رسالة فلسطين

بقلم
مصطفى يوسف اللدّاوي
العيون الإسرائيلية القاتلة ووحدات المستعربين الغادرة
 تالياً لمقالي السّابقين المعنونين بـ «حيرةُ المحبّين في كيفيّة وصولِ العدو إلى المقاومين»(1) و«الفلسطينيّون في مواجهة الاغتيال الجبان والقتل الغادر» (2)، في محاولتي لبيان كيفيّة وصول العدو إلى مقاومينا وقتلهم، أشير إلى أنّه رغم اعتماد المخابرات الإسرائيليّة وأجهزتها الأمنيّة المختلفة على الوسائل التكنولوجيّة الحديثة التي بينتُ بعضها، إلاّ أنّها لا تستغني أبداً عن المخبرين المحليّين، وعن عملائها المنتشرين في مختلف المناطق الفلسطينيّة، الذين يتلقّون تدريباتٍ خاصّة، ويرتبطون ارتباطاً مباشراً بضباطٍ أمنيّين يوجّهونهم ويتلقّون منهم مختلف المعلومات، ويقدّمون لهم خدمات كثيرة جدّاً، أقلّها تجديد المعلومات ومتابعة الشّخصيّات وملاحظة حضورهم وغيابهم، ومراقبة الفعّاليّات، ورصد الجديد والمتغيّرات في المنطقة، وكلّ ما يلفت الأنظار ويثير الرّيبة، فالعدوّ مهما بلغت دقّة أدواته التّكنولوجيّة، فإنّه يبقى أعمى دون عيونه من العملاء المحليّين، والجواسيس الخائنين.
يستغل العملاء المحليون كل الأوساط المحيطة بهم لجمع المعلومات، وتحليل أحاديث العامة وحواراتهم، ويستفيدون كثيراً من أخطاء عناصر المقاومة الذين يثرثرون أحياناً ويتباهون، أو يتفاخر أهلهم ويتحدث عنهم أبناؤهم، ويستخدمون للوصول إلى غاياتهم المشبوهة جلسات النساء وحلقات الأطفال، وتجمعات الشبان والرجال، والمدارس والمساجد ومختلف التجمعات، ويرصدون خلالها الكلمات ويتابعون المعلومات، التي قد يأتي بعضها سهواً أو نتيجة سقطات اللّسان وأخطاء الأهل غير المقصودة.
يقوم العملاء المحليّون بمهام أخرى كثيرة منها زرع الكاميرات حول بيوت المقاومين وأقاربهم، وفي أحيائهم وداخل مساجدهم، ووضع علاماتٍ مميّزة على بيوتهم وأخرى فارقة في الشّوارع والطّرقات تدلّ عليهم، وإلصاق شرائح إليكترونيّة على سياراتهم الخاصّة ودراجاتهم النّاريّة، يحدّدون بواسطتها مسار السّيارات وحركتها، وأماكن وجودها ومقرّات عملها، ممّا يسهّل على العدوّ استهدافها إمّا بالطّائرات المسيّرة، أو من خلال مجموعات المستعربين المدرّبين، وهم الأخطر والأسوأ، والأجرأ والأكثر دمويّةً، حيث وقعت أغلب عمليّات الاغتيال والتّصفية على أيدي مجموعات المستعربين، الذين هم عناصر في الوحدات الخاصّة للجيش الإسرائيلي.
تتشكّل وحدات المستعربين التي تتبع المخابرات الإسرائيليّة، وتصنف بأنّها مجموعات خاصّة، من عناصر أمنيّة مدرّبة تدريباً عالياً، ممّن يشبهون الفلسطينيين في أشكالهم، ولا يميزون عنهم في أسمالهم، ويلبسون ثيابهم ويتقنون لهجاتهم، ويأكلون طعامهم ويعملون في محال مثلهم، وبعضهم يعيش في المناطق الفلسطينيّة كأنّهم من أهلها، فلا يميّزهم أحدٌ أو يشكّ فيهم.
ويساعدهم على البقاء في المناطق الفلسطينيّة والعمل فيها بعض العملاء المحلّيين، الذين يتخفّون مثلهم ويساعدونهم في مهمّاتهم، ويرتبطون وإياهم بجهات التّشغيل المركزيّة، التي تتابعهم وتوجّههم، وتحميهم وتكون جاهزة في حال انكشافهم وتعرّضهم للخطر، للتّدخل السّريع لإنقاذهم وإخراجهم، إلاّ أنّ مهام المستعربين المقيمين تختلف عن مهام وحدات العمليّات الخارجيّة، حيث يقتصر عمل الأولى على زرع الأدوات وتشغيل الأجهزة، وجمع المعلومات وتغذية الخلايا التّابعة لها.
