى سقط من العطش ، ثمّ قال: «فإذا أنا بماء يُرَشُّ على وجهي، ففتحت عينيّ فإذا أنا برجل حسن الوجه راكب دابّة شهباء. فسقاني الماء وقال كن رديفي». ليس المقصود هنا بالسّفر والإعياء والعطش والماء المعاني المتداولة إنّما هي كنايات عن السّير في مفاوز الحياة قبل التّوصّل إلى التّجافي عن الملاذ. 
- نبّه كبار الصّوفيّة منذ وقت مبكِّر إلى إنكار تلك المبالغات، وضرورة التصدّي لتلك القصص الملهبة للخيال. من ذلك ما نُقل عن الجنيد أنّ أبا الحسن النّوري أخذ «قصبة من الصّبيان وقام بين زورقين وقال: وعزّتك وجلالك لئن لم تُخرج سمكةً فيها ثلاثة أرطال لأُغرقنَّ نفسي. علّق الجنيد قائلا: «كان حكمه أن تخرج له أفعى تلدغه». 
- ما بلغنا من حكايات التّصوّف السّلبي يعود إلى فترات متأخّرة عندما عمّ بلاء الجهل وسوء الحال والاعتقاد شاملا بذلك الصّوفي والفقيه والأديب والسّياسي دون فرق. عن هذه الفترة قيل:    
أهل التّصوّف قد مضوا صار التّصوّف مخرقة ** صار التّـصوّف صيحة وتـواجـدا  ومـطبّـقة            
مضت العـلوم ، فلا علوم  ولا القلوب مشرّقة ** كَذبتْكَ نفسُك ليس ذا سنن الطّريق المخلقـــة
حتّى تكون بعيـن من عنه العيون مـحدّقــة ** تجري عليك صروفـه وهموم سـرّك مُـطْْـرِقة   
بعد هذا ينبغي التّأكيد أنّ الصّوفي كان إلى جانب الفقيه والمتكلِّم أحد الوجوه التي أتاحت للمجتمعات الإسلاميّة بعد مرحلة النّبوّة والخلافة الرّاشدة خوض غمار تحوّلات اجتماعيّة وسياسيّة وقِيَميَّة ضخمة بتوازن وفاعليّة كبيرين لقرون متوالية.