بهدوء

بقلم
د.ناجي حجلاوي
براءة الشهادة الحلقة الأولى: مفهوم الشهادة في الفضاء اللّغوي
 مقدّمة 
ظلّ محمّد أركون يتساءل حينا من الدّهر عن العوامل السّوسيولوجيّة الكامنة وراء ظاهرتيْ النّجاح والفشل. وهي العوامل الّتي من شأنها الكشف عن الأسباب المعقولة، إنْ كانت ذاتيّة أو موضوعيّة، الثّاوية خلف انتشار بعض المذاهب الفقهيّة أو الاتّجاهات الفكريّة دون غيرها من المذاهب والاتّجاهات حتّى إنْ كانت هذه المذاهب المنتشرة  أقلّ تماسكا وأقلّ فاعليّة من غيرها. وبغضّ النّظر عن الحَفر في هذه العوامل، فإنّ الزّمن الثّقافي الرّاهن المعيش محشوّ بمفاهيم ترسخت في الذّهن وترسّبت بمفعول الإعادة والتعوّد على امتداد أحقاب مديدة، ما جعلها من قبيل المسلّمات المُندرجة في فضاء المستحيل المفكّر فيه على حدّ عبارة محمّد أركون. وليس مفهوم الشّهادة في القرآن إلاّ نموذجا ساطع الدّلالة على تشوه المفاهيم تحت وطأة العوامل الثّقافيّة المتوارثة الّتي غذّاها الاستبداد السّياسي خدمة لمصالحه الّتي تتعارض رأسا مع الدّقة العلميّة المُفضية إلى وضوح الرّؤية.
ويبدو أنّ إنتاج المصطلحات وإعادة بناء المفاهيم يُعدّان مدخليْن أساسييْن لكلّ عمل علمي يروم التّجديد في أساليب الفهم القرآني بالتّركيز على المصطلح القرآني نفسه. فالقرآن أودع مفاتيح فهمه داخل فضائه النّصيّ. والدّارس مدعوّ إلى إعادة ترتيب الآيات لا من منطلق أسباب نزولها، وإنّما باعتبار مواضيعها. ولو كان لأسباب النّزول أهمّية لرُتّبت الآيات داخل المصحف وفقها منذ تصميم المصحف العثماني.  زدْ على ذلك أنّ ما يزيد على ثلاثة أرباع الآيات نزلت ابتداء دون أي سبب خارجي للنّزول. وليس خافيا، أنّ هذا الإجراء يُخرج القرآن من ضيق التّقيد بالمتغيّرات الاجتماعيّة والتّاريخيّة إلى شساعة المطلق العالمي حيث يتسنّى له التّفاعل مع مختلف مناهج المعرفة في شتّى حقولها الفكرية والثّقافية. فالقرآن يتميّز بواسمات تجعله يتمتّع بقدرة على رسم أفق واسع لا يتعارض مع أي مُنجز عقلي. ولمّا عدم الفعل التّفسيري الاهتداء إلى هذه الواسمات فقد ظلّ يتخبط في العجز الّذي جعل الدّين محصورا في الخُطب والمواعظ والماهوية الّتي تُزهق روح الإبداع وتُحنط علاقة الإنسان بالحياة وتقوده إلى خارج العصر على  رأي محمّد أبي القاسم حاج حمد. 
ولا غرو، حينئذ، أن تقف المعرفة المعاصرة على ملاحظة أنّ القرآن الثّابت في نصّه يتضمّن في طياته أشكالا مختلفة للوعي به من خلال الانتباه إلى بعض المضامين الثّاوية فيه والّتي تختلف عما قيل من قبلُ، لأنّ كلّ شكل من أشكال الوعي يتميّز بطبيعة تاريخيّة مخصوصة. 
