الدولة في الحديث النبوي

بقلم
الهادي بريك
الحلقة الثالثة - معنى الميتة الجاهلية
 تواترت الميتة الجاهليّة في الحديث النّبويّ الصّحيح. فما هي الميتة الجاهليّة؟ أخرج مسلم عن أبي هريرة أنّه ﷺ قال: «من خلع يدا من طاعة لقي اللّه يوم القيامة لا حجّة له. ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهليّة». وكذلك قوله ﷺ فيما أخرجه الشّيخان عن إبن عبّاس: «من كره من أميره شيئا فليصبر فإنّه ليس أحد من النّاس خرج من السّلطان شبرا فمات عليه إلاّ مات ميتة جاهلية». بداية لا تلازم بالضّرورة بين الجاهليّة والكفر. لا تلازم بالحتميّة، قد يلتقيان وقد يفترقان. تكون الجاهليّة كفرا إمّا عندما تكون في الإعتقاديّات السّت التي لا تحتمل عدا الكفر أو الإيمان أو عندما تكون إنكارا صحيحا صريحا لمعلوم من الدّين بالضّرورة من بعد ما تبيّن له. ذكر ﷺ أنّ في أبي ذرّ رضي اللّه عنه جاهليّة، ولكنّها جاهلية غير مكفّرة ولا مخرجة من الإسلام، ولكنّها كبيرة طبعا. وفينا نحن اليوم جاهليّات كثيرة بمثل ذلك الوزن وأشدّ منه، ولكنّها غير مخرجة من الملّة. المهدّد هنا بالميتة الجاهليّة ـ والميتة هي الخاتمة. والعبرة بالخواتيم كما جاء في الحديث الصّحيح ـ هو الذي يخلع يده من طاعة دولة بايعها، ولا يبايع المؤمن عدا دولة شرعيّة، سواء بمعنى الشّرعيّة الإنتخابيّة بالتّعبير المعاصر. أي بمعنى التّبايع المتراضي من المتعاقدين (الدّولة والمواطن)، وهذا المعنى أولى عندي. أو بمعنى إعلان المرجعيّة الإسلاميّة دستورا للقوانين والخيارات ولزوم ذلك قدر المستطاع. والحدّ الأدنى هو عدم التّنكّر له.
الميتة الجاهليّة هي إذن النّكوص عن الوفاء لدولة شرعيّة (بأيّ المعنيين السّالفين أو لكليهما معا) من بعد بيعة إختياريّة بالتّراضي من لدن الطّرفين المتعاقدين. المقصود هنا هو الخروج عن الأمّة بأسرها، إذ المتّفق عليه أنّ الأمّة لها قيادة واحدة حتّى لو تعدّدت الحواضر والشّعوب والقبائل والمجتمعات وإنتظمت الأمّة تحت سقف النّظام الفدراليّ أو الكنفدراليّ. وعادة ما لا يكون الخروج عن الأمّة إلاّ ولاء لغيرها أو ردّة. وعادة ما تكون الرّدّة بهذه الصّيغة ردّة مستوجبة للحدّ بسبب أنّها خروج على الأمّة، وليس خروجا منها فحسب. 
كما يؤكّد الحديث الآخر المذكور أعلاه أنّ الميتة الجاهليّة هي ذاتها، أي من لم يصبر حتّى على ما أذن فيه ضعف إيمان أي التّغيير بالقلب، وأفضى به ذلك إمّا إلى الخروج عن الأمّة (إذ الخروج عن السّلطان الشّرعيّ للأمّة هو خروج عن الأمّة ذاتها) بل قد يكون خروجا عليها. والخروج عليها يكون في الأعمّ الأغلب بالحرابة وحمل السّلاح. وهذا يؤكّد مرّة أخرى أنّ الصّبر المقصود في الحديث (بل في أحاديث كثيرة يسيء كثير من النّاس حسن فهمها بحسن قصد أو بسوء قصد) هو الصّبر على التّغيير بالقلب (وهو أضعف الإيمان) أو هو صبر على عدم إستخدام القوّة المسلّحة في وجه الدّولة. سيما إذا قدّر أهل التّقدير أنّ ذلك يفضي إلى منكر مثل المنكر المراد تغييره، أو منكر أكبر منه. يتأكّد مرّة أخرى أنّ الصّبر المأمور به مرّات في كثير من الأحاديث السّياسية هو صبر إيجابيّ، وليس سلبيّا يصبح به المسلم مطيعا لدولة فيما حرّم اللّه سبحانه. 
