أهل الاختصاص

بقلم
جهاد فوزي أحمد عبد السلام
القياس من الطبيعة إلى التجريد إلى الفلسفة
 القياس والمعايرة
القياس هو عمليّة معايرة مجهول بمعلوم، ولا يوجد معلوم أصلا في الطّبيعة إلاّ من خلال التّعريفات التي اتُّفق عليها، ويمكن التّحقق من سلامتها، وفقا لحفظ مقاديرها لدى هيئة معتبرة، فالمسافة المحفورة بين علامتين على ساق من سبيكة «الإريديوم بلاتين» والمحفوظة في متحف في باريس عند درجة حرارة معيّنة هي بداية ما اصطلح على تعريفه بالمتر العياري، وما بعد ذلك كلّه تحسينات على التّعريف بغية الوصول إلى شئ غير متغيّر، وشبيه بذلك في تعريف الكتلة والزّمن وغيرها من الكمّيات الأساسيّة. 
والسّؤال الذي يطرح نفسه ولن تكون الإجابة عليه مباشرة، هل كلّ مجهول في نظام ما نستطيع إيجاده من المعلومات في النّظام نفسه؟ القياس بهذه الصّورة المعرّفة قبل التّساؤل هو سمة الحضارة الغربيّة الحديثة، وبالرّغم من كون عمليّة المعايرة كانت معروفة قبلهم في كلّ الحضارات السّابقة، لكن والحق يقال إنّ القياس لم يتطوّر بهذه الصّورة المذهلة من التّوسّع والدّقة إلاّ على أيديهم، وهو من هذه الزّاوية يعدّ ضروريّا للعلوم المادّية التي تشكّلت منها مادّة الحضارة الحديثة، وحتّى لا يساء الفهم ينبغي التّركيز على أنّ الحضارة هي المنجز التّكنولوجي للعلم. ونظرا لسيطرة النّظريّة المادّية على عقول الغربيّين فقد كانوا يؤمنون بأنّ كلّ شيء قابل للقياس، وأيّ شيء غير قابل للقياس فهو غير موجود. لقد قاسوا السّرعة والتّسارع والقوّة والشّغل والقدرة وشدّة التّيار وفرق الجهد والكثافة واللّزوجة ... إلى آخره. وكانوا يلجؤون إلى النّمذجة الرّياضيّة لقياس ما لا يستطيعون قياسه بشكل مباشر كالأشياء المتناهية في الكبر (كتلة المجرّة،نصف قطر الكون...) والمتناهية في الصّغر(كتلة الذّرة،نصف قطر الذّرة...). لكن سرعان ما تنهار التّعريفات نفسها التي وضعت للمعياريّة والموضوعيّة في القياس وتصبح ضبابيّة لا تفي بالغرض عند دخول العوالم المتناهية في الصّغر أو العوالم المتناهية في الكبر.
الخوف من غير القابل للقياس 
يمكن في النّموذج المادي قياس الأشياء مباشرة وقياس أشباه الأشياء وأشباه أشباه الأشياء من خلال النّماذج الرّياضيّة ذات العلاقات المتسلسلة. لكن كيف يقاس ما هو ليس بشيء ولا شبيه له؟ كالسّعادة والطّموح والرّغبة والأمل والحيرة والشّكّ والاضطراب والتّردّد والارتباك والخوف والوسواس، والتّأمل والحبّ والرّجاء والتّضحية والشّجاعة والتّهوّر ...  إلى آخره. هذه القائمة التي لا تنتهي والمميزة للإنسان عن غيره من الكائنات الحيّة والتي أتته من نفخة الرّوح الإلهيّة فيه، لا يمكن إخضاعها للنّموذج المادّي، وقد حاول البعض جرّها إلى عالم أشباه الأشياء من خلال ربط ظهور صفة ما من هذه الصّفات بإفراز كيميائي معيّن لغدّة معينة «إنزيمات وغيرها»، لكن لم يتم إلى الآن تقنين ذلك بشكل مؤكّد بمعنى أنّ إفراز ما بعينه بكمّية كذا مسؤول عن إظهار صفة كذا بمقدار كذا، وبالتّالي يمكن التحكّم في تلك الصّفة كيميائيّا، على سبيل المثال هل يمكن حقن إنسان كره محبوبته نتيجة خيانتها له بالإفراز الكيميائي المسبب للحبّ، أو التخلّص من الإفراز الذي سبب كرهها، فيرجع إلى حبها مرّة أخرى؟.