إنّ هذا البحث (عبر سلسلة من الحلقات المتتالية) يعمد إلى رصد مفهوم الشّهادة كما ورد في المدوّنة التّفسيريّة من خلال التّركيز على نماذج ممثّلة لاتّجاهات مختلفة سُنّيّة ويمثّلها تفسير الطّبري(ت310ه/923م)، وشيعيّة يجسّدها تفسير الطّبرسي(ت548ه/1154م)، ومعتزليّة يمثّلها تفسير الزّمخشري(ت 538ه/1144م)، كما يعمد إلى مقارنتها بما ورد في اللّسان العربي من خلال أمّهات المعاجم كلسان العرب لابن منظور (ت711ه/1312م)، وغريب المفردات في القرآن للرّاغب الأصفهاني (ت502ه/1108م)،ومعجم مقاييس اللّغة لابن فارس (ت395ه/1004م). كما يعمد إلى معالجة مفهوم الشّهادة  حسب ما ورد في المرويّات أخبارا وآثارا من أجل تتبّع الفوارق الدّلالية بين مختلف السّياقات وصولا  إلى تبيّن هذا المفهوم في العهديْن القديم والجديد.
وفرضيّة هذا البحث تنهض على اعتبار أنّ الاقتران المغلوط الضّارب بقَدم في التّراث، بين مفهوم الشّهادة وفكرة الموت هو المسؤول الأوّل عن الانزياح الخطير والخطر في آن واحد، تبعا للنّقلة البهلوانيّة الحاصلة بين أمريْن: الأوّل أن يكون الدّين أداة تنظيميّة يعيش بها الإنسان لتسهيل شؤون حياته وتشعبّاتها وطلبا للسّعادة والطّمأنينة. والثّاني أن يكون الدّين هدفا يُعاش من أجله ويُضحّى في سبيله بكلّ نفيس. وحاصل هذه النُّقلة هوان الحياة على أصحابها، وتضاؤل قيمتها أمام علوّ قدْر الموت وشأنه. فلا عجب حينئذ أن يفجّر الفرد نفسه لنيل مرتبة «الشّهيد» بقتل نفسه المؤمنة، عمدا، وهي من أكبر الجرائم الّتي يعاقَب عليها قرآنيّا بالتّخليد في نار جهنّم، وهذه الفرضيّة تستند إلى نصوص قرآنيّة وأحاديث منسجمة معها نقتصر على الإشارة إلى بعضها: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ (النّساء: 93). فالّذي يفجّر نفسه من منطلق أنّه مؤمن وأنّ الّذين يريد إبادتهم كفارا قد وقع فيما حذرت منه الآية وهو عقاب قتل النّفس المؤمنة عمدا. وقد وردت في صحيح مسلم أحاديث نبويّة تمنع جواز الصّلاة على قاتل نفسه منها ما جاء عن جابر بن سَمْرة قال: أُتِيَ النّبي ﷺ برجل قتل نفسه بمَشَاقِصَ، فلم يُصلّ عليه(1). وقد ورد في صحيح البخاري قول النّبي ﷺ: «كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح، فجزع، فأخذ سكينا فحزّ بها يده، فما رقأ الدّم حتّى مات، قال اللّه تعالى: بادرني عبدي بنفسه، حرّمت عليه الجنّة»(2). فكيف ضبطت المعاجم مفهوم الشّهادة؟ وكيف تجلّى في المدوّنة التّفسيريّة أوّلا وفي المرويات ثانيا، وفي العهديْن القديم والجديد ثالثا؟ وماهي النّتائج المستخلصة من كلّ ذلك؟
مفهوم الشهادة  في الفضاء اللّغوي 
نعمد في هذا الفصل إلى تتبّع ما أثاره أصحاب المعاجم  من معان ودلالات عليقة بمادّة «شَهِدَ» متبّعين التّسلسل التّاريخي رصدا لمّا يمكن أن يطرأ من تغيّر على المفهوم من زمن إلى آخر ومن لغوي إلى آخر. وقد نجنح إلى تتبّع  مُنعطفات التّفسير المعجمي رغبة في عرض المادّة أمام القارئ والتماسا للإمساك بمفاصل المعاني وتحوّلاتها مبتدئين بابن فارس، ثمّ الرّاغب الأصفهاني، ثمّ ابن منظور.
