في العمق

بقلم
أ.د.عماد الدين خليل
مدخل إلى بناء الكون في المنظور القرآني (الحلقة الخامسة)
  التحدّي الحاسم
لنتابع جانباً من التحدي الكبير الذي يطرحه القرآن الكريم: ﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا . رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا . وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا﴾(النازعات: 27-29).﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ . ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ﴾(الملك:3-4). ﴿أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ. وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ﴾(الغاشية:17-18). ﴿قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾(المؤمنون:86-87). ﴿أَوَلَمْ يَـرَوْاْ أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُـقَ مِثْلَهُمْ ...﴾(الإسراء:99). ﴿مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْـقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُـداً﴾(الكهف:51). ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُـقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيـمُ﴾(يس:81). ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (غافر:57). ﴿أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾(النحل:17). ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْـقَ ثُمَّ يُعِيـدهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَـهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيـمُ﴾ (الروم:27). ﴿قُلِ انظُـرُواْ مَاذَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَالأَرْضِ ...﴾(يونس:101). ﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِـي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِــهِ ...﴾(لقمان:11).
ويمضي القرآن الكريم لكي يتحدث عن مبدأ التّسخير الذي أريد به تقديم الخدمات لبني آدم على الأرض وتيسير الحياة، وهو مبدأ ينطوي على بعد حضاري خاصّةً إذا أضيف إلى مبدأي الاستخلاف والاستعمار بدلالته اللّغويّة لا الاصطلاحيّة، والمهمّ أنّ جانباً من الخلق الكوني أريد به التّسخير المشار إليه: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ (الأنعام:97). ﴿... وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾(الأعراف:54). ﴿... وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرهِ ...﴾(النحل:12). ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾(الجاثية:13). ﴿وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ﴾(النحل:16). ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ...﴾(لقمان:20). ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾(العنكبوت:61). ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء ...﴾(البقرة:22).
وللقرآن الكريم وقفات ذات دلالة بالغة على الجدّ المطلق الذي خلقت به السّماوات والأرض، وعلى الحقّ الذي قامتا عليه، والهدفيّة من خلقهما، ومغزى ايجاد هذا البناء الهائل في اتساعه، والمعجز في معماره المحكم، والذي لا يخترقه الخلل والانحراف، ولا تحكمه العبثيّة بأيّ معيار من المعايير وبأيّة درجة من الدّرجات مهما دقت وضؤلت ... إنّ اللّه (جلّ في علاه) هو الخالق الأوحد الذي لا شريك له في الملك، الآمر النّاهي، العليم الخبير بنواميس ما خلق، وبدقائقه التي لا تندّ عن علمه الشّامل المحيط ... إنّها رؤية عادلة تقوم على المغزى الذي خلقت من أجله السّماوات والأرض والذي يليق بجلال هذا الدّين وإعجازه، ويكتسح كلّ أنماط العبث والغثاء والفوضى واللاّجدوى، والتّخبّط والضّلال التي أسّرت بها نفسها معطيات الغربيّين منذ عهود اليونان وحتّى العصر الحديث، وتقلّبت عبر العديد من الفلسفات التي تسلّم إحداها الأخرى وتقودها إلى مزيد من الضّلال، فيما يمكن أن نلحظه بوضوح أشدّ في مذاهب كالسّرياليّة والوجوديّة والعبثيّة الطّليعيّة ... الخ ...
أمّا كتاب اللّه فإنّه يبحر بالجدّ والحسم القاطع في زاوية مغايرة لهذا العبث بنسبة 180درجة، فلنتابع بعضاً ممّا يقوله هذا الكتاب المعجز: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ . لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ . بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾(الأنبياء:16-18). ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ (المؤمنون:115). ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾(ص:27). ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ. مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾(الدخان:38-39). ﴿مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى ...﴾(الأحقاف:3). ﴿مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً﴾(الكهف:51). ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ...﴾(المؤمنون:71).