متغيّرات وثوابت مستحيلة القياس
الثّابت ضدّ المتغيّر، ومن الثّوابت أنّنا نخاف من المجهول، ومن يخالف ذلك فهو مكابر، والخوف الفطري علامة صحّة وعلامة عدم اكتمال في نفس الوقت للإنسان، والمتغيّرات هي تعبير عن شيء ما تتغيّر قيمته القابلة للقياس على مدى معين كطول المولود وكتلته وصحّته التي تتغير مع الزمن، فنستطيع أن نضع مدى عدديّا لكلّ متغيّر سواء من خلال عمليّة القياس المباشر أو غير المباشر. لكن هل نستطيع صكّ متغيّرات للصّفات التي تنبع من عالم الرّوح ووضع مدى عددي لها؟ هل نستطيع إيجاد علاقات رياضيّة تتضمّن هذه المتغيّرات مع متغيّرات أخرى من عالم المادّة؟ وهل تتماس هذه المتغيّرات مع بعضها البعض؟ وهل يؤثّر العالمان: عالم الرّوح وعالم المادّة في بعضهما البعض؟ أم أنّ واحدا فقط يؤثّر والآخر متأثّر؟ أم أنّ العالمان منفصلان تماما. أم أن هناك عالم هلامي ثالث زرع فيه من جهة متغيّرات المادّة وزرع فيه من جهة أخرى متغيّرات الرّوح؟ 
هناك من ينكر وجود عالم الرّوح أصلا لاستعصائه على القياس. لكنّ الثّابت أنّ متغيّرات جديدة من ظلال هذا العالم الميتافيزيائي تستطيع قياسها تظهر كلّ يوم، أمّا ثوابتها فستظلّ هناك داخل الإيمان. لا أشكّ أنّ المتغيّرات المادّية في حياة الإنسان لا تدخل نطاق العمل إلاّ إذا كانت هناك متغيّرات ميتافيزيائيّة تحرّكها، فالطّول والوزن والصّحة تحركها نفخة الرّوح الإلهيّة داخل الإنسان، ومع خروجها يتوقّف كلّ شيء. وبحكم أنّ هذه المتغيّرات الطّبيعيّة تختلف في تغيّرها من إنسان لآخر حتّى ضمن الأسرة الواحدة، فإنّ ذلك يؤدّي إلى استحالة نمذجتها، حيث أنّها تأتي من عالم مختلف جوهريّا عن العالم المادّي.
بداية طريق تجريد مفهوم القياس
بدأ الإنسان قياساته للطّول مثلا من رصّ الأحجار المنتظمة في الحجم بجوار بعضها، ثمّ لمّا احتاج إلى مقاييس أصغر للطّول رصّ أصابعه بجوار بعضها البعض وكان يسمّى عرض الإصبع الواحد قيراط، ثمّ لمّا احتاج إلى مقاييس أصغر وأصغر رصّ الحبوب الصّغيرة مثل حبّات القمح بجوار بعضها، وبعد تراكم المعرفة لأكثر من مليون عام وضع الإنسان التّعريفات ليقترب من التّجريد شيئا فشيئا. بحيث أصبح يستخدم مثلا تقنيّات رياضيّة معيّنة مثل التّكامل من قياس أطوال ومساحات وحجوم أشكال غير منتظمة تماما(1).
