مقالات مترجمة

بقلم
بن عيسى الدمني
الإسلاميون الأتراك في اختبار السلطة البلدية إنتاج فضاءات، ممارسة حكم وإدارة مجتمعات محلية - (3/3)
 تحالفات اجتماعيّة خصوصيّة
إنّ تلك الفعاليّة كانت، في واقع الأمر، نتيجة لتغيّر القائمين على إسداء الخدمات: فقد أحالت البلديّات الإسلاميّة كثيرا من مرافق الاستهلاك الجماعي إلى القطاع الخاصّ، وأخضعت بعض الأعمال-مثل رفع الفضلات- لنظام المناولة. وتخلّت بلديّة (قيصري) ـ خصوصا في المدّة النّيابية الممتدّة بين 1999 و2004، عن أعمال إنتاج مواد الاستهلاك الجماعي (وقامت خاصّة بتخفيض كبير في كمّية الخبز المدعَّم) وتخلّت عن الخدمات الاجتماعيّة التي كانت موضوعة في متناول الجميع، وأحالت النّقل العمومي إلى القطاع الخاصّ(1). 
في محاولة لتبرير تلك الإجراءات، لجأ الإسلاميّون إلى الحجّة اللّيبراليّة القائلة بِـ «ضرورة» التّقليص من الموظّفين العموميّين، وإلى التّذرّع بمستلزَمات «التّصرّف الحديث». بالتّوازي مع ذلك، اتخذت بلديّتا (إسطنبول) و(أنقرة) قرارا قضى بإحداث زيادات كبيرة  في أسعار الماء والغاز الطّبيعي والنّقل العمومي(2). ومن غير المستبعَد أن تكون الحكومة قدّمت تسهيلات ماليّة(3) للبلديّات ذات  التّوجّه الإسلامي، حين كانت تشترك وإياها في الانتماء (أي فيما بين 1996 و1997، ومنذ عام 2002)؛ وذلك لتمكينها من إسداء خدمات أفضل للسّكان، ومن ثمّ جنيَ أرباح سياسيّة.
منذ بروز «حزب العدالة والتّنمية»، بالخصوص، كان الإسلاميّون الأتراك، مقتنعين بمبادئ تقليص صلاحيّات الدّائرة العموميّة، وإحالة مؤسّسات الدّولة إلى القطاع الخاصّ، وبيع الأراضي والممتلكات العقاريّة التّابعة للقطاع العام. كما تميّزت البلديّات الإسلاميّة بسياستها في مجال إدارة الموظّفين: ففي 2003 كان رئيس بلديّة (قيصري) التّابع لِـ «حزب العدالة والتّنمية» قائما على توظيف 971 شخصا مقابل 1463 شخصا كانوا موظّفين قبل عشرة أعوام. 
بالنتيجة، صارت المصاريف في ذلك المجال أقلّ من تلك المدفوعة لشراء الأملاك والمرافق؛ علما بأنّ هذه الشّراءات قد ازداد حجمها كثيرا. إنّ البلديّة صارت تدريجيّا أقلّ تشغيلا للأشخاص، وصار اهتمامها مركّزا بالخصوص على إدارة المرافق البلديّة. بالتّوازي مع ذلك، سجّلت حصّة الميزانيّة البلديّة المخصّصة لعروض المناقصات زيادة كبيرة، وكذا كان الشّأن بالنّسبة إلى المصاريف في قطاعات البناء والأشغال العامّة (BTP)، والبناء والسّكن(4).
لقد شمل التّغيير أيضا المجموعات الدّاعمة للبلديّات والمؤثّرة في السّياسات البلديّة وفي توزيع الإيرادات الحضريّة. فمنذ سنة 1994، شهد المجلس البلدي لمدينة (قيصري) تزايدا تدريجيّا في حضور المقاولين الخواص؛ ومنهم بالأخصّ أصحاب المؤسّسات الصّغرى والمتوسّطة (PME) المشتغلة أساسا في المجالات التّجاريّة ومجالات البناء والأشغال العامّة؛ بينما كانت البلديّة  ذات التوجه الاجتماعي ـ الديمقراطي المغادرة تعتمد على تحالف موظّفين منخرطين في النّقابات، وكانت بعيدة جدّا عن أوساط أرباب الأعمال. من بين المرشَّحين الذين عيّنهم الإسلاميّون نجد كذلك أسماء ينتمي أصحابها إلى الصّناعة المحلّية الكبرى. في المقابل، صار الموظّفون والعمّال أقل عددا؛ أمّا الأوساط الشّعبيّة، فرغم أهمّيتها البالغة من حيث كونها تشكّل قاعدة انتخابيّة واسعة، فضلا عمّا كانت تحظى به من أهمّية صُلب خطاب الأحزاب الإسلاميّة؛ فإنّها لم تكن ممثّلة في المجلس البلدي(5).
