حديث في الأدب

بقلم
أ.د.وليد قصاب
موقف الأدب الإسلاميّ من المذاهب الأدبية الغربية (2/2)
 إنّ في الفكر الغربي الذي أنتج هذه المذاهب والتّيارات أمراضا كثيرة، وقد بدأت مراجعة إنجازاته على أيدي كثيرين من مفكّريه وفلاسفته أنفسهم. بدأت – مع موجات التّفكيك وما بعد الحداثة – حقبة من نقد هذا الفكر وتحليله ونقضه على أيدي مفكّرين ينتمون إلى ثقافات مختلفة. 
يقول «ألبير ليونار» مصوّرا عمق الأزمة في الحضارة الغربيّة المعاصرة: «إنّ القرن العشرين هو قرن النّزاع والتّغييرات السّريعة، وكان من المحتّم أن يصبح الأدب بدوره موضوعا لهجمات مسعورة.. إنّ الحضارة الحديثة تنهار، وقد قتلها الفكر وكبرياء المعرفة.. إنّ الذي شهدنا ولادته منذ القرن العشرين – وخصوصا منذ عشرين عاما – إنّما هو أزمة قيمة، ونزع لروحانيّة المثل الأعلى، وانحطاط للحضارة، وتعفّن للثّقافة. فهل نحن ماضون نحو همجيّة جديدة، أم نحن واقعون في شركها وقوعا كليّا قريبا؟ إنّ أوروبا – وريثة الفكر الإغريقي والحقّ الرّوماني والمسيحيّة – تهتزّ على أسسها، وتترنّح نحو الهاوية، أمّا أمريكا فهي تشهد الانحطاط قبل أن تبلغ النّضج..»(1).
إنّ العوار -إذن- كثير في هذه المذاهب الأدبيّة الغربيّة، ويزداد هذا العوار أكثر في تيّارات الحداثة وما بعد الحداثة، فالحداثة تُقَدّم لنا باستمرار على أنّها عقيدة فكريّة أكثر من كونها آراء أو أفكاراً في اللّغة، أو الأدب، أو قضاياهما المختلفة، فالأدب الحداثي – مهما كان شكله الفنّي، أو جنسه، أو تقاناته التّعبيريّة – لا يحمل هذه التّسمية ما لم يصدر عن تصوّر فكريّ معيّن يتبنّى «الدّنيويّة» أو «العلمانيّة» أو «العقلانيّة» أو ما عبّر عنه أغلب فلاسفتهم وكتابهم بنقل مركز الكون من اللّه إلى الإنسان، أي أن يحلّ الإنسان محلّ اللّه – تعالى اللّه عن ذلك – وينتقل دور الخالق إلى المخلوق في التّشريع ووضع الأحكام والقوانين، وضبط مسيرة الإنسان والحياة، وفق الأنظمة التي يختارها هذا الإنسان، لا تلك التي تفرض عليه من إله، أو وحي، أو دين (2). ولكن هذه المذاهب والتّيارات – على ما فيها – لن تخلو نهائيّا من نقاط إيجابيّة يمكن استثمارها. 
وإنّ الأديب – مادام مزوّدا برؤية إيمانيّة – لن يخشى عليه على الإطلاق منها، بل هي على العكس من ذلك تماما – تزوّده بتقانات فنيّة، ومعارف منهجيّة، تجعله أقدر على تحقيق رؤيته العقديّة، وإيصالها إلى الآخرين بشكل أعمق. 
إنّ الأديب – مادام يمتلك هذه الرّؤية الإيمانيّة العميقة – مستبينة أمامه الدّرب، لا تعمى عليه المسالك، وهو قادر – من غير وصاية، ولا تعليم، ولا إلزام – على إدراك ما ينفع وما يضرّ، وما يتّفق مع التّصوّر الإسلامي وما يتنافر معه، وهو لذلك يخضع كلّ ما يطلع عليه للغربلة والاصطفاء، وهما جوهر كلّ تعامل مع أيّ فكر آخر. 