مفارقة باناخ – تارسكي (سقوط مفهوم القياس في جبّ اللاّنهايات)
إذا قمنا بتقسيم كرة ذات حجم معين بطريقة معيّنة ومن ثمّ قمنا بإعادة تجميع هذه الأجزاء بطريقة معيّنة، فإنّه يمكننا الحصول على نسختين متطابقتين من هذه الكرة دون إجراء أيّ شدّ أو تشويه لسطح الكرة الأصليّة. المفارقة تكمن في أنّ هناك حجما إضافيّا لا يعلم ما هو مصدره. وهناك محاكاة لهذه المفارقة تعرف بمفارقة قطعة الشّيكولاته، وهي تقسيم لقطعة شيكولاته (على طول الخطوط الحمراء في الشكل المرفق) إلى عدد معين من القطع (أربع قطع: إثنتان كبيرتان (ملونتان بالأصفر والأزرق الباهت) وإثنتان صغيرتان (ملونتان بالأخضر والأخضر الباهت)) وإعادة تجميعها مرة أخرى (بإزاحة القطعة الكبيرة الصّفراء إلى اليسار بنفس ميل الخطّ الأحمر المائل بمقدار مربّع واحد، وكأنّها تنزلق عليه ليحلّ جزؤها الأيسر محلّ القطعتين الصّغيرتين وإحلال القطعة الصّغيرة الملوّنة بالأخضر الباهت محلّ الأماكن الفارغة على اليمين نتيجة الإزاحة على اليسار)، فسنحصل على نفس المساحة بالإضافة إلى القطعة الصغيرة الملوّنة بالأخضر وهي أعلى مربّع على اليسار. المفارقة هنا كيف يحدث ذلك، كيف نحصل على مساحة أكبر من تلك التي بدأنا بها، مع العلم أنّ ذلك غير صحيح في الواقع العملي لأنّ التّقسيم متناهٍ ولو كان التّقسيم لانهائيّا لأمكن برهنة صدق هذه المفارقة كما فعل باناخ وتارسكي حيث قدّما برهانا يعتمد على صحّة بديهيّة الاختيار لتلك المفارقة، فما هي بديهيّة الاختيار؟ 
بديهية الاختيار
تنص بديهيّة الاختيار على أنّه إذا كان لديك عدد لا نهائي من مجموعات مجتمع ما، فبمقدورك تكوين مجموعة جديدة عن طريق اختيار فرد واحد من كلّ مجموعة. تذكّر أنّ المجموعات عددها لانهائي وعناصر كلّ مجموعة لانهائي. هناك أمثلة كثيرة على تصوير بديهيّة الاختيار مثل فندق هيلبرت اللاّنهائي الغرف والممتلئ بعدد لانهائي من النّزلاء، فإذا ما أتى نزيل جديد يسأل عن غرفة شاغرة، سيجيبه موظف الاستقبال حسنا سأجد لك غرفة شاغرة في فندقنا الممتلئ، فيقوم بإزاحة كلّ نزيل في غرفة ما إلى الغرفة التي تليها في التّرتيب، وبذلك يكون قد أخلى غرفة لذلك النّزيل، ومن الممكن فعل ذلك بعدد لانهائي من المرّات ليستوعب عددا لا نهائيّا من النّزلاء الجدد مع العلم أنّ الفندق كان ممتلئا بعدد لا نهائي من النّزلاء القدامى ولم يتم طرد أحد منهم من الفندق. 
يعد قاموس «ويبميستر» نموذجا آخر على بديهيّة الاختيار، تخيّل أنّنا قمنا بتأليف قاموس لانهائي من الكلمات التي تتألّف من رصّ الحروف بشكل لانهائي، مع الملاحظة أنّه لا يوجد عدد من الورق يستوعب ذلك (التّجربة ذهنيّة فقط مثلها مثل فندق هيلبرت)، فلو أخذنا المجلّد الذي تبدأ كلماته بحرفA ثمّ قمنا بحذف ذلك الحرف، وذلك لعلمنا أنّ كلّ كلمات المجلد تبدأ به، لحصلنا على كلّ الكلمات الموجودة في باقي المجلّدات الأخرى كلّها والتي تحتوي على كلّ كلمة «أو صوت» قيلت من أيّ كائن كان أو ستقال من أيّ كائن لم يولد بعد. لا تمتاز بدهية الاختيار بالجاذبيّة الحدسيّة وحسب، بل هي ضروريّة كذلك لإثبات العديد من العبارات الرّياضيّة المفيدة والمرغوب فيها، ولكنّها تأتي أيضًا بأعباء إضافيّة حيث تولد بعض العبارات العجيبة التي يمكن أن تكون غير مرغوب فيها(2) . 
المضامين الطّبيعيّة والفلسفيّة التي تثيرها المفارقة
المضامين التي تثيرها هذه المفارقة كبيرة جدّا، منها أنّه وإلى الآن لم يثبت مثل ذلك فيزيائيّا، بينما ثبتت رياضيّا وفقا لنظام المسلّمات المعترف بها رياضيّا. فهل سنحصل على حقول تنفصل فيها الفيزياء عن الرياضيّات؟ في الطّبيعة لا يمكن تقسيم المادّة إلى ما لانهاية، عند التّقسيم اللاّنهائي نحصل على مجموعات تأبى الانصياع للتّعريفات التّقليديّة للطّول وبالتّالي للمساحة والحجم، فهذه المفارقة تعطينا بالدّوران حجمين متماثلين (ومن الممكن أكثر بالتّكرار) للحجم الأصلي، وكأنّها تخبرنا بأنّ الواحد من الممكن أن يساوي أيّ عدد آخر. 