حصل ذلك رغم أن الأحزاب الإسلامية وصلت إلى السلطة البلدية بفضل برنامج اجتماعي، وأن «النظام العادل» الذي بشرت بإقامته في ذلك البرنامج كان يعني قدرا أكبر من المساواة ومن العناية بضعاف الحال. وقد تضمن عدد من برامجهم الاجتماعية وعودا لفائدة أشد الناس حرمانا بأن يمكنوهم من منح مالية ومساكن، وأن يوفروا لهم خدمات صحية، وتراخيص للنقل في الوسائل العمومية، وفحما، وضروراتِ حياةٍ أساسية، بأثمان زهيدة؛ وحتى بالمجان. غير أنهم، رغم دأبهم على إدانة المظالم الصارخة، لم يكونوا يضعون النظام الاجتماعي السياسي القائم موضع اتهام؛ بل كانوا يقترحون ترتيباتٍ وتنظيما أفضل لما هو موجود، على غرار التقليص من الفوارق وإعادة التوزيع الإرادي وتقديم المعونات(6). 
ففي مجال السكن الاجتماعي، حلَّ منطق الربح محل الوعود بإعادة التوزيع. و من ضمن إثنتي عشرة عملية سكن اجتماعي وقعت برمجتها في بلدية الحاضرة (إسطنبول) التابعة لِـ «حزب الرفاه»، منذ عام 1994، وقع إنجاز أو البدء في إنجاز أربع منها فقط في سنة 1998. وهو ما مثّل 540 7 شقة من أصل 000 200 شقة معلَنة. من جهة أخرى، حصل انحراف عن الغاية الأصلية: إذ لم يقع تمكين المحتاجين إلا من ربع الشقق التي عُرِضت للبيع في ذلك التاريخ؛ أما بقية الشقق، فقد وقع تسويقها تجاريا، وربما تحوّل بعضها إلى مادة للمضاربات؛ وهذا دليل على عدم فعل الكثير من أجل تقليص الفوارق الاجتماعية. إن بلدية (إسطنبول) التابعة لِـ «حزب الرفاه» أسهمت حتى في تفاقم التمايز بين الفضاءات  الاجتماعية، بفعل إدارتها الليبرالية المشجعة للعمليات العقارية الخاصة ـ خصوصا تلك التي تعلقت بالأحياء الخاصة ذات المساكن الفخمة (7) ـ. لذلك فإن شواهد الواقع تشي بوجود تناقضات ـ و مضاربات ـ بين حرص المسؤولين الإسلاميين المعلَن على عدالة ذات بُعد أخلاقي، وبين أفعال ذات توجه ليبرالي، وحتى رأسمالي. إن بلدية مدينة (قيصري) ذات التوجه الاجتماعي ـ الديمقراطي (1989 ـ 1994)، كانت حاولت تقوية قاعدتها الشعبية عن طريق تحسين المرافق العامة والمبادرة إلى إنشاء مشاريع كفيلة بإيجاد بنية أساسية ضخمة، خاصة في الأحياء المحرومة. في المقابل، أنشأ الإسلاميون عددا قليلا من المشاريع الموافقة لذلك الطراز، وانسحبوا من المرافق العامة؛ معوّلين في تقوية قاعدتهم الشعبية على زيادة الأنشطة الاجتماعية(8). 
بلديّات وسَط شبكات خيريّة
إن مختبر الوقائع، أبرز أن إحدى خصائص البلديات ذات التوجه الإسلامي تمثلت في الأهمية التي أوْلتها لأنشطة العمل الخيري. السبب في ذلك يرجع إلى كون «حزب الرفاه» منغرس في الأحياء الأقل حظا داخل المدن: فهو قد تحصّل على دعم الفئات غير المحظوظة وتمكن من الوصول إلى السلطة لأنه كان حقا يعمل عن طريق إسداء الخدمات بشكل فعّال.
