بحثا عن المشترك

بقلم
أ.د.احميده النيفر
الجذر الثقافي والإيماني للغلوّ
 تنتاب المرء حيرة عميقة وهو يحاول أن يفقه مظاهر التطرّف المختلفة التي تُزهق فيها الأرواح وتداس فيها القيم ويتهاوى فيها الإنسان إلى أسفل الدّركات. مثار هذه الحيرة أنّ مظاهر التطرّف تستشري في عالَم تزداد أسباب قرب بعضه من بعض عبر وسائل نقل واتصال وإعلام ومعرفة تتّسع وتتطوّر. 
تزداد الحيرة إلحاحا حين يصبح التطرّف ممهورا بخاتم المبادئ السّامية كالعقائد الدّينيّة أو النّزعات الوطنيّة القوميّة أو المنظومات المساواتيّة . 
لهذا تأكّد بحثُ العلاقة بين ظاهرة الغلوّ وبين المبادئ الدّينيّة مساهمةً في معالجة ثقافيّة تجاوزيّة للظّاهرة ينبغي أن تدعمها معالجة اجتماعيّة اقتصاديّة توسّع الرّؤية وتضبط السّيرورة. 
إنّ ما جرى من احتلال للحرم المكّي سنة 1979 م(1) – من عنف قاتلٍ رافعٍ لشعارات إسلاميّة وما صاحب بروز «داعش» كان إنذارا رامزا للعالَم العربي كلِّه توالت بعده المؤشّرات متفاقمةً ومؤكّدة على ضرورة مواجهة التّطرّف المتوشِّح بوشاح التّديّن والمعبّر عن تأزّم يسطو على الدّين فيدمّر قيمه ومقاصده. 
كيف يمكن تحليل الغلوّ ثقافيّا وبشكل يحقّق تخطّي فعله التّدميري ؟
إنّ ذلك لا يتأتّى إلاّ بالوقوف على بعض خصوصيّات هويّتنا الثّقافيّة والنّظر إلى جملة المراجعات الضّروريّة والمؤديّة إلى إكسابها صفتي المناعة والإبداع اللّتين افتَقَدَتْهُما منذ فترة طويلة.
ما ينبغي تأكيده هو أنّ الثّقافة العربيّة الإسلاميّة إذ تمتاز بجملة من الخصوصيّات المشكِّلة لهويّة الفرد والمجتمع، فإنّ ذلك لا يعني البتّة أنّ تلك الهويّة كائن نَمَطيٌّ جامدٌ ونهائيٌّ. الهويّة، على العكس، حضورٌ حيٌّ مؤثِّر و متأثِّر فالقيم والمفاهيم المرجعيّة فيها في حركة دائبة، تنمو وتختفي ثمّ قد تعود إلى الظّهور، تخبو أو تتألّق، تنهار أو تتّخذ أشكالا مغايرة بتأثير قيم جديدة.
حديثنا عن الثّقافة العربيّة الإسلاميّة أو الهويّة ليس إلاّ بهذا المعنى، لأنّه التّشخيص القادر على تفسير الماضي وفهم تحوّلاته ومن ثَمَّ تفكيك معضلات الحاضر. فإذا كانت الثّقافة أشبه «ببورصة القيم» التي تصنع حياة المجتمع وتصاغ بحراك ذاتِ المجتمع أمكن لنا أن نقول أيضا: إنّ عاهات المجتمع وعلله ترجع إلى أزمة ثقافيّة لم تجد المعالجة الضّروريّة. 
أليس من المفارقات العجيبة أن نجد في النّص القرآني التّأسيسي لهويّتنا وتصوّراتنا هذا الإقبال المنفتح على التّعدّد وعلى الآخر في حين أنّ بعض التّوجّهات المغالية أصبحت اليوم تعدّ «الجحيم» هو «الآخر»؟.  هذا، بينما كان جحيم الدّنيا في بِنيتنا الثّقافيّة المرجعيّة  هو انقطاع صلة الفرد بالآخر عبر تضخّم أنانيته وبتفاقم قوى التّناكر في المجتمع. 
إضافة إلى ذلك كانت التّجربة التّاريخيّة لثقافتنا داعمةً لهذا المبدأ، فقد انبنَتْ في عهود إبداعها على أنّ قَدَر الإنسان أنْ يلقى الإنسان. كانت تجربة قائمة على حقيقة ثقافيّة مركزيّة تربط الإبداع الحضاري بدرجة الاعتراف بالاختلاف وبالتّعدديّة.
إذا كان الاجتماع الإسلامي قد عرف صيغا لتنظيم الاختلاف تبدو اليوم غير كافية، فإنّها كانت دون شكّ -بالنّسبة إلى تجربة تعتمد مرجعيّة الحقّ المطلق في ذلك الزّمان – علامةَ استنارةٍ وحيويّة أتاحت للمسلمين وعيا بأنّ العالميّة لا تتحقّق إلاّ بالتّفاعل والتّبادل  مع الآخر. أمّا في عصور التّأزّم والانهيار، فقد ساد ثقافتَنا توجّهٌ انطوائي كارهٌ للآخر حريصٌ على نفيه. لقد أضحت عندئذ هويّتنا عاجزةً عن المُثاقفة الضّرورية لإثراء الوجود الإنساني المتنوّع في وحدته والواحد رغم تباين أحواله.