ها هنا نجد أنفسنا ازاء الجدّ في أقصى درجاته وضوحاً وحسماً وتألّقاً ... فليس ثمّة في خلق الكون أيّما فرصة على الإطلاق للعبث ... ليس ثمّة أيّة مساحة على الإطلاق للّعب ... ليس ثمّة أيّ مجال على الإطلاق للّهو ... بل هو الحقّ المطلق الذي يقذف به على الباطل الذي يتخيّله المخاليق ، فيدمغه فإذا هو زاهق ... فلم يكن خلق السّماوات والأرض باطلاً، وحاشا للّه ... ذلك ظنّ الذين كفروا ... أولئك الذين جرفتهم ظنونهم وأهواؤهم إلى الضّلال، ولو اتبع الحقّ أهواءهم لفسدت السّماوات والأرض ومن فيهن ... وصدق اللّه العظيم ... وجلّت قدرته المعجزة على خلق الكون بهذا القدر المدهش من الانضباط والإحكام ...
إنّها الرّحلة المنطقيّة المرسومة بحساب دقيق، والماضية إلى أجلها المسمّى في علم اللّه الأزلي ... كلّ صغيرة وكبيرة ... كلّ شيء في هذا العالم على الإطلاق بعناية اللّه (جلّ في علاه) بدءً وصيرورةً وانتهاءً ... فليس ثمّة أيّة مساحة على الإطلاق للعبث واللّعب واللّهو الذي يتخيّله أدعياء الفكر الطّليعي من الكتّاب والأدباء والفلاسفة العبثيّين الذين تسوقهم ظنونهم وأهواؤهم إلى الإبحار في الاتجاه المعاكس تماماً لنواميس الكون والعالم ... ومن ثمّ يجيء التّنديد بهم وبمقولاتهم ... فها هو ذا كتاب اللّه يخاطبهم ويقرّعهم بأقصى صيغ التّنديد والويل: ﴿... وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾ (الأنبياء:18). ﴿...فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾(ص:27).
بين الجدّ والرّؤية العبثيّة
ليس ثمّة لعب أو لهو وحاشا للّه ... إنّما هو الحقّ الذي خلقت به السّماوات والأرض وأقيم عليه بنيانهما المعجز ... وإنّما هو الأجل المسمّى الذي سيؤول إليه كلّ شيء في هذه المنظومة الهائلة من الخلق ... وإنّما هو جدل الحقّ والباطل، وانتصار الحقّ وضياع الباطل ... وإنّما هو الويل والثّبور والهلاك لكلّ الذين غطي على أعينهم، وطمس على قلوبهم، فلم يعودوا يرون (الغاية) النّهائيّة لمبدأ الخلق، أو يعاينوا مصائر الأشياء والأقوام والجماعات.
إنّه القصد المحكم من خلق الكون والإنسان، والفرصة المحدّدة بأجلها للحياة الدّنيا ... وبعدها سيكون ما يكون في علم اللّه الأزلي من انقلاب كوني عظيم تتغيّر به الخلائق والأشياء ... ويقف الإنسان عارياً أمام حساب اللّه العادل الذي لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السّماوات والأرض.
إنّه الجد الذي تقوم عليه السّماوات والأرض، ويمنح الحياة والموت للإنسان مغزاها، لأنّ الذي سيجيء بعد ذلك هو الذي سيحدّد المصائر والمقدرات، وهو الذي يسوق الإنسان إلى جنّة أو نار استناداً إلى طبيعة تعامله مع هذا الجدّ، وخضوعه لسننه ونواميسه، أو تمرّده عليهما ...
إنّه أشبه بالمعادلات الرّياضيّة أو الفيزيائيّة الصّارمة التي لا تقبل مماحكة ولا جدلاً، والتي تخرج من مقولاتها أيّة لمسة من لهو أو لعب، والتي تضع الموازين القسط لكلّ صغيرة أو كبيرة في بنية الكون والحياة. وإنّها الموازين الكبرى التي خلقت بها ولها السّماوات والأرض والحياة والتي سيّرت بها السّماوات والأرض والحياة، والتي ستؤول إليها السّماوات والأرض والحياة: ﴿وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ. أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ. وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾(الرحمن:7-9) ... فما من صغيرة ولا كبيرة في سلوك الإنسان في هذا العالم إلاّ وهي محالة على هذا الميزان الكبير الذي خلقت به وله السّماوات والأرض.
