بالمناسبة

بقلم
نجم الدّين غربال
السبل السائدة لتحليل ظاهرة الفقر ومحدودية المعالجة (الحلقة الثّالثة)
 1 - مُتطلّبات التّحليل
يتطلّب تحليل ظاهرة الفقر كظاهرة اجتماعيّة إطارا معرفيّا يتضمّن أصولا وأحكاما وقيما، ويُمكّن من بلورة بنية تصوّريّة تشمل مفاهيم دقيقة وتقوم على قواعد وفروض أساسيّة تُساعد على القيام بتحليل ظاهرة الفقر وذلك بهدف الاهتداء الى فرض مُفسّر للظّاهرة، فرض نكشف مدى تطابقه مع الواقع، فإن تطابق معه يُمكن اعتباره قانونا نضع وفقا له نظريّة للظّاهرة تساعد فيما بعد على وضع سياسات للمعالجة، وإن لم يتطابق ذلك الفرض المفسّر مع الواقع نعيد النّظر في المفاهيم والقواعد والفروض الأساسيّة التي انطلق التّحليل منها، كما يُمكن لنا أن نعيد النّظر في الإطار المعرفي برُمته وما تابعه.
ومن المُفيد أن نُلقي الضّوء على التّطور الذي حصل على مستوى تحليل ظاهرة الفقر ضمن الإطار المعرفي الوضعي السّائد الى اليوم، لنُدرك إن كانت تلك التّحاليل قد اهتدت الى الفرض المفسّر للظّاهرة، أي إن كانت امتلكت القدرة، على فهم جوهر الفقر والأسباب الحقيقيّة له من عدمه، وبالتّالي مدى توصّل صناّع القرار، وفقا لذلك الفهم، لوضع سياسات ناجعة لمعالجته؟
2 - الإطار العام للتّحليل الوضعي للفقر
اخترنا وصف «الوضعي» للتّحاليل نظرا لعدم انطلاقها من أصول قرآنيّة سماويّة، وقد شكّلت المقاربة التّقليديّة للفقر، ضمن النّظرة الدّنيويّة للحياة المحكومة بطغيان البعد المادّي فيها، الإطار العام لمجموع التّحاليل التي سادت طيلة القرون الأربعة الأخيرة للفقر، وقد شكّلت كلّ من «الفرديّة» و«النّفعية» جذورا لهاته المقاربة، في حين تمّ الاعتماد على مؤشّر ذي طابع نقدي لمعرفة مستوى حياة الأفراد والمجتمعات الى أن بيّن الاقتصادي والفيلسوف «أمارتيا سن»(1) محدوديّة الاعتماد على فرضيّة أنّ الدّخل مؤشّر حسن لمعرفة مُستوى حياة الأفراد، منطلقا من مفهوم مُميّز للفقر مضمونه أنّ الفقر ليس مُجرّد تدنّ للدّخل بل هو حرمان من القُدرات الأساسيّة وأنّ سبب ذلك يكمن في العقلانيّة الاقتصاديّة للفرد المحكوم بنفعه الخاصّ.
وانطلاقا من هذا المفهوم الجديد للفقر، تمّ الأخذ في الاعتبار ما يلي:
- مجموع السّلوك البشري من تضامن وتعاضد ومُثل للوصول الى اختيارات عقلانيّة جماعيّة تتضمّن اختيارات الأفراد.
- تحقيق التّرابط الوثيق بين الإنسان والاقتصاد بتحقيق النّمو والتّنمية معا لتحقيق المصالحة بين الحرّيّة والمساواة.
-اعتماد تساوٍ حقيقي للحرّيات التي تعكس تساوي الفرص لاختيار نوع الحياة التي يرتضيها كلّ إنسان.
- كلّ من الدّيمقراطيّة والسّوق والدّولة مؤسّسات ضامنة لمسارات القدرة التي تُمثل حريّة الشّخص في القيام بمجموعة من الوظائف يُحقّق من خلالها رفاهيته (2). 