لقد تميزت البلديات الإسلامية بأعمالِ بِرّ خصوصية: فهي الوحيدة التي أخذت على عاتقها، مثلا، تكاليف حفلات الختان والزيجات الجماعية. وفي شهر رمضان، كان بعضها يتولى توزيع أغذية وتنظيم حفلات. عدا هذه الأنشطة تحديدا، وفرت البلديات لمسانديها أموالا ومرافق فاقت ما وفره منافسوها، ليس قبل فوزها في الانتخابات فحسب؛ بل بعد انتصابها في مواقع المسؤولية أيضا(9). ففي مدينة (قيصري)، ارتفع عدد الأسَر التي كانت تنتفع يوميا بتوزيع الأغذية والفحم والأدويـة، منذ 1994، من 500 1 إلى 000 10 أسرة؛ وبلغ عدد المنتفعين بالإعانات الغذائية 500 16 شخص. وفي بداية العام الدراسي، وزعت البلدية جملة من الحاجياتٍ على أشد الناس خصاصة؛ وقامت بالترفيع في طاقة استقبال دار المسنين من 79 إلى 500 شخص. هذا التوجه إلى النشاط الاجتماعي جاء نتيجة للقيام بعملية إعادة تحديدٍ لصنف «المحتاجين»: ففي التحديد المحيّن لم يعد هذا الصنف يقتصر على الأشخاص المسنين، والمعزولين، وأصحاب الإعاقات أو الذين ليس لهم موارد؛ بل صار يشمل جماعات ذات اتساع أكبر؛ لأنها تضم أشخاصا من ذوي الوظائف الهشة والمؤقتة ومن أصحاب الأجور المالية الدنيا، أو أولئك الذين لا يتمتعون بتغطية  اجتماعية(10).
إن الأعمال الخيرية لا تكفلها البلديات وحدها ـ ذلك أن البلديات تكتفي بتوفير البنى الأساسية والإطار البشري ـ بل تكفلها أيضا شبكات يتدخل فيها الحزب، ومؤسسات متفرغة لعمل البِر والإحسان، وبعض الجمعيات، إضافة إلى متبرعين خواص ينتمون بالخصوص إلى أوساط الأعمال. فأكثر البلديات الإسلامية تربطها علاقات متينة بمؤسسات خيرية. و قد وقع إنشاء أهم تلك المؤسسات في مدينة (العمرانية) بُعَيْد فوز «حزب الرفاه» في انتخابات 1994 البلدية، وكان مديرها الأول عضوا في الحزب. كما شهدت مدينة (سيفاس) إنشاء مؤسسة يقودها رئيس البلدية بُعيْدَ فوز «حزب الرفاه»؛ و اعتمدت البلدية كذلك على مؤسسات خيرية أخرى في مجال الخدمات الاجتماعية والثقافية(11). من الناحية النظرية، لا يسمح القانون لأي جمعية مدنية بأن تكون مرتبطة بحزب من الأحزاب: فقد كانت مؤسسة مدينة (العمرانية) والجمعيات المندمجة في شبكتها الخيرية حريصة على استقلالها إزاء الحزب وإزاء الإدارة البلدية. لكن رغم تلك الاستقلالية الصورية، كانت البلدية تشترك مع الحزب والمؤسسة الخيرية في الاعتماد جزئيا على نفس الأشخاص، وفي تحديد المستفيدين من أعمالها الخيرية، بشكل جماعي(12).
كانت المعونات توزَّع عينًا ـ في شكل ألبسة، وأغذية، وفحم، وأثاث، وبطاقات نقل، ومساعدة على البحث عن مواطن شغل ـ أو نقديا ـ في شكل منح دراسية، و مساهمة في مصاريف العلاج أو في النفقات التي تقتضيها حفلات الزفاف أو الختان ـ. وكان في إمكان المؤسسات الخيرية أيضا أن توفر مواطن شغل أو توصي بانتداب باحثين عن شغل، داخل مؤسسات ترتبط وإياها بعلاقة ما، وذلك بوساطة شبكات شخصية؛ على اعتبار أن تلك المؤسسات كان لها قليل من الموارد الخاصة. من ذلك أن مؤسسة مدينة (قيصري) الخيرية لم تكن تشتغل إلا بفضل هِبَات يقدمها رجال أعمال يشغلون مناصب قيادية في تلك المؤسسة. وكانت أعمال هؤلاء تحظى، لقاء ذلك، بالتقدير داخل الأوساط المحافظة التي تدعمهم(13) نظرا إلى أن العمل الخيري يُعَدّ ذا جوهر ديني. وكان ذلك التقدير يتيح للبلديات سهولة أكبر في دعوة المتبرعين إلى إنجاز بعض المشاريع؛ و في الاعتماد، بالتالي، على تمويلات من خارجها.