إنّ مفردات هذه الآيات تعكس هذا الجدّ الكامل في الخلق، والذي إذا أحلنا عليه الرّؤى والمذاهب والمعطيات الوضعيّة الكافرة التي لا تعترف باللّه، وترفض الايمان بالأديان المنزلة من عنده سبحانه وتعالى، يتبيّن مدى عبثها وتناقضها وتهافتها ولعبها ولهوها! ولكن على حساب من هذا كله؟ أليس على حساب الإنسان نفسه؟ فها هي الأمم والجماعات والشّعوب التي اتّبعت هؤلاء الأرباب من صناع الإلحاد، واستعبدت أنفسها وعقولها لأهوائهم وظنونهم وعبثهم، تخسر الكثير الكثير من الجهد والزّمن وهي تلهث وراء هؤلاء الآلهة المزعومين، ثمّ ما تلبث أن تنفض يديها منهم بعد إذ يتبيّن لها كذبهم ودجلهم وتألّههم في الأرض.
وتجيء بعدها دورة جديدة من الضّياع ... من أجيال المستعبدين الذين أسروا أنفسهم في عبادة الزّعماء والأرباب، والذين ما يلبثون هم الآخرون أن ينكشف لهم الزّيف والخداع، فينفضوا أيديهم ويتمرّدوا على الآلهة والأرباب!!
تلك هي بإيجاز شديد، مأساة البشريّة الضّالة التي لم تفتح بصائرها جيّداً على (الجدّ) الذي خلقت به السّماوات والأرض، والتي طمس على أعينها فظنّت الأمر لعباً ولهواً ،فما لبثت أن تعرّضت للتّعاسة والضّياع ... ولن تجد نفسها وأمنها وسعادتها المفقودة، إلاّ بأن تتمرّد على هذه الرّؤية العوراء، التي لا تكاد ترى شيئاً من قصديّة الخلق وغائيّته وموازينه الثّقيلة، فتنصت بسمعها وبصرها وعقلها وقلبها وفؤادها للإنذار الإلهي، الذي يعلن بأكثر الكلمات قوّة ووضوحاً وحسماً أن حياة الإنسان في هذه الأرض مرسومة بالدّقة والجدّ، محكومة بالموازين القسط، ومسيرة صوب يوم الحساب: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ (المؤمنون:115). 
ومع كتاب اللّه، ثمّة شبكة خصبة من شهادات العلماء والفيزيائيّين وفلاسفة العلم الحديث، تؤكّد جميعاً جدّية الخلق الكوني، وغائيته وتكنس في طريقها غثاء الأدباء وعبثهم الذين يحكمون بالظنّ والهوى، وليس بأدوات العلم ومنهجيّته كما يفعل العلماء.
فمن الواضح تماماً أن هناك عمليّات معيّنة تقوم بها بعض الأجسام الحيّة بناء على تصوّر مسبق لغاية ما، وتصوّر طريقة معينة لبلوغها وتحقيقها. ولا يمكن حلّ المشكلة إذا جرى تجاهل فكرة الغاية لمجرّد أنّ هناك عمليّات أخرى يقوم بها الجسم الحيّ، ويمكن تفسيرها في نطاق قوانين الفيزياء والكيمياء. إنّ وجود المشكلة في حدّ ذاته لم يعترف به، بل جرى رفضه باستمرار.
بناء على ذلك فاننا نجد صعوبة تفسير النّشاط الحيوي بعيداً عن (النّظام الغائي) الذي يضبط أنشطته ويسيرها إلى هدفها المرسوم ... ومحاولة غير مجدية من علماء الحياة لاستبعاد الغائيّة، واعتماد أساليب العمل في حقول الفيزياء والكيمياء التي ترفض الاتكاء عليها ... تلك الأساليب التي قد تحقّق بعض النّجاح، ولكنّها لا تحلّ المشكلة من أساسها ... إذ يبقى التّعامل مع الحياة هو غيره مع الذّرات والجزيّئات ... ومن ثمّ يطرح «وايت هيد» تحفّظه حول ضرورة الاعتراف، بشكل أو بآخر، بوجود تصوّر مسبق لغاية ما يفسّر العمليّة الحيويّة. كما أنّ الخطأ يكمن في موقفنا من المشكلة، في (كون العقول ضعيفة) كما يعبّر «سوليفان»، هذا الموقف الذي يسعى إلى معالجة الحياة بعيداً عن فكرة العلّة النّهائيّة، وهذا أمرٌ له مخاطره، ولا يمكن أن يكون مبرّراً لتجاهل مشكلة حقيقيّة.
