شذرات

بقلم
د.محمد عمر الفقيه
من المسؤول عن غياب الحس النقدي عند المسلمين ؟
 إنّ الصّحابة الذين تتلمذوا على مائدة القرآن في مدرسة الرّسول ﷺ لم يكونوا ليقبلوا رواية منسوبة إلى النّبي ﷺ ما لم تكن موافقة لكتاب اللّه أو موافقة للقواعد العقليّة، وسأعرض بعض الأمثلة التي تبيّن كيف أنّ السّيدة عائشة رضي اللّه عنها ردّت بعض الرّوايات المنسوبة للنّبي ﷺ لأنّ هذه الرّوايات تتعارض مع كتاب اللّه أو تتعارض مع القواعد العقليّة :
1 - اعترضت السّيدة عائشة رضي اللّه عنها على حديث منسوب للنّبي ﷺ يقول فيه : «إنّ الميّت يُعَذَّب ببعض بكاء أهله عليه». حيث ردّت الحديث بقوله تعالى : ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ﴾(فاطر: 18) وقالت : «حسبكم كتاب اللّه».
2 - اعترضت أيضا على حديث ابن عمر الذي رواه عن أبيه « أنّ رسول اللّه ﷺ قام على القليب يوم بدر وفيه قتلى بدر من المشركين فقال لهم ما قال إنّهم ليسمعون ما أقول»،فقالت : وهِم عمر ، إنّما قال إنّهم ليعلمون أنّ ما كنت أقول لهم حقّ، ثمّ قرأت ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ﴾ (الروم: 52) و﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ (فاطر: 22).
3 - كما اعترضت على ما نسبه أبو هريرة للنّبي ﷺ في قطع الصّلاة: «فإنه يقطع الصّلاة الحمار والمرأة والكلب الأسود»، فقالت: «شبّهتمونا بالحمر والكلاب».
5 - واعترضت السيدة عائشة رضي اللّه عنها على من كان يقول أنّ رسول اللّه ﷺ قد رأى ربّه في حادثة الإسراء والمعراج، واستدلت بقوله تعالى :﴿لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ...﴾(الأنعام: 103).
6 - واعترضت أيضا على حديث أبي هريرة الذي قال فيه أنّ النّبي ﷺ قال:«إنما الطيرة في المرأة والدّابة والدّار». فقالت: «والذي أنزل القرآن على أبي القاسم ما هكذا كان يقول رسول اللّه ﷺ» ، ثمّ قرأت قوله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ...﴾(الأنعام: 103).
7 - كما اعترضت على حديث أبي هريرة حين قال: قال رسول اللّه ﷺ :«من غسل ميّتا اغتسل ومن حمله توضّأ» ، فبلغها ذلك فقالت : «أو نجس موتى المسلمين؟، وما على رجل لو حمل عودا».
4 - وأنكر ابن عباس رضي اللّه عنه حديث أبي هريرة الذي نسبه إلى  النّبي ﷺ : «توضؤوا ممّا مسّت النّار». وعارضه بقوله : «أنّ رسول اللّه ﷺ أكل كتفا ثمّ صلّى ولم يتوضأ». 
هذه أمثلة بيّنة تدلّ على منهج الصّحابة رضوان اللّه عليهم في قبول الرّوايات المنسوبة إلى النّبي ﷺ، وبعض الصّحابة كانوا إذا ارتابوا بقول منسوب إلى النّبي كانوا يطلبون شاهدين لقبول الحديث، وكذلك كان منهج التّابعين في قبول الرّوايات المنسوبة إليه ﷺ ، فقد اشترط أبو حنيفة رضي اللّه عنه شروطا صارمة في قبول الأحاديث المنسوبة إلى النّبي ﷺ ، فكان لا يقبل حديث الآحاد وإن توفّرت فيه شروط الصّحّة إذا كان الحديث ممّا يكثر وقوعه، وحجّته في ذلك أنّ الأمر الذي تكرّر وقوعه ينبغي أن ينقله عدد يصل الى حدّ الشّهرة، فنقله بطريق واحد هو مدعاة للشّكّ في صحّته. وممّا هو مقرّر عند جمهور الحنفيّة وجوب عرض الحديث على القرآن الكريم، وكذلك كان منهج الإمام مالك رضي اللّه عنه في قبول الرّوايات المنسوبة إلى النّبي ﷺ، فكان يردّ الأحاديث التي تخالف عمل أهل المدينة مهما بلغ درجة صحّة هذه الأحاديث.
هذا هو منهج الصحابة الكرام ومن جاء من بعدهم من الفقهاء في التّعامل مع الرّوايات المنسوبة إلى النّبي ﷺ ، ولكنّ الذين جاؤوا من بعدهم -للأسف الشديد - تكاثفت جهودهم على دراسة الأسانيد، دون النّظر إلى المتون، حتّى ترسّخت عندهم مقولة : «ما صحّ سنده صحّ متنه» ، ولا زلنا نجتر هذه المقولة إلى وقتنا الحاضر. ليس هذا فقط، بل أصبح كلّ من يحاول أن يُعمل عقله في قبول الرّواية أو ردّها أو محاولة عرضها على كتاب اللّه ليكون معيارا لقبولها أو ردّها أصبح متّهما ومارقا ومناكفا لدين اللّه .
أمّا آن للعقل المسلم أن يستيقظ من سباته؟ .