إن تحديد المحتاجين يفرض على المؤسسات الخيرية أن تقوم بتوفير فاعلين «قاعديين»: وقد حصل ذلك في مدينة (العمرانية)؛ حيث وقع تعيين مناضلين من أعضاء «حزب الرفاه» للاضطلاع بمهمة «ملاحظي أحياء»، فقاموا بتشكيل مجموعات من المتطوعين تمثلت مهمتهم في متابعة سكان عدد من الأنهج، وطَرْق أبوابهم، و استكشاف الأُسَر المحتاجة وإعلامها بالحملات التي تنظمها البلدية. هذا النوع من الاستكشاف المعتمِد على مراقبة اجتماعية، كان يمارسه الأجوار بشكل مباشر، عن طريق القيام، مثلا، بالاستفسار لدى تاجر البقالة في الحي عن سير حياة الأسر المعنية. وبذلك يتمكن الملاحظون من رفع المعلومات  المجمَّعة إلى المؤسسة الخيرية وإلى البلدية، فيتسنى للمؤسسة أن تقوم بتحيين سجلها، ويتسنى للبلدية أن تنقل حصيلة الكشوف المستفادة  إلى بنك المعلومات المركزي التابع للحزب، وهو بنك يعمل بنظام الإعلامية. من ثم يكون بوسع المسؤولين الحزبيين كلما جدّت حالة وفاة في عائلة ما، أو انعقدت إحدى الزيجات، أن يبعثوا بتعازيهم إلى أهل الميّت، أو بتهانيهم إلى الزوجين الشابّيْن. وقد حدث أيضا أن كانت بعض الجمعيات المهتمة بمساعدة سكان محافظة بعينها، هي ذاتها المكلَّفة بالإسهام في استكشاف المحتاجين في أوساط أولئك السكان، وبتوزيع الإعانات على أصحابها.
المستفاد من هذا أن تلك الشبكات الخيرية كانت تتوسل في عملها بعدة فاعلين، سواء من التابعين للمؤسسات أو من الخواص، بدءًا برجل الأعمال، والمناضل الذي ينحدر من أحياء غير محظوظة، ومرورا بالعضو في شبكات الجوار. وكانت أنشطة أولئك المتدخلين تتيح وصْلَ البلديةَ بالمتبرعين ـ الذين ينظرون إلى ذلك البذل باعتباره التزاما مهمّا ينتظرون أن يُكافَؤوا عليه بِـ «مقابل استثماري»ـ ووصْلَها، في ذات الوقت، بالمستفيدين. وكانت البلديات الإسلامية تمارس الترويج الإعلامي المكثف لذلك الإحسان لتقدم نفسها في صورة فِرَق راعية تسُوس مُدنا يسودها التضامن. على أن الأمر لا يتعلق بمرافق عمومية مفتوحة للجميع؛ فالمساعدات كانت تقدَّم لأشخاص محدَّدين يقع تعيينهم من قِبل وسطاء. وهو ما أضفى عليها أهمية بالغة. من هنا نفهم أن طريقة إدارة المجتمعات المحلية لم تكن تعتمد على شبكات التضامن فحسب، بل كانت تعتمد، بالإضافة إلى ذلك، على العلاقات التي تربط الأشخاص بالمؤسسات التي تعيّنهم بوصفهم مستفيدين(14). مع العلم أن الشبكات التي تخص تنقّل المعلومات والموارد، كانت تُظهِر بعض الميزات التنظيمية التي تختص بها الأحزاب الإسلامية في (تركيا): هنا تجدر الإشارة إلى أن «حزب الفضيلة» هو الذي أوجد ذلك التشبيك ذا الكثافة البالغة على مستوى القاعدة ـ وهو تشبيك مستقل عن الطّرُق أو الجمعيات الدينية الخالصة، فضلا عن استقلاله جزئيا عن «حزب الرفاه» ذاته ـ وقد وقع اعتماده من قِبل «حزب الفضيلة»، واعتماد كثير منه من قِبل «حزب العدالة والتنمية»؛ ولا يملك أي حزب آخر في (تركيا) مثيلا لذلك التنظيم(15). وقد اشتغل «حزب الرفاه» في التزويد بحاجيات المرافق الاجتماعية التناوبية قبل أن يصل إلى موارد المؤسسات أصلا. لذلك، فإن أشكال التوزيع وطرُق إدارة المجتمعات المحلية هي التي أبرزت الصورة الأفضل للممارسات النضالية البديلة التي كانت سببا في النجاح الانتخابي للإسلاميين.