هذا إلى أنّ نظريّة الانتقاء، أو الاصطفاء الطّبيعي، على فرض التّسليم المطلق بها، لا يمكن أن تفسّر ولا أن تبرّر إلاّ على ضوء وجود علّة، أو قوّة ما، تسوق الحياة والأحياء في سلّم التّطوّر صوب الأحسن والأرقى ... وإلّا غدت العمليّة في أساسها لغزاً مبهماً، الأمر الذي دفع بعض العلماء إلى البحث عن بعض المفاتيح مثل (القوّة الحيويّة) أو (قوّة التّحقّق) أو (الرّوح) وما إلى ذلك. لكنّهم لم ينجحوا في تعريف هذه المصطلحات وتحديد مضامينها، بحيث يمكن استخدامها في الأغراض العلميّة، وبقيت المصطلحات شاهداً على أنّ المفاهيم الأساسيّة الحاضرة لعلم الحياة غير كافية. ولو قالوا: اللّه، لحلّت الأحاجي والألغاز، ولوجدوا أنفسهم يتحرّكون في الطّريق الصّحيح لفهم معادلة الحياة المعجزة!!
فها هو ذا العلم يقول كلمته، ويعلن من قلب المختبر، أنّه بدون تصوّر غائي للحياة والعالم والإنسان، فإنّه ليس ثمّة أمل في فهم الحياة والعلم والإنسان ... إنّ العلائق والاستطرادات السّببيّة قد تفسّر جزئيّات من هذه الأقطاب ولكنّها لا تحلّ قضاياها الكبرى ... إنّ المادّية التّاريخيّة نفسها، توأم الدّيالكتيكيّة، تجد نفسها مسوقة إلى نوع من الغائيّة يتحرّك من خلالها التّاريخ نحو الأحسن، وهي لو أعطت الجماعة البشريّة، أو الطّبقة، الحرّية المطلقة في صياغة ظروفها التّاريخيّة، وصنع مستقبلها، لذهبنا معها إلى رفض الغائيّة، ولكنّها تمنح مساحة واسعة في حركة التّاريخ لما تسمّيه بالضّرورة التّاريخيّة ... الحتمية التّاريخيّة. وما دام الأمر كذلك، ما دام أنّ هناك شيئاً ما خارج وعي الإنسان وإرادته، يتحرّك بعقلانيّة صوب الأحسن، فلابدّ أن في الأمر غاية ما، هي التي تسير التّاريخ، وفق المادّية التّاريخيّة نفسها، في هذا النّظام الفذّ العجيب صوب غاياته الإنسانيّة.
لابدّ للخلق من خالق
لقد كتب الكثيرون عن معجزة الخلق، وقطع حشود من العلماء أعمارهم بحثاً وتنقيباً لكي ما يلبثوا أن ينتهوا إلى إحدى المسلّمات الكبرى في تاريخ العلم: إنّه لابدّ للخلق من خالق ... مسألة لا تقبل لجاجةً ولا انكاراً ... إنّ الخلق ما دام على هذه الدّرجة من النّظام والضّبط والدّقّة والتّوافق والحركة المرسومة والهدف المقصود، والارتباطات الهادفة، فإنّه لابدّ أن يكون صدوراً عن إرادة فوقيّة قادرة مدبّرة ... إنّها مسألة محسومة برياضيّات العلم ومعادلاته ... والشّواهد كثيرة، والنّتائج التي يتمخّض عنها السّعي العلمي الجادّ لا تعدّ ولا تحصى ... ومع ذلك فسوف نعرض لعدد فحسب من النّتائج والشّواهد التي يمكن أن تكون مجرد نماذج لمئات، بل ألوف غيرها في هذا المجال.