3 -  تطوّر التّحاليل الوضعيّة لظاهرة الفقر
اختلف العلماء منذ القرن الثّامن عشر في تحديد أسباب الفقر باختلاف وجهة نظر كلّ منهم للفقر ذاته، فمنهم من ذهب الى البطالة كسبب للفقر معتبرا إيّاه حالة ناتجة عن غياب الدّخل «ماندفيل (1670-1733)»(3)  ومنهم من رأى في غياب التّعاقد الاجتماعي سببا للفقر الذي نُظِرَ اليه على أنّه حالة اجتماعيّة يغيب فيها النفع المادّي «جريمي بانتام(1748-1832)» (4)، ومنهم من اعتبر الفقر انعداما للغذاء بسبب مْيول السّكان الى الازدياد بوتيرة أسرع من مستوى متوسّط معاشهم ليصل الى القول أنّ الحلّ في الحدّ من النّمو الدّيمغرافي «ت. ر. مالتيس (1766-1834) (5)».
ومع ج. س. ميل(1806-1873) (6) ارتقى النّظر الى الفقر على أنّه إثم اجتماعي ناتج عن عدم إعطاء أيّ إعتبار للإنسان، وعن التّفاوت في شروط توزيع حقوق الملكيّة وعن المستوى المنخفض الذّهني والتّربوي والأخلاقي للنّاس، وقد طرح حينها حلولا من ضمنها إصلاح المناخ المُوَلّد للفقر والرّفع من المستوى التربوي والأخلاقي للطّبقات الشّغيلة عبر التّعليم للحدّ من نمط تكاثرهم معتبرا أنّ للدّولة دورا في تحقيق ذلك.
ومع كارل ماركس(1818-1883)(7) اعتبر الفقر من جنس اقتصادي مع الاعتناء أكثر بأسباب الفقر بهدف تقويض النّظام الرّأسمالي، هذه الأسباب من وجهة نظر ماركسيّة تتمثّل في وجود النّظام الرّأسمالي ذاته بملكيّته الخاصّة لنمط الإنتاج ووسائله وهيكلته غير العادلة المحكومة بالرّغبة في تحقيق أكبر قدر ممكن من الرّبح ومنطق تراكم رأس المال، وتبعا لذلك فإنّ مُعالجة الفقر حسب هذا التّحليل تتطلّب إزالة تلك الأسباب، وذلك من خلال خوض صراع الطّبقات وتغيير نظام الملكيّة ونظام علاقات الإنتاج ونمطه.
ومع ألفراد مارشال(1842-1924)(8) اتسعت النّظرة للرّفاه الاقتصادي لتحتوي المعنوي أيضا ممّا انعكس على اتساع مفهوم الفقر ليشمل ليس فقط غياب الرّفاه الاقتصادي بل وكذلك المعنوي وذلك نتيجة غياب الإنسان المهذّب عقليّا، ممّا يستوجب حسب وجهة النّظر هذه، توفّر الإرادة البشريّة الموجّهة بفكر حذر لتغيير خاصّية البشر السّائدة ولخلق شروط حياة تمكّن من إيجاد الإنسان المهذّب ليثمر سلوكه رفاها اقتصاديّا وآخر معنويّا.
وبعد أزمة 1929 التي عمّقت أزمتي الفقر والبطالة برز فكر ج. م. كاينز (1883-1946) (9) الذي اعتبر التّعاطي مع النّظام الرّأسمالي في كلّيته على أساس مقاربة جزئيّة وراء تعمّق الأزمة، لذلك رأى ذلك الفكر أنّه لا غنى عن اعتماد مقاربة كلّية للاقتصاد في شكل دارة بالاعتماد على الدّخول الكلّية وكذلك المرابيح والإنتاج والتّشغيل والاستثمار والادّخار.. واعتماد مقولة «الطّلب المنتظر» مع إعطاء الأولويّة في السّياسات للتّوظيف الكامل والنّمو على أن يكون للدّولة دور هامّ في هذا الاتجاه، وذلك عبر خلق الوظائف وخفض نسبة الفائدة لدفع الاستثمار والطّلب.
