حديث في التربية

بقلم
محمد بن خالي بن عيسى
إنعكاسات التربية العنيفة على سلوك الأطفال (2/3)
 العنف عبر التاريخ 
يجمع العارفون بظاهرة العنف من علماء الإجتماع والفلاسفة والأنتروبولوجيّين، رغم الإختلافات بينهم على كون العنف ظاهرة إجتماعيّة وآليّة من آليّات الدّفاع عن الذّات ضدّ المخاطر التي تواجه الإنسان من أجل البقاء والإستمرار في الحياة ، وأنّ هذه الآليّة الدّفاعيّة هي إحدى الطّاقات الغريزيّة الكامنة في الكائن الحيّ التي تستيقظ وتنشط في حالات دفاعيّة وهجوميّة يستوي فيها الإنسان والحيوان على حدّ سواء(1)، وبذلك تعدّ هذه الظّاهرة من بين أقدم الظّواهر التي رافقت الإنسان منذ ظهوره على كوكب الأرض، ويتجسّد ذلك من خلال الحروب التي خاضها الإنسان البدائي من أجل تحطيم جماجم الحيوانات والمخلوقات المفترسة، درءا للمخاطر المحدقة به، ولحماية نفسه من عنف الحيوانات وعنف الطّبيعة كذلك، مستعملا آليّات دفاعيّة بما فى ذلك العضلات وبعض الأسلحة على بساطتها، إلاّ أنّه في العصر الحاضر برزت هذه الظّاهرة بشكل متطوّر وأكثر تنظيما ولافت للإنتباه،سواء من خلال المؤسّسات العسكريّة أو الحكوميّة التي تحتكر ممارسة العنف بحسب ماذهب إليه «ماكس فيبر» في مسألة شرعنة العنف بواسطة جهاز الدّولة، فهي إذن ظاهرة أصبحت تسترعي اهتمام الجهات الحكوميّة المختلفة، والأسرة وهيئات المجتمع المدني السّياسيّة والحقوقيّة من أجل مقاربتها مقاربة فاحصة، لأنّها أصبحت تؤرّق بال مختلف الفاعلين في الأوساط التّعليميّة خاصّة والمجتمعيّة عامّة. 
وقد ذهب «روبيرت ماكافي براون» إلى اعتبار العنف إنتهاكا للشّخصيّة، بمعنى أنّه تعدّ على الآخر أو إنكاره أو تجاهله مادّيا أو غير ذلك(2)، فأيّ سلوك شخصي أو مؤسّساتي يتّسم بطابع تدميري مادّي واضح ضدّ الآخر يعدّ عملا عنيفا. هناك إذن العنف الشّخصي الخفيّ الذي يؤذي الآخر نفسيّا وهناك العنف المؤسّساتي الخفيّ حيث تنتهك البنى الإجتماعيّة القائمة هويّة مجموعات الأشخاص كما هو حاصل مثلا في مستويات الحياة المتدنية في الأحياء المغلقة(3)، فهي إذن حسب «ماكافي براون» مشكلة بنيويّة(4). 