ثمّ إنّ هذه الآداب الغربيّة المعاصرة قد حقّقت – من غير شكّ – إنجازات باهرة على صعيد الشّكل والمضمون، على مستوى الفنّ والموضوع، وإنّ بعضا من هذه الإنجازات – قلّ أو كثر – هو رصيد إنساني عام، أو هو خبرة عالميّة يمكن أن يستفيد منها بنو البشر جميعا في كلّ مكان. 
ولكن على الأديب المسلم -دائما- ألاّ يقع أسير الاستلاب والانبهار بكلّ ما يصل إليه من الفكر الغربي، فهذا الفكر مليء بالأمراض والانحرافات، وهو مصاب بالكثير من الشّذوذ والغلوّ والخبال، ومن ثمّ لا يمكن أن يكون مثالا يحتذى، ولا أن يكون ما يقدّمه هو النّموذج الإنساني المطلوب، ولا يمكن أن يعتمد عليه مصدرا وحيدا للمعرفة، ولكنّه – من غير شكّ – مصدر مهمّ من مصادرها. 
إنّ استحضار ذلك يجنّب الأديب المسلم أمرين محذورين لا يجوز الوقوع فيهما، وهما: الانبهار، والاستهانة. 
إنّ هذه المذاهب الأدبيّة الغربيّة- إذن وعلى كلّ ما ذكرناه عنها – ليست شرّا كلّها، ولا هي مرفوضة – في منهج الأدب الإسلامي – جملة وتفصيلا، ولا يجوز غلق النّوافذ – لو قدرنا – دونها، لأنّ هذا الغلق ليس في مصلحة الأدب الإسلامي أصلا. 
إنّ الأدب الإسلامي مدعو – قبل أي مذهب أدبي آخر – إلى تحسين أدائه، وإلى الارتقاء بتقاناته الفنّية والتّعبيريّة والوصول بها إلى قمّة الجودة والتّميّز. وهذا، عدا عن أنّه جزء من تصوّره الفكري «إنّ اللّه يحبّ إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه» – ضروري، وفي هذا العصر بالذّات – لجملة أسباب، منها: 
* أن ينجح في اختراق ذائقة المتلقي، وأن يؤثّر فيه تأثيرا بليغا، حتّى ينجح في أداء رسالته، وتحقيق وظائفه وغاياته، وهي – اليوم – وظائف كثيرة: سياسيّة، واجتماعيّة، ونفسيّة، وتاريخيّة، وتربويّة، إلى جانب الوظيفة الأساس، وهي الوظيفة العقديّة، التي تستهدف إيصال خطاب الإسلام إلى أوسع نطاق من المتلقين، وبأعلى قدر من الفعاليّة والتّأثير. 
* أن يواكب حركة الفكر المعاصر، وأن يواكب إيقاعها، وما استجدّ في ساحاتها من تقانات رفيعة، ومعطيات باهرة، على مستوى الفكر وعلى مستوى الفنّ معا، إي إنّ على الأدب الإسلامي أن يتكلّم بلغة العصر، وبأسلوب العصر، حتّى يفهمه العصر، ويتفاعل معه. 
* أن يحقّق عالميّته المنشودة، التي هي جزء من عالميّة الدّين الذي يصدر عنه، ويقبس من مشكاته. 
* أن يحقّق الأدب الإسلامي – إلى جانب تقديم تصوّراته الخاصّة – وظيفة هامّة من وظائفه الكثيرة، وهي هدم الآراء الباطلة، والأفكار المنحرفة، التي تحملها الفلسفات البشريّة، والعقائد الدّنيويّة الوضيعة، وبيان ما فيها من العوار والزّيف، والمخالفة للطّبيعة الإنسانيّة السّويّة، ولسنن اللّه في الكون، فيكون هذا تحصينا للمتلقي ضدّها، وحماية له من الوقوع في شركها، ثمّ حثّا على البحث عن البديل الآخر. 
وقد أشار الإمام الشّوكاني إلى هذه الوظيفة الدّفعيّة للشّعر، وهي مكافحة أهل البدع والضّلالات، وتزييف أقوالهم، وعدّ ذلك نوعا من الجهاد. 
