نافذة على الفلسفة

بقلم
أ.د. عبدالرزاق بلقروز
لم نبلغ بعد مرحلة ممارسة الاختلاف.
 لا بدّ أن نميّز أوّلا بين الاختلاف والخِلاف، أو بين الحوار الخِلافي والحوار الاختلافي، فالاختلاف مبناه حضور العقل والدَّليل في فعل التَّواصل والتَّحاور، بينما الخِلاف مبناه غياب العقل والدّليل، ومن حيث الصُّورة النّظريّة فنحن في امتساس الحاجة إلى الحوار الاختلافي وليس إلى الحوار الخلافي، فهو الذي يثمر تدافع الآراء وتغذية النّقاشات وتوليد الفوارق، لأنّه يستند إلى الدّليل عقليّا وإلى مكارم الأخلاق عمليّا؛ وبيئة ثقافيّة هذا وصفها فلن تكون إلاّ خطوة صحيّة من النّاحية الحضاريّة، أمّا البيئة التي يسود فيها الخلاف والإكراه وتغييب الدّليل فهي بيئة تمهّد الطّريق نحو العنف والتّنازع، وبالتّالي ذهاب العلم والأدب. 
وإذ تعيّنت أهمّية هذه الفاتحة النّظريّة حول مسألة الخلاف والاختلاف، فإنّنا في الجزائر الثقافية حاليا، أعتقد أنّنا لم نبلغ بعد مرحلة تأسيس مشاريع فكريّة وأدبيّة تستطيع أن تكون لها رؤى خاصّة في جهدها، وبالتّالي فالاختلاف عندنا حاليّا هو اختلاف في الدّرجة الثّانية و ليس في الدَّرجة الأولى، الدّرجة الثّانية تعني اصطفاف أهل الفكر والأدب ضمن أنساق معيّنة واجتهادات فكريّة خاصّة، والمنافحة عليها والدّفاع عنها، أمّا الاختلاف الذي يكون بين المشاريع والمناهج التّجديديّة فلازلنا نشقّ الطّريق نحو هذا المقصد. ما يسود من اختلاف لدينا جزئي، لأنّ مبناه ليس استحضار الدّليل التّجديدي والأخلاقيّة التّحاوريّة، بل الّدفاع عن مدارس أو أفكار أو أراء أحيانا غير مؤسّسة معرفيّا. ولابدّ من القول هنا أيضا، بأنّنا حاليّا في الجزائر نعيش لحظة التّراكم وليس لحظة الإبداع.والتراكم هو الطّريق الأمثل نحو الإبداع وتأسيس مشاريع يمكن القول أنّها مشاريع تمارس ثقافة الاختلاف. 
وإذا تعين هذا الأمر فإنّ الشّروط التي تجعل من فعل بناء الاختلاف على العقل والدّليل هي من منظورنا ما يلي: 
القيم الأخلاقيّة: وهي أساس تقدير  الاختلافات، إنّها صفات وجدانيّة وفكريّة جدير بأصحاب الفكر والثّقافة تمثّلها، مثل الصّبر والنبل والرّحمة والأمانة، فلا اختلاف حقيق بالتّقدير من غير بناء الثّقافة على القيم الأخلاقيّة، لأنّها من جهة، هي التي تورث في قلب المثقّف الحافزيّة النّفسيّة لاستدامة الثّقافة، وهي التي من جهة أخرى تحفظ للوطن الفكري تماسكه واستدامته. وثقافة منفصلة عن الأسس الأخلاقيّة هي ثقافة تبني أركانها على الحوار الخلافي وتغذّي دوافع العنف والّتنازع . 
إصلاح جهاز التفكير : ثمة أمراض فكريّة عديدة تسود وتنتشر وتسبّب العطالة المعرفيّة والاجتهاد الإبداعي، ومن هذه الأمراض ما أسمّيه بأمراض التّفكير، مثل التّفكير  الإنابي، ومعناه أن نستسلم لشخصيّة تراثيّة أو مدرسة معرفيّة كي تنوب عنّا في الإجابة عن تحدّيات زمننا، فالإنابي عائق عن الإبداع والتّجديد. وثمّة التفكير التّقابلي، الذي لا يفكّر لأجل الإبداع والإضافة النّوعيّة، وإنّما يفكر لكي يختلف عن المجال المقابل له في الرّؤية والمنهج؛ فهو دوما يرى الآخر مقلوبا ومعكوسا، وهذا شكل مرضي وعائق نفسي ينبغي إماطته عن الطّريق نحو الإبداع والحرّية . وغيرها من أمراض التّفكير الأخرى . 
إشاعة التّجارة الفكريّة والحراراة الحواريّة : وذلك لأنّ التّجارة مبناها التّنافس والتّباري لأجل الرّبح، كذا عالم الثّقافة والأفكار، من الأجمل أن يكون فيه تباري وتنافس لأجل الظّفر بمعارف جديدة أو نقد المعارف الضّعيفة. بينما الحراراة الحواريّة وتكثير النّقاش المعرفي، يثمران  إلانة المذاهب والنّماذج التي تتحكّم في الفكر والوعي، فالمعرفة وحرارة النّقاش تذيب تلك الأطر السّابقة على الإدراك وتفتح العقل على رؤية ما لم يره من قبل . 
جلي إذن، أنّنا لازلنا لم نبلغ بعد مرحلة يمكن أن نقول فيها، إنّنا نمارس الاختلاف، لأنّنا لم نشرع في كتابة ذواتنا الثّقافيّة كتابة إبداعيّة، والاختلاف الذي نعيشه هو اختلاف الدّرجة الثّانية وليس الأولى، وهو بدوره مقدّمة نحو التّجديد الثّقافي الذي متى أراد الإنسان النّجاح فعليه أن يصرف المحدّدات السّلبيّة ويستحضر المحدّدات الإيجابيّة.