وقد برز الإهتمام بهذه الظّاهرة مع مطلع القرن العشرين، خاصّة بعدما تطوّرت نظريّات علم النّفس المختلفة التي أخذت تفسّر لنا سلوكيّات الإنسان على ضوء مرحلة الطّفولة المبكّرة، وأهمّيتها في تكوين ذات الفرد وتأثيرها في حياته فيما بعد، وتأكيدها على ضرورة توفير الأجواء الحياتيّة الملائمة لنمو الطّفل نموّا جسديّا ونفسيّا متكاملا وسليما بعيدا عن كلّ أشكال الإنحراف، كما ترافق الإهتمام بظاهرة العنف مع نشوء العديد من المؤسّسات والحركات التي تدافع عن حقوق الإنسان، وقيام الأمم المتّحدة بصياغة إتفاقيّات عالميّة تهتمّ بحقوق الطّفل، إذ تنصّ بشكل واضح على وجوب حماية الأطفال من جميع أشكال الإساءة والعنف والإستغلال الذي قد يتعرّضون له. وقد إختلف الباحثون فيما إذا كان العنف فطريا في الإنسان أو مكتسبا، فالبعض يرى أنّ طبيعة الإنسان حيوانيّة متجذّر في طبعها السّلوك العنيف، وذلك حينما خاض الإنسان البدائي معارك طاحنة لكسر جماجم الحيوانات، وهذا ما ذهب إليه «روبيرت أردري» من أنّ البشر قتلة بطبعهم، لأنّ النّاس الأوائل استخدموا أدوات كأسلحة من أجل تحطيم جماجم القردة(5)، وتردّ «أشلي مونتاغو» على إدعاء «روبيرت أردري» بلهجة حادّة، إذ تقول أنّ أسطورة النّاس كحيوانات مفترسة شرسة هي واحدة من مسوغات قصوى عند الرّجل الغربي توضّح أصول العدوانيّة الإنسانيّة وتتحاشى المسؤوليّة عنها باعتبارها فطريّة (6)، وبالتّالي يمكن استخدام العدوانيّة ضدّ الآخرين دون محاسبة بحسب قانون الغاب، القوي يأكل الضّعيف ، وقد تؤدّي مثل هذه الأفكار إلى إستعمار الشّعوب ونهب خيراتها دون حسيب أو رقيب. ويمكن أن نقيس على ذلك ماذهب إليه «تشارلز داروين» في نظريّة التّطوّر حينما إعتبر أصول الإنسان تنحدر من أسلاف القردة، أليس هذا أيضا ادّعاء يريد صاحبه أن يبعد عن الإنسان الغربي كلّ مسؤوليّة أخلاقيّة وكلّ تكليف ربّاني بحمل الأمانة؟ هروبا من المسؤوليّة التي أمرنا اللّه تعالى بحملها على الأرض، والتّنصّل منها ومن كلّ ما يقيّد تبعات جرائم هذا الإنسان واعتدائه على الآخرين، إذ عبر الإيمان بنظريّة مزيّفة لا أسس علميّة تؤيّدها أو تبرهن عليها، يمكن للإنسان أن يرتكب جرائم بلا حسيب ولارقيب، ويمكن أن يبرّر لنفسه فعل ما يشاء، مادام اللّه سبحانه بحسب داروين غير موجود، فمن يحاسبنا إذن على أفعالنا واجرامنا بحقّ الآخرين، وهذا ماحدث فعلا حينما تبنّت الأنظمة النّازية والفاشيّة أفكار نظريّة التّطوّر فيما بعد، إذ صارت ترتكب جرائم العنف من قتل وتدمير بلا حسيب ولارقيب.
وتتداخل أسباب ظاهرة العنف بين ما هو إقتصادي وما هو سياسي وما هو إجتماعي وما هو سيكولوجي إلى غير ذلك من العوامل التي يبرّر بها أصحابها إرتكاب أعمال العنف. وحتّى التّسامح الدّيني الذي مافتىء بعض الزّعماء الدّينيّين يروّجون له، لم يستطع الحدّ من العنف والكراهيّة بين أتباع الدّيانات، ممّا يذهب بهم إلى الصّراع والتّطاحن على الرّغم من سموّ رسالة الأديان السّماويّة، بينما يرجع تطرّف أتباع الأديان السّماويّة إلى قصور في فهم رسالتها،
 بعض مظاهر العنف عند الأطفال.