1) ابن فارس
يذهب ابن فارس إلى أنّ الشين والهاء والدّال أصل يدّل  على حضور وعلم، وإعلام، وكلّ الاستعمالات المتعلّقة بهذه المادّة لا تخرج عن هذه المعاني. ومفهوم الشّهادة قائم على  هذه الأصول الثّلاثة. ومن الاستعمالات الجارية في هذا المجال، والّتي يجدر بالدّارس الوقوف عندها هي أنّ «شَهد» يشهد شهادة ومشهدا تُستعمل لإفادة محضر النّاس. ومن  ذلك أيضا الشّهود جمع الشّاهد وهو الماء الّذي يخرج على رأس الصّبي إذا وُلد، ويقال هو الغِرْسُ، قال الشّاعر:
فجاءتْ بمثل السّابري تَعَجَّبُوا لَهُ ** وَالثُّرَى مَا جَفَّ عَنْه شُهودها
وعليه فإنّ الشّاهد هو بمثابة العلامة الّتي تضطلع بدور التّدليل على الشيء. ويكون أيضا بمعنى الأثر المُوحي بدلالة مخصوصة كشهود النّاقة وهي آثار موضع مَنتَجَها من دم أو سلّي. ويُورد ابن فارس، بالإضافة إلى ما سبق من المعاني، أنّ لفظة الشّهيد  تعني القتيل في سبيل اللّه، وهو يعمد إلى تفسير ذلك بما ارتآه البعض من أنّ ملائكة الرّحمة تشهده أي تحضره، وبما ذهب إليه آخرون من  سقوط القتيل على الأرض الّتي تسمّى الشّاهدة. والشّاهد هو اللّسان والمَلَك، مستشهدا في ذلك بشعر الأعشى، وهو الشّاعر المُخضرم. وواضح مما سبق أنّ معنى الشّاهد يدور حول البيان، سواء كان عبر أثر مادّي مشهود، أو قوّة معنوية غير ملحوظة. 
وبالالتفات إلى المعاني القرآنية المتعلّقة بمادّة «شَهِدَ»، يُلفي الدّارس أنّ هذا اللّغوي يُورد قول اللّه تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ﴾ (آل عمران: 18)، ليستنبط منه أنّ اللّه يُبيّن بعلمه الواسع، ومن ذلك شهادة أحدهم عند القاضي إذا بيّن وأعلم لمن الحقّ وعلى مَنْ هوّ. ومنه أيضا قول القائل: امرأة مُشهد، إذا حضر زوجها، وعكس ذلك المرأة المُغيب. ويُقال للرّجل إذا مذَى إنّه أشْهَدَ. والشُّهد هو العسل في الشّمع. وجمعه شِهاد (3) .