لقد غيّر الإسلاميون المؤسسة البلدية في (تركيا) بأن أدخلوا عليها أساليب عمل ورؤى خاصة قاموا بوضعها وتطويرها داخل الحزب ابتداءً. وحرص «حزب الرفاه»، قبل حله سنة 1998، على الاعتناء بمراقبة منتخَبيه وتأطير الممارسة اليومية لوظائفهم: فقد كانت البلديات التي أشرف عليها الحزب تُقاد، قبل كل شيء، وفق برنامج أيديولوجي(16). إلا أن تلك العلاقة الاندماجية بين البلدية والحزب أخذت في الضمور شيئا فشيئا؛ وذلك بسبب حل «حزب الرفاه» ثم «حزب الفضيلة» من قِبل السلطة، وبسبب أعمال القمع والمراقبة التي مورست ضد الإسلاميين بداية من سنة 1997، بالإضافة إلى ممارسات جماعات الضغط والحملات التعبوية؛ كل ذلك جعل رؤساء البلديات يضطرون إلى التخفيف من البُعد «الرمزي» المغلظ الذي طبع تجاربهم الأولى، والقبول بحلول وسطى، والتراجع عن كثير من أعمالهم ومواقفهم الموغلة في الراديكالية.
من جهة أخرى، شهدت التوازنات المؤسسية تطورا لصالح رؤساء البلديات. فإلى عهد غير بعيد، كانت أعمال البلديات متوقفة بشكل كبير على ميزانياتها وعلى حسن إرادة الحكومة والقادة الحزبيين. ومنذ أن صوّت نواب «حزب العدالة والتنمية» لفائدة إصلاحات السلط المحلية سنة 2004، صارت لرؤساء البلديات استقلالية أكبر بكثير مما كانت عليه في هذا المجال، إضافة إلى صلاحيات موسَّعة اكتسبوها، خاصة على الصعيد الاقتصادي(17). فقد عرفوا كيف يستفيدون من موقعهم في تقاطع نظم العمل التحتية (الإدارية، الإقليمية، السياسية...) ومما لهم من اختصاص الوصول إلى الموارد المحلية، ليتحرروا من الإدارة الحزبية. وقد تدعَّم ذلك الاتجاَه بالتحاق سياسيين محليين، على وجه المنفعة، بعد أن عملوا في أحزاب اليمين الليبرالي المحافظ أو القومي، باعتبار أن «حزب العدالة والتنمية» كان واعدا أكثر من غيره في انتخابات 2004 (18). 
فنحن، إذن، إزاء تجدد وتنوع سوسيولوجي للأعضاء البلديين؛ لأنهم لم يعودوا ينبثقون من صفوف الأحزاب الإسلامية وحدها. بالتوازي مع ذلك، اختلفت ممارسات الحكم باختلاف شخصيات رؤساء البلديات وباختلاف التحالفات  الاجتماعية القائمة.
   بعد انقضاء خمسة عشر عاما من المُدَد النيابية البلدية «الإسلامية»، يجد الملاحظ صعوبة بالغة في استخلاص «سمْتٍ» أو برنامج يختص به مذهب إسلامي في مجال العمل البلدي. ولو تجوّزنا الحديث عن خصوصية، لألفيناها متمثلة أساسا في حكم المجتمعات المحلية وإقامة شبكات لانتقال الموارد وفق طرُق ليبرالية، وكذلك في تغيّر الفئات الاجتماعية المساندة للبلديات. في نهاية التحليل، هذه الخاصيات ليست ذات علاقة تُذكَر برؤية إسلامية، بالمعنى الحصري للكلمة(19).
الهوامش
(1) ع. أ. دوغان، الإشهار الهش. الحركة البلدية الإسلامية وفق مثال (قيصري)، تقدمت الإشارة إليه، ص. 38 ـ 39، 212 وما بعدها
(2)  غوكسيل أوزكويلو، «ثلاث سنوات سابقة، ثلاث سنوات لاحقة»، راديكال، 27 مارس/آذار 1997
ورد في: أ. حكمت، «سِجِلّ المسار البلدي لِـ «حزب الرفاه»: تقويما للنشاط البلدي الإسلامي في (تركيا)»، مقال تقدمت الإشارة إليه، ص. 80، إشارة 22.
