الدولة في الحديث النبوي

بقلم
الهادي بريك
الحلقة الثانية - بين الطّاعة والعصيان : مسافة وعي
 كن على ما يشبه اليقين أنّ إصطدام الحقائق سببه ضياع البوصلة أو غياب المنهاج. لولا الحرص على سلامة العبادة والعمارة لما أنزل اللّه سبحانه الميزان جنبا إلى جنب مع القرآن الكريم. الميزان الذي سمّاه في بعض المواضع منه حكمة. بل ذكر المنهاج نفسه وأنّه ضجيع الشّرعة، فلا شريعة إلاّ بمنهاج ولا كتاب إلاّ بميزان. قليل من قليل من يدرك هذا. وأقلّ منه من يجاهد نفسه للزومه. مساق هذا سببه أنّ أكثر الذين يختلفون في طاعة الدّولة أو عصيانها إنّما يهملون المنهاج ويهرعون بطيش إلى الشّرعة. معنى ذلك أنّهم لا ينظرون في المحكّمات القرآنيّة أوّلا، ويظنّون أنّ الحديث يؤسّس العلاقة. الحقّ أنّ الحديث لا يؤسّس علاقة، ولكنّه يبيّن تلك العلاقة وينزّلها فوق الأرض سيرة. وبين المؤسّس والمنزّل بون، وأيّ بون. لا مناص من كليهما، ولكنّ التّأسيس يسبق التّنزيل. 
النّاظر في الحديث النّبويّ المتعلّق بالدّولة لا يعدم العثور على أحاديث كثيرة ظاهرها التّعارض. لم؟ لأنّ مناسباتها تختلف، وكذلك معالجاتها الجزئيّة. خذ إليك هذا المثال : أخرج الشّيخان عن إبن عمر أنّه ﷺ قال: «السّمع والطّاعة على المرء المسلم فيما أحبّ وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة». ولكنّه قال في موضع آخر فيما أخرجه الشّيخان كذلك عن إبن عبّاس: «من كره من أميره شيئا فليصبر. فإنّه ليس أحد من النّاس خرج من السّلطان شبرا فمات عليه إلاّ مات ميتة جاهليّة». لو اتّسع هذا المجال لذكرت هنا أمثلة أخرى كثيرة عن هذا التّعارض الظّاهريّ الذي يحتاج إلى فقه. ومعلوم أنّ الرّواية مهما صحّت لا تصنع فقها، إنّما يصنع الفقه علم الدّراية أيّ الفهم الصّحيح لمتن الحديث. ماذا يؤمّن لنا الفهم الصّحيح جمعا بين أحاديث متعارضة في الظّاهر؟ لزوم معالم الفهم الصّحيح وضوابط الفقه ومنها رعاية السّياق، ورعاية المقصد. 
الحديثان يتكاملان عند التّحقيق. كيف؟ المقصد الأسنى منهما هو تعميق الوعي لدى المسلمين كافّة أنّ الأمّة جماعة واحدة وصفّ واحد، وأنّه لا مناص لها من قيادة واحدة ورسالة واحدة، فإن تنكّبت ذلك ذهب ريحها وإفترسها العدوّ بكلّ يسر. ظهر هذا المعنى في الحديث الأوّل بالحثّ على قصر الطّاعة في المعروف، وليس في المعصية. وظهر المعنى ذاته في الحديث الثّاني بالتّحريض على الصّبر الذي يؤمّن صفّا واحدا، فلا يكون صبرا سلبيّا يطيع به المسلم الدّولة فيما يغضب اللّه سبحانه، ولا يكون غضبا منفلتا عارما يعمد إلى تغيير المنكر بمنكر مثله أو بأشدّ منه. ويظلّ المقصد الأسنى هو حفظ وحدة الأمّة ورصّ صفّها. 
هو إذن تعارض ظاهريّ موجود بكثرة في مجال الدّولة وفي غيره، ولكنّ النّظر العميق كفيل بتجلية ذلك التّعارض ليضحى تكاملا لا تعارضا. إليك أحاديث أخرى تؤكّد قصر الطّاعة على المعروف لا على المنكر. أخرج الشّيخان عن عبادة إبن الصّامت أنّه قال: «بايعنا رسول اللّه ﷺ على السّمع والطّاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وألاّ ننازع الأمر أهله إلاّ أن تروا كفرا بواحا لكم فيه من اللّه برهان». وعندما فقه هذا إبن عمر لمّا تولّى معاوية الأمر، وحرص على حيازة بيعته وبيعة الصّحابة الكبار، فإنّه رفض البيعة وفرّ مستخفيا في مكّة. 