الميتة الجاهليّة المذكورة في الحديث الأوّل هي نفسها إذن المذكورة في الحديث الثّاني. وسمّيت جاهليّة لأنّها كبيرة عظمى (قد لا تصل إلى حدّ الكفر المخرج من الملّة) وسبب جاهليتها أنّها نقضت عروة الأمّة وقيمة إجتماعها ووحدة صفّها. سيما أنّ الآثار المترتّبة عن ذلك سيّئة، إذ أنّ ذهاب ريح الأمّة لو أضحى ذلك الخروج ظاهرة إجتماعيّة مؤذّن بتسلّل العدوّ. وليس في الإسلام ـ فيما قرأت ودرست وعلمت ـ ذنب أعظم عند اللّه سبحانه من نقض عرى الدّين بالكفر والرّدّة، أو نقض عرى الأمّة بالخروج عليها. وعادة ما يكون الخروج عليها ورقة جديدة في أيدي خصومها وأعدائها، ولذلك شدّد القرآن الكريم كلّ التّشديد على فريضة رصّ الصّف الواحد، حتّى وهو متنوّع متعدّد. بل عدّ أيّ طاعة لغير الأمّة ومن يمثّلها كفرا. قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾(آل عمران:100). توافقت كلمة المفسّرين والعلماء غابرا وحاضرا على أنّ الكفر هنا هو كفر التّفرّق والتّمزّق. ربّما  لا يكون كفرا مخرجا من الملّة، ولكنّ وصمه بالكفر يعني أنّ تفريق أمر الأمّة مهما كانت مختلفة الآراء ومتعدّدة المذاهب هو الذّنب الأعظم. ذلك أنّ الإسلام جاء لإنشاء أمّة تحيا به، فإذا لم يكن ذلك كذلك فلم الإسلام؟ ولم الأمّة أصلا؟. المسألة الأخرى الجديرة بالذّكر هنا هي وضعنا نحن اليوم، هل ينسحب علينا هذا الحكم، أي أنّ موتاتنا هي موتات جاهليّة بسبب أنّه ليس لنا بيعات في أعناقنا لسلطان أو لدولة؟ أكثر المسلمين اليوم ممّن لهم بيعات لدولة تقع في الأرض الإسلاميّة هم مكرهون على ذلك بوجه أو بآخر من وجوه الإكراه. وبعضهم لا يعي قيمة البيعة والتّعاقد، فالأمر عنده كشربة ماء. وقليل من يعتقد أنّ تلك البيعة شرعيّة، إذ أنّ أكثر المسلمين يعتقدون أنّ الإنتخابات التي تنظّمها الدّولة العربيّة هي مسرحيّات هزليّة سيّئة التّأليف والإخراج معا كما يقولون. ولكن يتّقي بعضهم بذلك شّرا، أو يأمل بعضهم الآخر خيرا. حتّى في الأنظمة الملكيّة التي يدّعي (أمراؤها) أنّهم أمراء المؤمنين وأنّهم يعملون بشريعة الإسلام لا يختلف الأمر كثيرا. إذ عرّت ثورة التّواصل الأخيرة أكثر ممّا جحدته اللّيالي الخاليات. وكثير من المسلمين ـ بل هم مئات من الملايين ـ من أصول غير عربيّة ولا إسلاميّة. هم أقليّات إسلاميّة في بلاد غير إسلاميّة. هؤلاء لا يتعرّضون لمثل تلك المسرحيّات البليدة، ولكنّهم يشاركون في إنتخابات بلدانهم، أو لا يشاركون. هذا لا يعنينا. الذي يعنينا هنا أنّ هؤلاء جميعا هل تكون ميتاتهم ميتات جاهليّة بسبب أنّه ليس لهم بيعات في أعناقهم؟ الجواب عن هذا : طبعا لا. لم؟ لأنّ الميتة الجاهليّة الواردة في الحديث تكون من لدن مسلم بايع دولة ما بيعة متراضية تحمل قيمة التّعاقد وكانت تلك الدّولة مكتسبة لشيء ما من الشّرعيّة بأيّ معنى من معانيها ولكنّه بعد ذلك نكص عن تلك البيعة ونقض عهده وتولّى، بل خرج عن الدّولة نفسها وخرج عن الأمّة. أو ربّما خرج عليها محاربا بوجه ما من وجوه الحرب. أمّا الذي لم يضع عنقه منذ البدء في بيعة مع دولة لأيّ سبب كان فعمّ ينكص؟ إنّما يكون النّكوص من بعد إبرام حرّ لا  إكراه فيه. 