قال: يدخل في هذا – أي الشّعر المقبول الذي يرضاه الإسلام – «من انتصر بشعره لأهل السّنة، وكافح أهل البدعة، وزيف ما يقوله شعراؤهم من مدح بدعتهم، وهجو السّنّة المطهّرة، كما يقع كثير من شعراء الرّافضة ونحوهم، فإنّ الانتصار للحقّ بالشّعر، وتزييف الباطل به، من أعظم المجاهدة، وفاعله من المجاهدين في سبيل اللّه، المنتصرين لدينه، القائمين بما أمر اللّه بالقيام به»(3).
ولن يتحقّق للأدب الإسلامي أيّ من هذه الغايات ولا غيرها إذا تقوقع على نفسه، أو عاش منعزلا عما يستجد في ساحات الآداب العالميّة المختلفة من رؤى وأفكار وأساليب، بل عليه أن يقتحم ساحتها، وأن يتعرّفها، ويتعمّق تعرفها، وبين يديه ميزانه العقدي الذي يزنها به، فيقبل ويرفض، ويأخذ ويدع. 
على الأديب المسلم ألّا يتوجّس خوفا من التّعامل مع المذاهب والتّيارات الأدبيّة والفكريّة الغربيّة، وألّا يحجم عن هذا التّعامل ما دام مزوّدا بالرّؤية الضّابطة، وهذا مذهب السّلف الصّالح الذين أخذوا من الآخر ما يصلح لهم، ونبذوا ما لا يصلح.
يقول ابن رشد في نصّ بالغ الدّلالة في ضبط منهج التّعامل مع الثّقافات الأخرى: «يجب أن نقف على آرائهم، ونتعرف على أفكارهم، ونقرأ كتبهم، فما كان منها من صواب قبلناه، وشكرناهم عليه، وما كان خطأ رددناه، ونبّهناهم إليه..».
إنّ على الأديب المسلم ألاّ يهتمّ كثيرا بمصادر الأفكار أو هويّات مؤسّسيها ما دامت حكمة يمكن الاستفادة منها، وإنّ خصوصيّته «الإسلاميّة» في الأدب لا تعني – على الإطلاق – انغلاقه على ما عنده، أو عدم انفتاحه على الآخرين.
إنّ الذي لا شكّ فيه أنّ «الإسلاميّة» في الأدب غير الكلاسيكيّة، والرّومانسيّة، والواقعيّة بأشكالها، والرّمزيّة، والسّرياليّة والحداثة، إنّ بينه وبين هذه المذاهب والتّيارات لبونا شاسعا، وإنّ نقاط الاختلاف بينه وبينها أكثر بكثير من نقاط الالتقاء، وإنّ هذا الاختلاف ليزداد أكثر في المذاهب والتّيارات الأكثر حداثة(4)، ولكنّ ذلك كلّه لا ينبغي أن يحجب عن معرفتها، أو عن الاستفادة من النّقاط الإيجابيّة فيها مهما شحّت أو ندرت.
ولكنّ الأدب الإسلامي في هذا التّعامل أو الأخذ لا يفقد على الإطلاق. خصوصيّته، وهو لا يحاكي نموذجا بعينه، أو يتماهى في مذهب ما، أو يذوب في تيار، وهو لا يمدّ عينيه إلى ما عند الآخرين إلاّ ليأخذ ما يتّفق مع تصوّراته الفكريّة ممّا يساعده على تحسين أدائه الجمالي والفكري، والارتقاء بمستواه الفنّي والمضموني، ويزيده نضجا واكتمالا، وتأثيرا وجمالا .
الهوامش
(1) أزمة مفهوم الأدب الفرنسي في القرن العشرين، ألبير ليونار، ترجمة زياد عودة، وزارة الثقافة، دمشق، 2001م، ص9.
(2) انظر ما كتبناه في حوارية «خطاب الحداثة في الأدب: الأصول والمرجعية» دار الفكر، دمشق، 2005م، ص121، وما بعدها.
(3) انظر فتح القدير للشوكاني،4/121.
(4) انظر د. عماد الدين خليل، حول المضمون الفكري للأدب الإسلامي المعاصر، إسلامية المعرفة، العدد 58/1430/2009م، ص7.