(3)  يتأتى قسط أساسي من ميزانية البلديات من تحويلات مالية، قد تتأثر مبالغها بالسلطة المركزية التي تضطلع كذلك بدور محدِّد في صرف الأموال لفائدة المشاريع الضخمة المتعلقة خصوصا بالبنيات الأساسية.
(4)  ع. أ. دوغان، الإشهار الهش. الحركة البلدية الإسلامية وفق مثال مدينة قيصري، تقدمت الإشارة إليه، ص. 216 وما بعدها، 224، 242.
(5) نفس المصدر السابق، ص. 210 و ما بعدها، 273.
(6) ج. ـ ف. بيروز، «النظام الحضري الجديد لِـ «حزب الرفاه»: التهيئة الحضرية، الإدارة الحضرية والفن الحضري في (إسطنبول) منذ مارس/ آذار 1994»، مقال تقدمت الإشارة إليه، ص. 280.
(7) نفس المرجع السابق، ص. 286.
(8) ع. أ. دوغان، الإشهار الهش. الحركة البلدية الإسلامية وفق مثال مدينة (قيصري)، تقدمت الإشارة إليه، ص. 18 ـ 19، 219.
(9) ج. وايت، التعبئة الإسلامية في (تركيا): دراسة قي السياسة العامة، تقدمت الإشارة إليه، ص. 186.
(10) ع. أ. دوغان، الإشهار الهش. الحركة البلدية الإسلامية وفق مثال مدينة (قيصري)، تقدمت الإشارة إليه، ص. 217، 234، 248، 255، 260.
(11)  ز. كوسكون، العلويون، السنّة و... مدينة (سيفاس) الأخرى، تقدمت الإشارة إليه، ص. 323 ـ 324.
(12)  ج. وايت، التعبئة الإسلامية في (تركيا): دراسة قي السياسة العامة، تقدمت الإشارة إليه، ص. 178.
(13)  حول تقويم البذل انظر أيضا: إيليز ماسيكار، بين الوسيط و«رجل الشرف»: المهارة ومأزق الوجهاء في (تركيا)، بوليتيكس، 67، 2004، ص. 101 ـ 127.
(14) ع. أ. دوغان، الإشهار الهش. الحركة البلدية الإسلامية وفق مثال مدينة (قيصري)، تقدمت الإشارة إليه، ص. 234، 247، 248، 272.
(15) ج. وايت، التعبئة الإسلامية في (تركيا): دراسة قي السياسة العامة، تقدمت الإشارة إليه، ص. 18 ـ 19، 178 وما بعدها، 184ـ 189.
(16)  ع. أ. دوغان، الإشهار الهش. الحركة البلدية الإسلامية وفق مثال مدينة (قيصري)، تقدمت الإشارة إليه، ص. 202.
(17) إيليز ماسيكار، «جهوية مستحيلة، نظام جهوي مستبعَد: إدارة الإقليم في (تركيا) في زمن التقارب مع الاتحاد الأوروبي» في مجلة دراسات مقارنة شرق ـ غرب، 39 (3)، 2008، ص. 172 ـ 203.
(18) انتُخِب رئيس بلدية (أضنة) (Adana) سنة 1985 عن «حزب الوطن الأم» (Anavatan Partisi - ANAP)، وأعيدَ انتخابه سنة 1994. ثم انتقل إلى «حزب الطريق المستقيم» (Dogru Yol Partisi - DYP)، بعد ذلك رجع إلى «حزب الوطن الأم» لأجل خوض انتخابات عام 1999 البلدية؛ و انتقل في انتخابات عام 2004 إلى «حزب العدالة و التنمية». وسيكون الحزب الذي سيترشح عنه في مارس/آذار 2009 أحد الرهانات الرئيسية لحملة الانتخابات البلدية في مدينة (أضنة).
(19) أحرص على شكر كل من حامد بوزرسلان (Hamit Bozarslan)، لورنس لوير (Laurence Louer)، إيليزابت بيكار (Elizabeth Picard) و أُود سينيولس (Aude Signoles) لتعليقاتهم على نسخة سابقة من هذا النص.