يتجلّى ممّا أورده ابن فارس أنّ مفهوم الشّهادة ينهض على المعاني التّالية: الحضور والعلم والإعلام، وهي معان يستوجب أداؤها الحياة بالضّرورة. وقد  عمد هذا اللّغوي إلى اتّخاذ  شواهد قرآنيّة وشعريّة، ومادّيّة دالّة على هذه المعاني مثل الماء الّذي يخرج على رأس المولود، وآثار ولادة النّاقة الدّالة عليها من دم أو سلّي، والشّهد الدّالّ على العسل. وإذا تمّ  اقتران الموت بالشّهيد فإنّنا نحتفظ بهذا المعنى كيْ تتمّ مقارنته بمنطوق الآيات القرآنيّة فيما  سيأتي بيانه. علما بأنّ ابن فارس قد أرجع تسمية الميْت بالشّهيد لا لصفة متعلّقة به، وإنّما لحضور الملائكة عمليّة قتله. والذي تجدر الإشارة إليه، في هذا المقام، هوّ الدّقّة الّتي تتمتّع بها عبارة ابن فارس  حين  أسند الرّأي إلى بعض القوم. وهي إشارة صريحة إلى أنّه رأي غير مجمع عليه ولا هو رأي أغلب اللّغويين. بالإضافة إلى استعماله للفظة «قتيل» ما يدلّ على أنّ صفة الشّهيد هي صفة مضافة في زمن لاحق لأنّ القرآن يستعمل مفردة «قتيل» ويعدل عن استخدام لفظة «شهيد» لإفادة معنى الموت، ومصداق ذلك الآية:﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ  أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ  وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا  وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾(آل عمران: 144). وهو ما يدلّ على أنّ مفارقة الحياة إنّما تكون بأحد الأمريْن: إمّا القتل وهو من قضاء الإنسان، وإمّا الموت الطّبيعي الّذي هوّ من القدر الإلهي(4). وكذلك الآية التّالية:﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(البقرة: 244) ، فعبارة «قاتلوا» واضحة إذ لم تقل «واستشهدوا في سبيل اللّه». وقد ميّز ابن فارس بين معنييْ الشّاهد والشّهيد. فقد حصر معنى الشّاهد في البيان والتّدليل ما يدلّ على أنّ الحضور ليس شرطا كما هو الحال في معنى الشّهيد. فهل طرأ على هذه المعاني تغيّر أم ظلّت مستقرّة على حالها بعد ما ينوف عن القرن مع الرّاغب الأصفهاني؟
2)الرّاغب الأصفهاني 
يجدر بالدّارس الانطلاق من ملاحظة أساسيّة تتعلّق بالتّفسير الّذي أورده الرّاغب الأصفهاني  بمادّة «شَهِدَ» ومشتقاتها، ومفادها أنّه استشهد بأربعين آية قرآنيّة بالإضافة إلى بعض الأشعار لإفادة طائفة من المعاني، لعلّ جماعها ينهض على الحُضُورُ والمُشَاهدةِ إمّا بالبصر أو بالبصيرة. فاللّه عالم الغيب والشّهادة. والشّهودُ بالحضُور المُجرّدِ أَوْلَى والشّهادة مع المُشاهدةِ أحْرى. والحاضر يُسمّى مُشهِدا، ومنه المرأة الّتي يَحْضُرُهَا زَوجُها. والمَشهَد يُجمع على مَشَاهِد كمشاهد الحجّ وهي مواطنه الشّريفة الّتي يحضُرها الملائكة والأبرارُ من النّاسِ. والحضور قد يكون بالمعاينة المشخّصة كما يكون بالنّفس والهمّة والإرادة. وعليه، فالشّهادة قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصيرة أو بصر كمشاهدة الخلق الّتي هي بالبصر وكإدراك الحقائق الّذي هوّ بالعلم وبالخبرة. والشّهادة ضربان: الأوّل مرتهن بالعلم لإثبات الحجّة والقرينة. والثّاني يجري مجرى القَسَم كالقول: أشهد باللّه. وقد يستعمل الشّاهد والشّهيد والشّهداء لإفادة معاني الحُكم والإقرار بالأمر والإخبار به. وشهادة اللّه لنفسه تتمثّل في إنطاقه كلّ شيء. وشهادة الملائكة تتجلّى في إظهارهم أفعالا أُمروا بها. وشهادة أُولي العلم تظهر في اطّلاعهم على الحِكم وإثباتها. ولا يُعتدّ إلاّ بشهادة أهل العقل الرّاجح والعلم الرّاسخ. ومن المعاني المستفادة من كلمة الشّهيد نجد مشاهدة الشّيء وإبداء الرّأي بالتّأييد أو التّفنيد (5) .