أمّا وحدات المستعربين الخارجيّة فتتلخص مهامها في تنفيذ عمليّات اغتيال وتصفية ضدّ مقاومين محدّدين، وتتميّز هذه الوحدات بأنّ عناصرها الأمنيّة يتمتّعون بقدراتٍ قتاليّة عالية، ولديهم خبرة كبيرة في عمليّات الملاحقة والمطاردة، ويدخلون إلى المناطق الفلسطينيّة بسياراتٍ تحمل أرقام لوحاتٍ فلسطينيّة، ولا تتميّز عن سيارات أهل المنطقة، وقد تكون أحياناً مسروقة من أصحابها الفلسطينيّين، وتكون سيارتهم مجهّزة بكلّ ما يلزم من أدوات القتال ووسائل الاتصال، وتجهيزات التّحكّم والسّيطرة، وتكون المجموعات على اتصالٍ كاملٍ ومباشرٍ مع قيادة الوحدة، التي تكون قريبة من المنطقة، وجاهزة بعناصرها المجهّزة للتّدخل السّريع للدّعم والإسناد وأحياناً للإنقاذ، وتربط قيادة العمليّات كافّة الوحدات العاملة في الميدان بطائراتٍ عسكريّة لديها الجاهزيّة الكاملة للتّدخّل المباشر للقصف والتّدمير.
إلى جانب ما ذكرنا أعلاه وما سبق، لا نستطيع أن نتجاهل حالات الاختراق والتّجسّس داخل المجموعات العسكريّة، فقد تنجح المخابرات الإسرائيليّة في زراعة بعضهم، وتنمّي قدراتهم وتتابعهم، وتشرف على تدريبهم وتوجّههم، وقد يرتقي بعضهم في المسؤوليّة والموقع، وهذا ليس بالأمر الغريب أو الشاذّ، فقد شهدت أغلب حركات التّحرّر العالميّة مثل هذا النّوع من الاختراقات الأمنيّة، رغم الاحتياطات الكبيرة ودرجة الوعي العالية لدى المقاومة، إلاّ أنّ الطّبيعة البشريّة تفترض الضّعف والخيانة، والمرض والغيرة، والأحقاد والكراهيّة، والانحراف والشّذوذ وغير ذلك.
تحرص المخابرات الإسرائيليّة على هذا النّوع من العيون المتقدّمة، التي يصعب اكتشافها أحياناً، رغم أنّها حالات نادرة جدّاً، ولكنّها في حال نجاح العدو في زرعها وتشغيلها، فإنّها تكون من أخطر المصادر التي يعتمد عليها في الحصول على المعلومات الدّقيقة والخاصّة جداً، إلاّ أنّ المقاومة تنجح غالباً في كشف بعض الحالات، التي شكّلت بعضها خطورة كبيرة على المقاومة، بالنّظر إلى المهام التي يضطلعون بها، والمعلومات التي يمتلكونها عن أنشطة وفعاليّات المقاومة.
تلك هي بعض الأسباب التي تمكن العدو من الوصول إلى مقاومينا والنّيل منهم، آملاً أن تكون كافية للإجابة على تساؤلات المحبّين، ووافية لتطمينهم على المقاومة التي يحبّونها ويقلقون عليها، راجياً أن يعذرني القرّاء الكرام أنّني لم أتعرض إلى التّنسيق الأمني بين الأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة والإسرائيليّة، الذي هو التّنسيق الأخطر والتّعاون الأقذر، وهو العين الصّديقة المميتة والجدار الأهلي القاتل.
إلاّ أنّ هذه الوسائل مهما بلغت دقّتها واشتدت خطورتها، وزاد عدد ضحاياها، فإنّ المقاومة الفلسطينيّة مصرّة على تحدّيها ومواجهتها، واستمرار العمل رغم وجودها، وقد أثبتت عمليّات المقاومة الأخيرة قدرة أبنائها على تخطّي الصّعاب، وتحدّي المستحيل، ومواجهة العدو بكلّ قدرته العسكريّة وتقنيته الأمنيّة.