ملايين مملينة من مسلمي الأقلّيات في البلاد الغربيّة ليس لهم أيّ بيعة بالمعنى الإسلاميّ. إنّما هي تزكية لحكومة أو لنظام وفق قواعد معروفة تعتلج فيها الحقوق والواجبات التي ينصّ عليها دستور مكتوب معلوم. الوفاء هنا فيما هو مستطاع مطلوب، إلاّ فيما يتعارض بصحّة وصراحة مع الإسلام ولا يمكن لذلك المسلم تجنّبه، وهذا قليل نادر. أمّا بيعات الإكراه أو عدم الرّضى أو البيعات التي تتمّ بين المسلم الغربيّ والدّولة الغربيّة فلا يشملها هذا التّهديد أن يموت المسلم ميتة جاهليّة. الإستطاعة شرط مشروط لتنزّل ثواب أو عقاب. وفي ذلك يقول ﷺ فيما هو متّفق عليه بين الشّيخين عن إبن عمر (فيما إستطعتم) عقب كلّ بيعة يأخذها من أحدهم. حتّى بيعته هو ﷺ (وطاعته هي طاعة لله نفسه بنصّ القرآن الكريم نفسه) مشروطة بالإستطاعة. فما بالك عندما يكره المسلم على بيعة أيّ دولة أو نظام وهو مكره جزئيا أو كلّيا؟ التّهديد بالميتة الجاهليّة إذن وخلاصة تعني المكانة العليا التي أولاها الإسلام للجماعة التي تمثّلها الأمّة. والأمر معقول مفهوم ومقصّد معلّل، وليس هو من الطّلاسم التي لا يعيها كلّ أحد. جاء كلّ ذلك التّشديد بسبب قيمة الوحدة والصّف المرصوص حتّى وهو متنوّع مختلف متعدّد. ليكن ذلك التعدّد حزبيّا أو فكريّا أو مذهبيّا أو مدرسيّا كلاميّا أو لونيّا أو عنصريّا أو عرقيّا أو لسانيّا أو حتّى دينيّا (بسبب أنّ الإسلام يعترف لغير المسلمين في دائرته الجغرافيّة بحقّ التعبّد حتّى وهو يقرّ بكفرهم وببطلان معتقدهم). 
فلا تكون الميتة جاهلية إذن إلاّ إذا كانت خروجا إمّا عن الأمّة بأسرها أي عن ثوابتها وعقائدها ومحكماتها أو خروجا عليها، أي حربا ضدّها. كيف لا يموت هذا ميتة جاهلية. وهو شبيه بما يعبّر عنه اليوم بالخيانة الوطنية العظمى التي لم تخلتف القوانين الأرضية على إنزال عقوبة القتل بمقترفها؟ 
رسالة الإسلام يمكن إختصارها في كلمتين لا ثالث لهما : توحيد اللّه الواحد الأحد سبحانه توحيدا عفوا من كلّ شائبة شرك. وتوحيد الصفّ البشريّ قدر الإمكان على أسّ العدل والكرامة. حتّى يكون سلام وأمن. فإن تعذّر توحيد البشريّة جمعاء قاطبة (بسبب قانون الزّوجيّة الذي رضيه اللّه سبحانه في كونه وإجتماع عباده) فلا أقلّ من توحيد الصّف الإسلاميّ. أمّا توحيد عفوا من كلّ شائبة شرك وصرم لوحدة النّاس أو لوحدة المسلمين فهو توحيد كاذب أو غير مقبول. ومثله توحيد صفّ النّاس وشرك باللّه سبحانه أو كفر به فهو كذلك لا عبرة به. 
وبذلك يرسم الإسلام رسالته بخطّين متكافلين : خطّ أفقيّ مع النّاس. وخطّ عموديّ مع اللّه سبحانه. ومع كلّ ما تقدّم فإنّه ما ينبغي للمسلم إلاّ أن يعمل قدر المستطاع على بناء الدّولة التي يبايعها، فلا يموت إلاّ وفي عنقه بيعة. عدم وجودها وعدم موته ميتة جاهليّة بسبب ذلك لا يعفيه من العمل مساهمة مع غيره لإيجادها. وعندما يموت وهو يسعى لإيجادها فهو يموت على شعبة من شعب الإسلام بإذن اللّه سبحانه إذ العبرة بالخواتيم كما قال ﷺ.