ليس ثمّة حقيقة نهائيّة في العلم
والحقّ أنّه ما من حقيقة نهائيّة في العلم البشري، والعلماء الكبار أنفسهم، بعد قضاء أعمار كاملة في ساحات المختبر وبين أجهزته، انتهوا إلى هذه النّتيجة ... إنّ معطيات العلم مجرّد احتمالات قد تخطئ وقد تصيب، وأنّ كشوفاته هي وصف للظّاهرة وليست تفسيراً لها.
يقول سوليفان: «لقد أصبح العلم شديد الحساسيّة ومتواضعاً نسبيّاً. ولم نعد نلقى الآن أنّ الأسلوب العلمي هو الأسلوب الوحيد النّاجح لاكتساب المعرفة عن الحقيقة. إنّ عدداً من رجال العلم البارزين يصرّون بمنتهى الحماس على حقيقة مؤدّاها: أنّ العلم لا يقدّم لنا سوى معرفة جزئيّة عن الحقيقة، وأنّ علينا لذلك أن لا نعتبر، أو يطلب إلينا أن نعتبر كلّ شيء يستطيع العلم تجاهله مجرّد وهم من أوهام. إنّ الحماسة التي يظهرها رجال العلم هؤلاء فيما يتعلّق بفكرتهم القائلة أنّ للعلم حدوداً ليست ممّا يثير العجب في حقيقة الأمر»(1).
ويقول: «لقد قبل جسم جديد –يقصد الكهرباء- في الفيزياء لا نعرف عنه شيئاً سوى بنيته الرّياضيّة (Mathematical Structure). وقد بدأت منذ ذلك الوقت تدخل في الفيزياء أجسامٌ أخرى بنفس الشّروط. ووجد أنّ هذه الأجسام تلعب دوراً يماثل بالضّبط ذلك الذي تلعبه الأجسام القديمة فيما يتعلّق بتشكيل النّظريات العلميّة. لقد أصبح الآن واضحاً أنّ معرفة طبيعة الأجسام التي نتحدّث عنها لم تعد مطلباً لازماً بالنّسبة للفيزياء، بل تكفي بنيتها الرّياضيّة. وهذا بحقّ هو كلّ معرفتنا حولها. وقد جرى التّحقّق الآن من أنّ معرفة البنى الرّياضيّة هي كلّ المعرفة العلميّة المتوفّرة لدينا، حتّى فيما يتعلّق بأجسام نيوتن المألوفة، وأنّ اقتناعنا بأنّنا نعرف هذه الأجسام بصورة قريبة ما هو إلاّ مجرد وهم»(2).
ويتساءل: «لماذا على الإنسان أن يفترض بأنّ الطّبيعة يجب أن تكون شيئاً يستطيع مهندس القرن التاسع عشر أن يستحضره في ورشته؟»(3).
ونقرأ في كتاب (عقائد المفكرين في القرن العشرين): « أنّ العلماء التّجريبيّين عادوا إلى القوانين الطّبيعيّة التي تحكم الحرارة والحركة والضّوء، وكلّ ما في عالم المادّة من كهارب وذرات، فوجدوا أنّ لها قانوناً هو الخطأ والاحتمال. أمّا القائمون بهذه التّجربة فقد كانوا ثلاثة من أقطاب العلوم في مطلع القرن العشرين: ماكس بلانك (Max Plank) البولوني، وورنر هايزنبرج (W. Heisenbeng) الألماني وشردونجر (Schrodinger)  النّمسوي والأوّلان منهم صاحبا جائزة (نوبل) في العلوم الطبيعية عن سنة (1918م)، وسنة (1932م)، والثّالث مكمّل النّظريات التي اشتهر بها الأوّلان، وحجّة لا تعلو عليه حجّة في مسائل الطّبيعيّات على العموم ... إنّ التجربتين –يقول هايزنبرج- في أية قاعدة من قواعد العلم الطّبيعي لا تأتيان بنتيجة واحدة بالغاً ما بلغ المجرب من الدّقة، وبالغاً ما بلغ المسبار من الاتقان»(4).