ليس هو الوحيد الذي أبى بيعة معاوية، ولكن من المبايعين إبن عبّاس. هنا يشتبك أمران، قليل من يعالج إشتباكهما : العلم الشّرعيّ والموقف الشّرعيّ. لا يختلف إبن عمر وإبن عبّاس على أنّ بيعة معاوية ليست بيعة إسلاميّة من النّاحية الشّرعيّة. ولكن إختلفا في تقدير الموقف الشّرعيّ:هل أنّ الأصلح سياسيّا بيعته أم عدم بيعته؟ بل ذهب صحابيّ آخر (هو عبد الله بن الزّبير بن العوّام) إلى إعلان الحرب ضدّ هذا النّوع من البيعة المفروضة. كلّها تقديرات سياسيّة إذن يختلف أصحابها. والمستند الدينيّ واحد وهو : هل يكون النّصح للّه ولرسوله وللأمّة ببيعة غير مستوفية للشّروط الدّينيّة، أم تجاوز ذلك مؤقّتا حفظا لبيضة الأمّة أن تنصدع إلى حين تتبدّل الموازين؟ 
ويظلّ الضّابط الأعظم هو تحكيم القرآن الكريم في محكّماته القطعيّة. ألم يعالج القرآن الكريم قضية الطّاعة؟ أجل. ألم يقيّد فيها طاعة ولاّة الأمر كلّ التّقييد، إذ جعلها مشروطة بطاعة اللّه وطاعة رسوله ﷺ؟ ألم يشدّد النّكير على الإسرائيليّين الذين تحاكموا إلى الطّاغوت، وعدّهم بذلك كفّارا؟. أيّ قيمة لإمتلاء القرآن الكريم كلّه بقصّة فرعون إذن؟ أليس لبناء عقل مسلم جديد يعي كلّ الوعي أنّ الدّولة والحكم والسّلطان من أمّ الدّين والعبادة. وليست هي أمور يحكمها العقل فحسب دون وحي، ولا هي أمور جانبيّة هامشيّة أو ثانويّة؟ أليس فرعون وهامان وقارون والسّامريّ رموزا حيّة للطّاغوت الذي هو نقيض لحكم اللّه سبحانه؟ 
أينما قرأت في القرآن الكريم فإنّك مُلف إمّا أوامر بعدم طاعة دولة لا تطيع اللّه سبحانه، أو نواه عن ذلك، أو قصّة أو مثلا يشحن العقل المسلم الجديد بذلك. ورغم كلّ هذا الوضوح والإمتلاء فإنّ الإنسان، الأكثر شيء جدلا، لم يعدم حيلة للإلتفاف على كلّ هذا باحثا في الحديث عمّا ينقضه. هذا لا يعدّ عدا عبثا معبوثا، لا علاقة له لا بعلم ولا بفقه، ولا حتّى بجدّيّة ومسؤوليّة. 
مسألة أخرى لا مناص منها وهي أنّ أكثر الحديث الذي يمكن أن ينشئ تعارضا ظاهريّا هو من رواية مسلم الذي أفرد في صحيحه مجالا واسعا لباب الإمارة. ولكن لا تجد هذا في البخاريّ، وهو أعلى منه قيمة، بسبب شروطه الصّارمة في قبول الحديث. وبذلك لا تكاد تجد في المتّفق عليه بينهما (وهو أعلى درجات الحديث الصّحيح بحسب صيارفة هذا الفنّ ومنهم إبن الصّلاح) شيئا من ذلك التّعارض الظّاهريّ. الأمر المتكرّر منه ﷺ بالصّبر لا يعني الطّاعة في معصية. إنّما المقصد من الصّبر هنا هو الصّبر عن إنكار المنكر بمنكر مثله أو بمنكر أشدّ منه. ولذلك شدّد ﷺ بيانا لذلك على حرمة حمل السّلاح، فقال فيما هو متّفق عليه بين الشّيخين عن إبن عمر وأبي موسى: «من حمل علينا السّلاح فليس منّا». وحمل السّلاح ليس صبرا. كيف يأمر إذن ﷺ بالسّمع والطّاعة مرّة وينهى عن ذلك عندما يكون لنا في المعصية برهان مرّة أخرى؟ 
طريق الجمع بين تلك التّعارضات الظّاهريّة هو طريق الفقه الرّصين الواعي. أمّا طريق ليّ قيمة الصّبر لتكون إمّعية وطاعة في معصية اللّه سبحانه فهو طريق غير مقبول. ومثله طريق ليّ القيمة ذاتها لينشأ عمل عسكريّ يهدم صفّ الأمّة ويغري بها عدوّها. المقصد الأسنى من كلّ ذلك هو حفظ الصّف الواحد للأمّة حتّى وهو متنوّع. وفي ذلك ذهب ﷺ إلى حدّ قوله فيما أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدريّ: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما». إلهذا الحدّ؟ أجل. لم؟ لأنّ المقصد الأسنى للإسلام هو حفظ الصّف الواحد المرصوص للأمّة مهما إدلهمّت مشكلاتها. ولكن لا يعني ذلك إرساء دولة ملبسها إسلاميّ ورسالتها هدم الإسلام ذاته. وهل يهدم الإسلام شيء مثل تعويق قيمه العظمى؟ وهل هناك من قيم أعظم فيه من مثل قيم التّوحيد والصّف الواحد وقيمة التّنوّع والعدالة والحرّية والكرامة والقوّة والعلوم والمعارف والعمارة والأسرة وغير ذلك؟ معنى ذلك أنّ الإسلام لا يقبل أبدا مطلقا بدولة ذات رأسين أو أمّة ذات دولتين. 