من المضامين أيضا أنّ الصّحيح المطلق ليس بمقدور الإنسان أن يحكم عليه وفق أجهزة قياساته التي أبدعها، لكن يحصل على المطلقات من خارج العلوم الطّبيعيّة، أي من الإيمان. غاية العلوم الطّبيعيّة هو بحث مدى الاتساق فقط مع البديهيّات/المسلّمات، ومع ذلك فلن يكون الاتساق مع أيّ بديهيات توضع من قبل البشر كاملا، كما بيّن ذلك «جودل» في نظريته الأولى: «إنّ أيّ منظومة من البديهيّات ستكون ناقصة»؛ إذ سوف توجد عبارات رياضيّة ليس بوسع المنظومة إثبات صحّتها أو خطئها. لكنّ الضّربة القاضية جاءت من نظريّته الثّانية حول عدم اكتمال الرّياضيّات. مستحيل أن تكون أيّ منظومة تأسيسيّة من البديهيّات متّسقة اتساقا تامّا، لذلك ينبغي على الإنسان أن يبحث عن مدى تسليم الآخرين له بصدق مسلماته في العلوم غير المعياريّة.
تجريد مفهوم القياس (تكامل لوبييج)
لمّا تمّ تمديد مفهوم الطول وتجريده، توصّل «لويبيج» إلى تكامله Lebesgue integral المشهور، بل وأصبح قابلا للتّعميم على مفهوم شامل للتّكامل على فضاءات مجرّدة، ومن خلاله توصّلنا لقياسات كانت مستعصية بحساب تكامل «ريمان» مثل القياسات في العمليّات العشوائيّة. يستند تجريد مفهوم القياس measure في الرّياضيّات إلى محاولة إخضاع فكرة حدسيّة بسيطة لمعالجة رياضيّة دقيقة. الفكرة المعنيّة هي تمديد مفهوم الطّول، فطول أي فترة I على خطّ الأعداد الحقيقيّة هو القيمة المطلقة للفرق بين طرفيها، من الممكن مدّ هذه الفكرة إلى أيّ مجموعة جزئيّة من الأعداد الحقيقيّة R وذلك باعتبار أن (P(R هو المجموعة المكونة من جميع مجموعات R الجزئية و(L(I هو طول الفترة الحقيقيةI، وبالتالي يكون المطلوب منا بالتّحديد هو تعريف دالّة غير سالبة m تحقّق الشّروط التّالية:
1 - مجال تعريف m هو(P(R  . 
2 - لأي فترة I في R، يكون طول هذه الفترة هو قياسها أي أن (L(I =ا (m(I 
3 -  إذا كانت               متتالية لانهائية عناصر في (P(R بحيث لا يمكن أبدا لأيّ عنصرين فيها أن يتقاطعا وهو ما يعبر عنه رياضيّا بالمتتاليات المنفصلة مثنى مثنى، وبالتّالي يكون قياس الاتحاد غير المنتهي من هذه المتتاليات هو المجموع غير المنتهي لقياسات هذه المتتاليات. 
4 - لا يتأثّر القياس بالانتقال Translation invariant  (تذكّر أنّ التّحويل الهندسي المسمي بــ «الانتقال» لا يؤثّر على الطّول أو المساحة أو الحجم)، مع الاعتراف أنّه في أحيان كثيرة لا توجد دالّة تحقّق جميع هذه الشّروط، لكنّ الشّروط الثّلاثة الأخيرة هامّة جدّا، فلا يمكن إسقاط أيّ منها في أيّ عمليّة قياس، وبالتّالي يكون من الممكن التّنازل عن الشّرط الأول ونقبل بوجود مجموعات جزئيّة من R ليس لها قياس، وفي مقابل تخفيض الضّرر النّاجم عن هذا التّنازل يجب أن يكون مجال تعريف m أوسع ما يمكن في (P(R  بحيث يظلّ مغلقا بالنّسبة لعمليتيّ الاتحاد والتّتميم.