ويختتم «سوليان» الفصل الثّالث القيّم من كتابه (حدود العلم) بقوله: «لقد بحثنا حتّى الآن في حدود العلم باعتباره أسلوباً لاكتساب المعرفة حول الحقيقة. وقد رأينا كيف أدّت الحساسيّة الجديدة للعلم إلى الإقرار بأنّ ادعاءاته السّابقة قد بولغ فيها كثيراً. لقد جعلت الفلسفة المبنيّة على العلم من المادّة والحركة الحقيقة الوحيدة. وبهذا العمل قد جرى استبعاد جميع العناصر الأخرى الواقعة في مجال خبراتنا. هذه العناصر التي تحمل، كما يتراءى لنا، المغزى الأكبر، والتي تجعل الحياة في النّهاية جديرة بأن تُعاش، قد جرى استبعادها على أنّها محض أوهام»، ثمّ يخلص إلى القول: «إنّ دوافعنا الدّينيّة لا يمكن أن يقنعها أيّ شيء أقلّ من الاعتقاد بأنّ للحياة مغزى خارقاً. وهذا الاعتقاد هو بالضّبط ما جعلته الفلسفة القديمة أمراً مستحيلاً. وهكذا يمكن أن نستنتج أنّ الأهمّية الحقيقيّة للمتغيّرات التي حصلت في العلوم الحديثة ليست في قدرتها المتزايدة على دفع عجلة تقدّم الإنسان، بل في تغيّر الأسس الميتافيزيقيّة التي تقوم عليها»(5).
إن العلم الحديث لم يعد يرفض الحقيقة الدّينيّة أو يشكّك فيها، كما حدث في القرون السّابقة. وهو يعترف بأنّ ليست له الكلمة النّهائيّة في موضوع هو أكبر من حجمه بكثير. ثمّ يعود لكي يؤكّد أنّ الحياة البشريّة لا تستحقّ أن تُعاش إذا ما نحن جرّدناها من بعدها الكبير الذي يتجاوز حدود المادّة والحركة... يعود العلم لكي يتعانق مع الدّين ويتوظّف لديه، ذلك هو الانقلاب الكبير الذي شهدته فلسفة العلم المتمخّضة عن الكشوف الأخيرة في مجال البحث العلمي، وبخاصّة الطّبيعة والذّرّة وطريقة عمل الدّماغ البشري!!
ولقد تأكّد أنّه حتّى على مستوى العلوم التي تعالج الظّواهر المادّية الجامدة، فإنّه ليس ثمّة يقين مطلق، ليس ثمّة سوى الحقائق النّسبيّة، والافتراضات والمتغيّرات. فلو اعتبر ما يقدّمه العلم على أنّه الحقيقة النّهائيّة فإنّ الإنسان نفسه لن يكون سوى ناتج عرضي مشتق من آلات رياضيّة هائلة، لا عقل لها ولا غرض. وهناك من العلماء إنسانيّون إلى درجة أنّهم يجدون مثل هذه النّتيجة مضطربة، وحتّى أولئك العلماء المتعصّبون للنّظرة القديمة فإنّهم يظهرون في بعض الأوقات رغبة ملحّة في أن لا تكون الأمور على هذا الشّكل الذي يعتقدونه. إذن أن لا ندهش إذا وجدنا أنّ الاكتشاف القائل: بأنّ العلم لم يعد يجبرنا على الإيمان بتفاهتنا بالضّرورة قد لاقى ترحيباً وتحليلاً حتّى من بعض رجال العلم أنفسهم(6)
الهوامش
(1) سوليفان،حدود العلم، بيروت، الدار العلمية، 1972، ص 32-33.
(2)  المرجع السابق، ص  36.
(3)  المرجع السابق، ص 44-45.
(4) عباس محمود العقاد، عقائد المفكرين في القرن العشرين، الطبعة الثانية، د.ت، القاهرة، ص 58-60.
(5)  سوليفان، حدود العلم، مرجع سابق، ص 52-54.
(6)   المرجع السابق، ص 33.