على هذه الشّاكلة يتجلّى من هذا العرض أنّ الرّاغب الأصفهاني يؤكّد المعاني التي أشار إليها ابن فارس وهي الحضور والمعاينة والعلم بالأمر، وقد أضاف إلى ذلك معنى اليقين البادي في الإدلاء بالشّهادة والإقرّار بالحُجّة البيّنة عبر النّطق المفيد للعلم، لأنّ الشّهيد هو السّامع والمبصر المشاهد المعتدّ بحضوره. فإقامة الشّهادة على وجهها الأتّم إنّما تكون بالبصر أو بالبصيرة، فالعلم العميق بحقائق الأمر يتجاوز إدراك الحواسّ ما يُحيله إلى مرتبة القَسَم المتضمّن للحكم النّاهض على الاقتناع العميق إلى حدّ اليّقين، استدلالا بالسّمع والبصر وبالآيات الماثلة في النّطق والمنطق. وصفة الشّهيد إنّما تُطلق لا لكوْن صاحبها تلقّى حدث الموت، وإنّما لكوْنه يشهد ما أُعدّ له من النّعيم أو لأنّ روحه تشهد ما عند اللّه. وتسمية اللّه بالشّهيد إنّما ترجع لعلمه بالسّر والجهر. ويبدو أنّ عدم اعتبار الأصفهاني الموْت ركنا في مفهوم الشّهادة إنّما يعود إلى المجال القرآني الّذي اهتم به، وعنوان معجمه دالّ على ذلك وهو «المفردات في غريب القرآن».  والمهمّ هوّ أنّ الرّاغب لم يشر إلى تسمية القتيل بالشّهيد ولم يلجأ حينئذ إلى تبريرها وتوضيحها. فهل سيُضيف ابن منظور إلى هذه المعاني عناصر أخرى؟
3) ابن منظور
استهل ابن منظور تفسيره لمادّة «شَهدَ» بالإشارة إلى أنّ الشّهيد يحتلّ مرتبة ذات أهمّية قصوى لأنّه اسم من أسماء اللّه ومعناه الأمين في شهادته، وهو الذي لا يغيب عن علمه شيء. ومن شروط الشّهيد الحضور المُتعيّن والمُتحقّق لأنّ وزن «فعيل» من صيغ المبالغة. واعتبار العلم على إطلاقه يُفضي إلى تسمية صاحبه بالعليم. وإذا أُضيف إلى الأمور الباطنة فصاحبه هو الخبير. وإذا أُضيف إلى الأمور الظّاهرة فهو الشّهيد. ومنه الشّهادة على الخلق يوم القيامة. والشّاهد هو العليم الذي يُفصح عمّا علمه. وعبارة الشّاهد تطلق على المذكّر والمؤنّث. والجمع أشهاد وشهود. والشّهيد يُجمع على شهداء.
 والمستشهد هو طالب الشّهادة من غيره على قضيّة ما أو المطالب بأداء القَسَم. والتّشهّد أقوال معروفة في الصّلاة. والّذي يشهد في المسألة هو الذي يقضي فيها برأيه ويُبيّن علمه فيها. واللّه شهيد لأنّه دلّ على توحيده في جميع مخلوقاته، ولا يقدر أحد على خلق كخلقه ولا يُتّصف بعلم كعلمه. وشهادة الملائكة وأُولي العلم تعني الإقرار بعلم اللّه وقدرته. والمُستشهد شهيد بما حضر وعاين. وكذلك الشّاهد المؤدّي لما عنده من الشّهادة. ورد في الحديث: «خَيْرُ الشُّهَداءِ الذي يأْتي بِشهَادَتِه قبل أنْ يُسْأَلَها». والشّهادة هي إخبار بما شوهد. والأمر المشهود هو المحضور. ويوم الجمعة يُسمّى شاهدا لأنّه يشهد حضور النّاس واجتماعهم للصّلاة. ومشاهد مكّة هي المواطن الّتي يُجتمع فيها. والأشهاد جمع شاهد مثل أنصار جمع ناصر، وأصحاب جمع صاحب(6). والشّاهد هو كلّ مُدل بشهادته. والنّجم شاهد لأنّه يحضر باللّيل. واسْتُشْهِدَ المرء بمعنى قُتِلَ شهِيداً. وتَشَهَّدَ: طلب الشّهادة.