يمكن اختزال حالة الحراك «الصّاعد-النّازل» في قيمنا الثقافية بين قطبي قبول الاختلاف والتصدّي له في عبارة شهيرة تُنسب إلى أحد بُناة الأمة في إحدى فترات التأزّم الكبرى حين قال رافضا الغلوّ باسم الدّفاع عن الحقّ: «لا أقاتل حتّى تأتوني بسيف له عينان ولسان وشفتان، فيقول هذا مؤمن وهذا كافر»(2). 
لذلك فعند سؤال: كيف ينشأ التّطرّف في نسيجنا الثّقافي، ترتبط الإجابة أوّلا بمكانة الآخر في البنية الثّقافيّة السّائدة: كيف تنظر إليه مجتمعاتُنا وكيف نُرسي علاقتنا مع المغاير لنا في سلوكه ورؤيته للحياة  والوجود؟ ذلك أنّ الثّقافة التي تزرع أصناف الغلوّ  هي ثقافة تُنمّي التّصوّر الأحادي  وتعمل على تركيزه ضائقة بكلّ تنوّع. إنّها تمضي في توليد النّعوت والأوصاف التّحقيريّة لكلّ نزعة اختلافيّة متجاوزة في ذلك حدَّ الامتناع الوقائيّ للمجتمع إلى درجة الإنكار المُعَطِّلِ لكلّ تفهُّمٍ أو تقييم. من ثمّ فرؤيتنا للآخر معيارٌ كاشفٌ لطبيعة الثّقافة السّائدة ومدى قابليتها للعنف.
إنّ البحث عن الجذر الثّقافي للتّطرّف يفضي بنا إلى الوقوف على رؤية قوامها إنكار «الآخر» كقيمة مماثلة «للأنا» و«النّحن» في المستوى الإنساني وفي إمكانيّة بلوغ الحقيقة. من ثَمّ يفقد الآخر أهليته الإنسانيّة عندما تصطبغ الهويّة الثّقافيّة بصبغة الإدانة الرّافضة لكلّ مثاقفة. لا يبقى عندئذ إلاّ طريق الاستتباع أو التّصفية، لأنّ الآخر المغاير أو المختلف في منطق ثقافة الإدانة هو مصدر الشّرور والآثام الذي ينبغي استئصاله، لأن تمايزه عنّا يعتبر تمايزا مطلقا في حين أنّه في الأصل تمايز نسبيٌّ.
يبقى بعد ذلك ضمن هذا الجذر الثّقافي البعد الإيماني للدّين الإسلامي وهو البعد الأهمّ ماضيا وحاضرا لأنّه يمثّل القيمة المضافة الأساسيّة في هويّتنا الثّقافيّة. ومع أنّ مسألة الإيمان تبدو بديهيّة وغير محتاجة إلى إعادة النّظر، فإنّها في نظرنا وثيقة الصّلة بموضوع الغلوّ.
ذلك أنّ مسالك الإيمان وثناياه مختلفة، هناك ما يمكن تسميته «أسهل الإيمان» وهناك « أعلاه» بناء على تعدّد شُعَب الإيمان. فرقٌ شاسع بين إيمان التّرديد الوثوقي وبين الإيمان الذي لا يرقى إليه صاحبه إلاّ بالمكابدة والسّعي والتّساؤل. ففي حين لا يرى الأوّل حرجا من يقينه البارد في أن يفرض نفسه قاضيا بين النّاس اتضحت لديه الأمور بيسر، يكون الثّاني بالمعاناة والمراقبة الذّاتيّة التي سلك بها دربه الإيماني أبعد عن الأحكام السّهلة الجازمة، لأنّه أكثر إنصاتا وتفهّما. 
أليس حيويّا عندئذ التثبّتُ في أيّ شعبة من شُعب الإيمان قد انخرطنا بأنفسنا في أُسرنا وتعليمنا وإعلامنا؟    
بمثل هذه المقاربة الثّقافيّة الرّوحيّة يمكن فتح زاوية للنّظر في موضوع الغلوّ الذي يتربّص بالرّهان العربي. إنّها مقاربة تهمّش آليّات الفكر الأحادي وما يولّده من تطرّف وعنف وتفتح أبوابا للتجرّد والتجديد والحياة.
الهوامش
(1) بدأت أحداث احتلال الحرم المكّي فجر يوم 1 محرم 1400 الموافق 20 نوفمبر 1979، وذلك إبان عهد الملك خالد بن عبد العزيز، حين اقتحمت جماعة مسلحة (أكثر من 200 مسلح) يقودها جهيمان العتيبي الحرم المكي. هزّت العمليّة العالم الإسلامي برمّته، فقد وقعت مع فجر أوّل يوم في القرن الهجري الجديد، وتسبّبت بسفك للدّماء في باحة الحرم المكّي، وأودت بحياة مصلّين مدنيّين، ورجال أمن، ومسلّحين متحصّنين داخل الحرم. 
(2) عن ابن سيرين قال : قيل لسعد بن أبي وقاص : «ألا تقاتل فإنك من أهل الشّورى و أنت أحقّ بهذا الأمر من غيرك؟»، قال : «لا أقاتل حتّى يأتوني بسيف له عينان ولسان وشفتان، يعرف الكافر من المؤمن، قد جاهدت وأنا أعرف الجهاد، و لا أنجع بنفسي إن كان رجلا خير منّي». رواه الحاكم في المستدرك(8370)