خواطر

بقلم
شكري سلطاني
العزل والإنسلاخ
 حياة الإنسان فرصة سانحة لتحصيل المعرفة بالوجود وبحقيقة معناه وبخالق الوجود طالما مازالت في الحياة بقيّة باقيّة.حينما يُرجع الإنسان شريط عجلة الزّمان إلى الوراء متأمّلا مساره وصيرورة حياته وما آلت إليه الأمور، مسترجعا الذّكريات والأحداث والتّجارب والتعلّقات والعلاقات، ليتساءل هل استهلك زمانه بما يجب أن يفعل أو بما يجب ألاّ يفعل في محطّاته الحياتيّة الهامّة؟ هل أخطأ  أو أصاب في مواقف وقرارات مصيريّة أثّرت في نحت معالمه وبناء شخصيته؟ وهل وُفِّق في إختياراته أو خاب في تصرّفاته وتوجّهاته؟
قد يغشى الواقع بظواهره ومظاهره وبأفكار النّاس وأذواقهم وهذيانهم البصيرة، فتحوم الأوهام في النّفوس لتتسرّب  المثاليّات إلى الفؤاد والفكر  دون رويّة وبصيرة، كلّ حسب هشاشة نفسيّته واستعداده للتقبّل والتأثّر، متسبّبة في انحراف غالبية النّاس عن أهدافهم ومسارهم الإيجابي الذّي كان من الممكن أن ينغمسوا فيه بعين ثاقبة غير طامسة ولا حسيرة وبعقل منتبه ونفس متحفّزة للفعل والإنجاز، دون إهمال وتسويف وإنصراف عن أداء المهام الأساسيّة. فعوض أن يتّجه الإنسان إلى هدفه ينجرف وينحرف إلى هوامش ومواضيع لا تعنيه. وقد يسبق الحرص التعقّل، والبلادة على الرّصانة، والحماقة  على الكياسة، والخيبة والفشل على النّجاح والفلاح، لقلّة الخبرة والجهل والغفلة والغرور والوهم.
فهل من الممكن أن  يعيد الإنسان بناء ذاته وتصحيح مساره ومداواة اختلال رؤيته وفهمه بإستبدال النّظرة الأحاديّة ذات البُعد الواحد الظّاهري الشّكلاني النّفسيّ الذّاتي والوعي الآني بالظّروف والأحداث، لينتقل  إلى النّظرة الشّموليّة متعدّدة الأبعاد ظاهرا وباطنا، شكلا ومضمونا، بنيويّا ووظيفيّا؟ 
إنّ الأحكام القيميّة التّي يُصدرها الإنسان من وجهة نظره المنحازة لتمثّلاته ذات البُعْد الواحد للتّفسير والتّحليل لن تجُديه نفعا لتغيير ما يجب تغييره . أمّا الرّؤية ذات المقاربة الشّاملة فهي تعالج الإخلالات والنّقائص في الفهم والإدراك والممارسة وتُصلح الخلل والخور، وتُصحّح مسار الزّمان والإنسان بعُلوّ القيّم السّليمة وإعدام القيّم السّقيمة. فهل يجعل الإنسان لحياته قيمة، ولقيمه أصالة ونفعا وفاعليّة وجدوى للفعل والكدح دون توهّم وغشاوة المثاليّات وضغط الخطرات واللّحظات؟
فكما يتطوّر الإنسان وينمو في مراحل حياته فتتغيّر سُحنته وملامح جسمه، فهو مطالب بتغيير في أفكاره ومفاهيمه وعقليته ونفسيّته وعاطفته، لينصرف عمّا لا يعنيه ويُفيده، ويرتقي إلى مراقي عرفانيّة عليا وإلى أذواق وفنون سامية راقية، متجاوزا  بذلك قعر وحضيض السّفالة والنّذالة والرداءة والبلادة وسيّئ سلوك البشر ( mauvais fonctionnement) .
 لن يحصل التّغيير المنشود إلاّ بعد  عمليّة عزل الأنا ( le non soi ) والإنسلاخ من الأنا السّطحيّة، تلك الهويّة الذاتيّة الأوليّة (le soi périmé) التي ترسّخت قبل نُضجه ووعيه بالعادة والتّكرار والإنفعال والتّفاعل في ظاهر أحوال العبد وغفلته وتوثّبه وتجاربه الأولى في الحياة، حيث الإرتطام والإصطدام بالأحداث الحادّة والوقائع التّي تتولّد عنها الخيبات والنّكبات والنّدبات العاطفيّة الشّعوريّة الكامنة المنغرزة في النّفس والعقل الباطن.
إنّ إكتساب الدّربة والخبرة والدّراية في الحياة تقتضي الغوص في المعاني بمضامينها لا الانجذاب والتعلّق بظواهر المظاهر وشكلانيّة الحياة وزخارفها. كما تقتضي ضرورة معالجة بواطن المسائل والإشكاليّات بالعلم وبشحذ الهمّة وركوب مطايا العزم والكدح والعمل بجدّ وصبر ومثابرة. فليس المجد تمرًا أنت آكله أيّها الإنسان، ولا النّجاح والتألّق والتميّز والفلاح وَهْما وحُلما وخيالا متلبّسا بك يقيّدك دون إنجاز!!!
هيهات أن ينال العاجز من أتبع نفسه هواها، والكسول الخامل، والمغرور الواهم، والرّعديد الجبّان الخائف ما يصبو إليه ويرجوه !!! فما نال العُلى والسّؤدد إلاّ الشُجاع المقارع، الجسور المغامر، الكادح اليقظ، الفطن الحاذق .
إنّ تجاوز ظاهر الشّكل بمعنى الباطن من البصيرة والعلم، فالقشرة الحاجبة للفهم والغشاوة المانعة  للإدراك لا يمكن رفعهما إلاّ بعملية الإنسلاخ والتحرّر من القوقعة الذاتيّة والغربال اللاّشعوري الكامن خلف الشّعور.
فكما تنسلخ الحيّة من جلدها والجرادة من شرنقتها، فليتحرّر الإنسان من عوائده وعاداته وسجنه وسجّانيه وقيوده وجهله ووهمه وغروره. فمتى يستفيق من كبا به جواده وخاب سعيه من سُباته ونومه العميق؟ فلا نباهة ذاتيّة وإجتماعيّة وتجاوز كل مظاهر  الغفلة والإستحمار إلاّ بالعزل والإنسلاخ.