ظاهرة العنف بصفة عامّة كما سبق ذكره من الظّواهر التي قد تبرز في مجتمع معين بينما تتضاءل في آخر، وذلك راجع إلى التّربية والتّنشئة الإجتماعيّة والجوّ الدّيموقراطي السّائد في البلد وفي الأسرة والمجتمع. لكن رغم ذلك، فالكلّ يتّفق على أنّها ظاهرة غير أخلاقيّة، منبوذة من طرف الجميع، تجلب العار لممارسيها، وتحطّ من قدرهم ومكانتهم الإجتماعيّة، وبالتالي لا يمكن إدراجها ضمن السّلوكات السّويّة المتحضّرة، ولهذا فإنّنا عندما نحاول أن نقيّم أيّ ظاهرة مثل العنف في الوسط المدرسي، فمن الخطأ بمكان عزله أو فصله عن المركبات البيئيّة المسبّبة له والمساهمة في انتشاره في كثير من مجتمعات العالم، بما في ذلك البلدان العربيّة الإسلاميّة التي كانت تمتاز بالهدوء والاستقرار والقيم الرّوحيّة الإسلاميّة وحسن الجوار والسّلم والسّلام والرّفق والسّكينة. 
ومن تمظهرات العنف التي قد تؤثّر على الأطفال، ما نشاهده يوميّا على شاشات التّلفاز من تفجير وتقتيل وهدر للدّماء وتهديد أرواح الأبرياء في جميع أنحاء العالم عن طريق العمليّات الإرهابيّة والأفلام العنيفة، وبعض الرّسوم المتحرّكة التي ترسّخ عقيدة العنف عند الأطفال إلى غير ذلك، ممّا يسبّب للأطفال الكثير من المآسي النّفسيّة والجسديّة كالتّوحّد والإنطواء والعزلة والصّراخ والخوف والغضب والعضّ والضّرب والتّكسير والهيجان إلى غير ذلك من المظاهر غير الصّحيّة التي تؤثّر في نفسيّات الأطفال.
وقد ركّزت أغلب الدّراسات حول ظاهرة العنف في الوسط المدرسي على العنف كنتيجة وحصيلة موجودة، لكن أغلبها لم ينفذ إلى الجذور العميقة النّفسيّة والإجتماعيّة والإقتصاديّة والتّاريخيّة التي قد تكون وراء إرتكاب سلوكات عنيفة عند الأطفال، ويرى بعض الباحثين الغربيّين أنّ سوء معاملة الأطفال أو بعبارة أخرى أنّ الأطفال الذين خضعوا لمعاملة سيّئة جدّا وبالخصوص الإعتداء الجسدي والعاطفي؛ هؤلاء هم الأشخاص الذين يجدون صعوبات على مستوى تطوير علاقات الصّداقة الحميميّة مع الآخرين، بحيث يقومون بوصف هذه العلاقات على أنّها علاقات غير مستقرة، وأنّها أكثر عنفا وأكثر إهانة بالنّسبة لهم(7)، ويرى نفس هؤلاء الباحثين أنّ الأطفال الذين تعرّضوا للإساءة من المحتمل جدّا أن يعيدوا معاملة أطفالهم حينما يكبرون بشكل سيء أيضا وخاصّة أولئك الأطفال الذين تعرّضوا لإعتداءات مخجلة في طفولتهم(8)، ولأنّ الموضوع متشعّب جدا، سأحاول التّركيز في الحلقة القادمة على الأسباب التي تجعل الأطفال يمارسون العنف أو التي تجعل العنف يمارس عليهم..
الهوامش
(1) ابراهيم الحيدري: سوسيولوجيا العنف والإرهاب: لماذا يفجر الإرهابي نفسه وهو منتش فرحا ؟ دار الساقي. ط1، بيروت 2105، ص17
(2) باربرا ويتمر : الأنماط الثقافية للعنف، سلسلة عالم المعرفة المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد 337 ، مارس 2007، ترجمة ممدوح يوسف عمران .ص4
(3) نفس المرجع ، ص 5
(4)  نفس المرجع ، ص5
(5)  نفس المرجع، ص5
(6) نفس المرجع، ص7
(7) Psychoanalytic Psychotherapy after child abuse . the treatment of adults and children who have experienced sexual abuse, violence and neglect in childhood .By Daniel MC Queen, Roger Kennedy, Valerie sinason, and Fay Maxted .P19
(8) نفس المرجع ، ص 20.