ومع ج. راولز (1921-2002)(10) برز الفقر على أنّه غياب المنافع الأساسيّة، وأنّ ذلك الغياب هو نتيجة حجاب الجهالة لدى المتعاقدين حين قبلوا بمضمون العقد الاجتماعي، جهلا بالخير وبميولاتهم النّفسيّة ونتيجة غياب العدل والحرّية والتّعاون، ولذلك فإنّ الحلّ يكمن في تحقيق العدل كإنصاف، وبه يُحدّد الكسب الذي به يقي الإنسان نفسه من الفقر وليس أصوله الاجتماعيّة أو العرقية أو غيرها، وأنّ الإنصاف هو إنصاف كلّ النّاس عبر توزيع عادل للثّروات، ولهذه العدالة كإنصاف مبادئ لا بدّ من تكريسها وهي التّعاون والمساواة في الحرّية وفي الفرص.
وبقي الفكر الوضعي يتفاعل الى أن برز طرح «أمارتيا سن» حين اعتبر الفقر في حقيقته حرمانا من القدرات الأساسيّة وليس مجرّد تدن للدّخل كما تذهب الى ذلك العقلانيّة الاقتصاديّة للفرد المحكوم بنفعه الخاص.
4 -  واقع الفقر في العالم
تخبرنا توقّعات التّقارير الدّوليّة(3)  أنّه بعد عامين من الجائحة، لم يتمكّن العالم من تحقيق نجاح يذكر في القضاء على الزّيادة التّاريخيّة في معدّلات الفقر مع تباطؤ النّمو الاقتصادي وارتفاع أسعار المواد الغذائية وتراجع المقدرة الشرائية لفئات عريضة من المجتمعات.
تسببت جائحة كورونا في زيادة معدلات الفقر في العالم الى مستوى تجاوز معدلات الفقر التي افرزتها الازمة المالية الآسيوية بل هناك من ذهب الى اعتبارها الزيادة الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية.
وبعد جائحة كورونا عرف العالم حدثين لا يزالان يتطوران، الأول الضغوطات التضخمية الواسعة النطاق والثّانية الحرب الدائرة في أوكرانيا وقد كانت لكليهما آثار سلبية على مستوى النّمو الاقتصادي العالمي كما تم تسجيل ارتفاع أسعار المواد الغذائية وتراجع المقدرة الشرائية لفئات عريضة من المجتمعات مما زاد أوضاع الفقر في العالم سوءا.
وقد قدم «تقرير الفقر والرخاء المشترك لعام 2022 «رؤى لا تزال تتفاعل حول كيفية تصحيح المسار من خلال سياسات الماليّة العامة والمحفزة للنّمو، والمُساندة المالية للبلدان التي نضبت قدراتها المالية بسبب جائحة كورونا.
خاتمة 
يُؤكّد واقع الفقر في العالم عدم ملاءمة القوانين التي تمّ وضعها ضمن المقاربة الوضعيّة التّقليديّة والاعتماد عليها للوصول الى معرفة دقيقة للفقر واعتمادها للمعالجة، ممّا يدفع الى إعادة النّظر في الفروض المفسّرة التي توصّلت إليها التّحاليل التي سادت منذ قرنين من الزّمن، وكذلك في المقاربة والإطار العام بما يحتويه من أصول وأحكام وقيم، وما أفرزه من مفاهيم وقواعد أساسيّة وفرضيّات كذلك، هذا ما سنبحثه في الحلقات القادمة استئناسا بـ «التحرير والتّنوير» للعلاّمة محمد الطّاهر بن عاشور.