ويستمرّ ابن منظور في تقليب الأوجه الدّاعية إلى تسمية الشّهيد بهذا الاسم وهي كونه حيّا عند ربّه أو أنّ اللّه وملائكته يشهدون له بالجنّة، أو لكونه يُستشهد يوم القيامة مع الأنبياء على الأمم الخالية، أو لأنّه كان يُقيم شهادة الحقّ في أمر اللّه حتّى قُتل، أو لأنّه يشهد ما أعد اللّه له من الكرامة بالقتل. وكلّ مستشهد في سبيل اللّه فهو مُشْهَد. ويُشير ابن منظور إلى التّوسعة الّتي طرأت على مفهوم الشّهيد المقتول مجاهدا في سبيل اللّه كيْ يطلق على المبطون والغرق والحرق وصاحب الهدْم وذات الجَنْب وغيرهم(7). 
إنّ تأخّر ابن منظور في الزّمن جعل من طريقة تأليفه للمادّة اللّغويّة مطبوعة بطابع التّجميع والتّأليف وهو عنصر مهمّ يساعد الدّارس على رصد ما يطرأ على اللّفظ من دلالة مستجدّة. وعليه فإنّ جماع ما ذكره ابن منظور يعود إلى ثلاثة مفاهيم: الأوّل يدور حوْل ما ذكره ابن فارس والرّاغب من أنّ الشّهيد والحيّ الحاضر المنخرط في مجريات الأحداث والوقائع. ولذلك هوّ متّصف بالسّمع والبصر. والثّاني أنّ القتيل إذا كان مظلوما أو قدّم حياته قربانا وتضحية من أجل قضيّة عادلة كالدّفاع عن الأرض أو الشّرف أو المال أو المبدأ فإنّ صفة الشّهادة تُلحق به من خارج حدث الموت لأنّه شوهد على هذه الحالة سواء من النّاس أو من الملائكة. وسيشهد هو بدوره على الوقائع الّتي جرت ساعة يُبعث حيّا يوم القيامة. والثّالث هو العنصر المستجدّ الّذي لم يكن حاضرا من قبل في المعجميْن السّابقيْن وهو اتّصاف المقتول في سبيل اللّه بالشّهيد لتلقّيه حدث الموت في حدّ ذاته. وهو ما يدعو الدّارس إلى التّساؤل عن سبب تأخّر رواج هذا المفهوم ورسوخه في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة وعن مصادره الثّقافية غير القرآنيّة حتّى وإنْ كان ظهوره مبكّرا كما سيتّضح في الحلقة القادمة ؟ 
إنّ الشّهيد، حسب ابن منظور، هوّ الأمين في نقل شهادته وهو العليم إنْ كان الأمر ظاهرا وهو الخبير إنْ كان الأمر باطنا وهو المقيم للشّهادة على غيره. وما يصدر عن الشّهيد هو الشّهادة القاطعة والبيان السّاطع والإيمان العميق، تبعا لمقام الحضور والمعاينة. والشّهيد هو الحاضر المُدلي برأيه القائم على الحجج والبيّنة. ومجالات الشّهادة هي الأمانة والوصيّة والوقائع المختلفة في الحياة اليومية. ويُسّمى الشّهيد بالشّاهد لأنّه مبيّن وموضّح. والمَشاهد هي المواطن والمشهود هو الموعد. والملاحظ «في لسان العرب» أنّ مفهوم الشّهيد قد اتّسع عمّا كان عليه من قبل ليشمل ضروبا أخرى من المقتولين إنْ بالحرق أو بالغرق أو بأمراض البطن أو تحت هدْم. ولا مفسّر لهذا الاتّساع إلاّ تزايد الأخبار والآثار تبعا لضرورة تغطية الوقائع المستجدّة. 