نحن اليوم ننكر هذا. لم؟ لأنّنا ولدنا ونشأنا في رحم هذا الواقع البئيس: أمّة مفرّقة ممزّقة، ودول متحاربة متعادية. وفي كلّ شبر منها رأس يزعم أنّه أمير المؤمنين وخليفة رسول اللّه ﷺ. عدم تشّبعنا بقيمة وحدة الصّف داء عضال. كيف يستقيم الأمر بالصّبر وعدم معصية الدّولة مع قوله ﷺ فيما أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدريّ: «من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»؟ 
صبر وتغيير؟ كيف؟ ذلك هو معنى الفهم الموضوعيّ للحديث سيما في مجال واحد، وليس الفهم الموضعيّ الذي ينشئ عقلا أحول أعور. الصّبر إذن معناه : التّغيير بالقلب وهو أضعف الإيمان. وليس الصّبر معناه موالاة الدّولة التي تأمر بالمنكر أو تنهى عن المعروف. بل يعني الصّبر كذلك : الصّبر على ضريبة التّغيير وخاصّة باللّسان، والقلم هو اللّسان الثّاني كما قالت العرب. كيف يمتلئ القرآن الكريم بقيمة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر حتّى عدّته فرقة إسلاميّة معروفة (هي فرقة المعتزلة) ركنا من أركان الإسلام، ثمّ نفهم الصّبر أنّه طاعة لدولة في معصية صحيحة صريحة لنا فيها من اللّه برهان وبرهان؟ العيب إذن هو في عقلنا. وليس في التّعارض الظّاهريّ للحديث. 
المنهاج هو ربّان الفهم. وإعمال الحكمة (الميزان) هو الفقه الحقّ. وبعد تحكيم القرآن الكريم أوّلا ثمّ  السنّة ثانيا فإنّ لنا في عمل الصّحابة خير محطّة. كيف فهم الصّحابة كلّ هذا؟ ألم يقاتل السّبط العظيم (الحسين) دولة بني أميّة حتّى والموازين غير متكافئة ومنخرمة لصالح من يحاربهم، وسقط شهيدا في كربلاء؟ هل نحكم على هذا السّبط أنّه لا حظّ له فقها في دين جده؟ هل نحكم ليزيد بالحقّ؟ إبن الزّبير والحسين وغيرهما كثير قاوموا ـ وبالسّلاح ـ دولة مرقت من قيمة التّشاور التي فرضتها سورة الشّورى المكّية كما يمرق السّهم من الرّمية. 
الخلاصة هي إذن أنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، دون ريب ولا نزاع. كيف لا. واللّه نفسه قصر طاعة محمّد ﷺ في المعروف. هل يأمر محمّد ﷺ بغير معروف؟ أبدا. مطلقا البتّة. لم؟ لأنّه معصوم، ورغم ذلك قال فيه فيما عرف ببيعة النّساء ﴿وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ﴾(الممتحنة:12). لا معنى لذلك سوى أنّه إذا كانت طاعة محمّد ﷺ في غير معروف ليست طاعة للّه (وهو إفتراض جدليّ لا ينبني عليه حكم. لأنّه ﷺ معصوم) فإنّ كلّ طاعة لغيره في غير معروف هي معصية للّه سبحانه. ولكن تختلف التّقديرات بين النّاس : هل يكون التّغيير منّا اليوم بالقلب فحسب، أم باللّسان وما في حكمه من مثل الحزب والجمعيّة والمنظّمة، أو باليد؟ وهل يفضي ذلك إلى تغيير المنكر أم إلى منكر مثله أو أشدّ منه فيكون الصّبر (وليس الموالاة والطّاعة) هو الخيار الأفضل؟ إختلاف تنزيل لا إختلاف تأسيس.