الهوامش
(1) أمارتيا سن  اقتصادي هندي، درّس وعمل منذ عام 1972 في المملكة المتحدة والولايات المتحدة. قدم إسهامات في اقتصاد الرفاه، ونظرية الخيار الاجتماعي، والعدالة الاقتصادية والاجتماعية، والنظريات الاقتصادية للمجاعات، ونظرية اتخاذ القرار، واقتصاديات التنمية، والصحة العامة، ومؤشرات قياس رفاه مواطني الدول النامية. هو حاليًا أستاذ بجامعة توماس دبليو لامونت وأستاذ الاقتصاد والفلسفة في جامعة هارفارد. حصل على جائزة نوبل التذكارية في العلوم الاقتصادية في عام 1998 وجائزة بهارات راتنا الهندية عام 1999 عن عمله في اقتصاديات الرفاه.
(2)                    P- Paul Gross Jean « La Pensée d’Amarty Sen sur le Développement » Revue Quart MONDE N°176 ,2000, France  
 P- Hunger and Public Action par Jean Dreze et Amartya Sen,Oxford University Press 1989,India,Economic Development and social
P- Bertin,A.2007,Liberté,égalité,capabilité :l’apport d’Amartya Sen aux questions d’inégalité»,in Batifoulier P. et alii, Approches institutionnalistes des inégalités en économie sociale, Paris : Editions L’Harmattan
.Dreze and Sen, « India :EconomicDevelopment and Social Opportunity » (1995)P-
-Inequality re-examined,Oxford : Clarendon Press,trad,de Paul Chemla ,Repenser l’inégalité,Paris : Seuil,2000P- 
 Bonvin 2005 p 26, J.M.(2005) »LaDémocratie dans l’approche d’Amartya Sen, Léconomie Politique n° 27P- 
- «التنمية حرية»منشورات اكسفورد الجامعية – نيودلهي 2000 /ص117 مايو 2004 الكويت ترجمة شوقي جلال.
(3) Bernard Mandeville  فيلسوف إنجليزي من فلاسفة القرن الثامن عشر، كان مهتمًا بالفلسفة الأخلاقية بالإضافة إلى اهتمامه بالسياسة والاقتصاد. ولد عام 1670م في مدينة روتردام في هولندا لكنه قضى معظم حياته في إنجلترا ونشر غالبية أعماله باللغة الإنجليزية. 
(4) Jeremy Bentham عالم قانون وفيلسوف إنكليزي، ومصلح قانوني واجتماعي، وكان المنظر الرائد في فلسفة القانون الأنجلو-أمريكي. ويشتهر بدعواته إلى النفعية وحقوق الحيوان، وفكرة سجن بانوبتيكون.
(5) Thomas Malthus  باحث سكاني واقتصادي سياسي إنجليزي، اشتهر بنظرياته المؤثرة حول التكاثر السكاني. 
(6) John Stuart Mill  فيلسوف واقتصادي بريطاني من رواد الفلسفة الليبرالية، ومن أسمى المبادئ عنده حرية الفرد والتنوع والعدالة
(7) Karl Marx فيلسوف وناقد للاقتصاد السياسي ومؤرخ وعالم اجتماع ومنظر سياسي وصحفي وثوري اشتراكي ألماني
(8) Alfred Marshall اقتصادي بريطاني، اشتهر بكتابه «مبادئ الاقتصاد» (1890) شرح من خلاله الأفكار الرئيسة للاقتصاد مثل العرض والطلب، المنفعة الحدية، كلفة الإنتاج.
(9) John Maynard Keynes اقتصادي إنجليزي ساهمت أفكاره في إحداثِ تغييرٍ جذري في نظرية وممارسة الاقتصاد الكلي؛ عُرف كينز بأنّه مُنقذ الفردية الرأسمالية من انتشار البطالة نتيجة إيمانه بأنّ عدم معالجة هذه المُشكلة سيؤدي لتحكم الأنظمة الاستبدادية في العالم الغربي
(10) John Rawls فيلسوف أخلاقي وسياسي في التراث الليبرالي، يعتبر من منظري ومؤسسي ليبرالية اجتماعية، حيث اهتم بالعدالة الاجتماعية
(11) مدونات البنك العالمي 14/10/2022