وعندما يكون أداء الشّهادة مطابقا لمجريات الواقع مدّعَما بأدلة وشواهد حقيقية فالشّهادة صادقة. وإذا عدم أداؤها  كلّ هذه الشروط فهي شهادة باطلة. ومن غير المُستساغ أن يكون أتباع الرّسالة الخاتمة شهداء على كلّ الأمم السّابقة، كما ورد مع ابن منظور، وإنّما الأكثر واقعية أن يكون كلّ مسلم شاهدا على أقاربه وذويه. فمفردة النّاس تُطلق على الكثيرين والقليلين في آن. ليكون الرّسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على النّاس؟(8). 
والملاحظ، أنّ هذه المعاني الّتي علّقت بمفهوميْ الشّهادة والشّهيد قد ترسّخت في الثّقافة العربية، ومصداق ذلك ما نُطالعه في المعاجم والموسوعات المعاصرة كالّذي أورده محمّد فريد وجدي من أنّ مادّة «شَهِدَ» تعني حضر وعاين، واستشهد أي قُتل في سبيل اللّه. والشّهيد هو الشّاهد. وقد اتفق الأئمة أنّ الشّهيد هو من مات في قتال الكفّار لا يُغّسل ولا يُصلّى عليه(9).
 وإذا كان القرآن هو النّصّ الدّيني المؤسّس للمفاهيم لدى المسلمين فلماذا انزاحت بعض المعاجم عمّا ضبطه هذا النّصّ؟ وهل المفسّرون الأوائل وقفوا على هذا المعنى؟ ومن أين نبع هذا الانزياح عمّا ذكره القرآن في تحديد مفهوم الشّهادة والشّهيد؟ ذلك ما سنحاول الإجابة عنه في الحلقات القادمة. 
الهوامش
(1) أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، الصّحيح بشرح النّووي، مج4، ج7، المكتب الجامعي الأزاريطة، دت، كتاب الجنائز، باب ترك الصّلاة على القاتل نفسه، حديث رقم 978، ص33. والمِشْقَصُ من النّصال: ما طال وما عَرُضَ، ابن منظور، لسان العرب، مج7، دار إحياء التّراث العربي، د ت، مادّة «شَقَصَ»،  ص48.
(2) البخاري، الصّحيح، تحقيق وضبط طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الإيمان بالمنصورة، مصر، طبعة جديدة مضبوطة محققة، 2003، كتاب أحاديث الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل، حديث رقم3463، ص728.
(3) انظر ابن فارس، معجم مقاييس اللّغة، ج3، تحقيق عبد السّلام محمّد هارون، دار الفكر للطّباعة والنّشر والتّوزيع، 1399ه، 1979م، ص ص 222،221.
(4) انظر في هذا المضمار محمّد شحرور، الكتاب والقرآن، دار الأهالي للطّباعة والنّشر والتّوزيع، دمشق،  سورية، د ت،  ص131.
(5) انظر الرّاغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، ج 1، مكتبة نزار مصطفى الباز، د ت، ص ص355،352.    
(6) تّكرّرت هذه المعاني عند أبي بكر محمّد بن الحسن بن دريد، جمهرة اللّغة، ج2،  تحقيق رمزي منير بعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، ط1، 1987، ص653.
(7) انظر ابن منظور، لسان العرب، مج3،  م ن، مادّة «شَهِدَ» ص ص243،238.
(8) فخر الدّين الرّازي، مفاتيح الغيب، ج23، دار إحياء التّراث العربي، بيروت، ط3، 1420ه،  ص254.
(9) محمّد فريد وجدي، دائرة معارف القرن العشرين، مج5، دار الفكر، بيروت، دت، ص414.