حديث في الأدب

بقلم
أ.د.وليد قصاب
موقف الأدب الإسلاميّ من المذاهب الأدبية الغربية (1/2)
 مما لا ينبغي أن يخفى على أحد أنّ الأدب فنّ غير حيادي، بل هو منحاز دائما إلى الفكر الذي أنتجه، وإلى التّصوّر الفلسفي أو العقدي الذي  صدر عنه. 
ومن ثمّ فإنّ المذاهب الأدبيّة عند جميع الأمم هي في إطار هذا الارتباط بالحضارة التي أنتجتها، والفلسفات التي خرجت من رحمها. إنّها ليست مجرّد آراء في الأدب واللّغة والنّقد، أو أجناس الأدب وطبيعتها ووظيفتها، ولكنّها – وهي تتحدّث عن ذلك كلّه – تمثّل عقائد وإيديولوجيّات عن الكون والإنسان والحياة، وعن الأديان والألوهيّة في أحيان غير قليلة. 
بل إنّ من عناصر المذهب الأدبي وجود أساس فكري فلسفي ينهض عليه، وينتظم آراءه وأفكاره، فيكسبها التّرابط والانسجام، ويعصمها من التّناقض والخلل، ومن ثمّ فإنّ لكلّ مذهب أدبي وجهه الفكري الفلسفي بالإضافة إلى وجهه الفنّي، بل إنّ الثّاني تابع للأوّل، أو عاكس له على نحو من الأنحاء. 
وهكذا يبدو المذهب الأدبي مجموعة من الآراء الفكريّة والفنّيّة المترابطة المنضبطة بشكل دقيق ومحكم، ممّا يجعلها وحدة منسجمة يطلق عليها اسم «المذهب» أو «المدرسة» أو «الاتجاه» أو «التّيار» أو ما شاكل ذلك من مصطلحات. 
وقد يكون المذهب الأدبيّ تأسيسا على أصول فلسفيّة وفنّية جديدة، وقد يكون ثورة على أعراف قديمة، ودعوة إلى التّحرّر منها، لخلق شيء جديد مناقض لها، على نحو ما ثار الرّومنتيكيّون على الكلاسيكيّة»(1). وفي الحالتين ينهض المذهب على أصول فلسفيّة وفنيّة، وإن كانت هذه الأصول نقض القديم، والأخذ بعكسه، ثمّ التّأسيس الجديد على هذا الاتجاه المعاكس.
 يقول شكري عياد: «لا يتمّ معنى المذهب – كحركة أدبيّة ما – حتّى تكون له نظرة معيّنة إلى الكون والمجتمع، وموقف الشّاعر أو الكاتب المبدع منهما، ولهذا يقوم النّقد بوظيفة مهمّة في تكوين المذهب، إذ إنّه يشارك الإبداع في تحديد النّظرة والموقف..»(2).
وقد أطال النّقّاد في الكلام على ارتباط الأدب والنّظريّات الأدبيّة بالإيديولوجيا والتّصوّرات الفلسفيّة والسّياسيّة المختلفة. 
يقول «تيري إيغلتون» في كتابه «نظريّة الأدب»:«النّظريّة الأدبيّة مرتبطة بالقناعات السّياسيّة والقيم الإيديولوجيّة  على نحو لا يقبل الانفصال... ذلك أنّ أيّة نظريّة – معنيّة بالمعنى، والقيمة، واللّغة، والشّعور، والتّجربة الإنسانيّة – سوف تتورّط حتما مع قناعات أعرض وأعمق عن طبيعة الأفراد والمجتمعات الإنسانيّة.. إنّ مثل هذه النّظريّة الأدبيّة «الخالصة» هي أسطورة أكاديميّة.. ومن جهتي أرى أنّ للنّظريّة الأدبيّة صلة خاصّة وثيقة جدّا بالنّظام السّياسي..»(3).
بل يذهب «إيغلتون» إلى أبعد من ذلك، فيرى أنّ الأدب لا يتورّط في الإيديولوجيا من ناحية المضمون فحسب، بل يتورّط في ذلك حتّى في اللّغة التي يستخدمها. 
يقول: «إنّ النّظريّة الأدبيّة تكشف عن تورّطها اللاّواعي غالبا مع الإيديولوجيّات الحديثة حتّى حين تتحاشاها، وهكذا تنمّ عن نخبويّتها، أو جنسانيّتها، أو فردانيّتها، في اللّغة «الجماليّة» أو «غير السّياسيّة» عينها التي تجد من الطّبيعي أن تستخدمها للنّصّ الأدبي..» (4).
المذاهب الغربيّة الحديثة 
إنّ المذهب الأدبي الغربي إذن هو تعبير باللّغة عن نسق معرفي ما، عن مواقف فكريّة وفلسفيّة تسود الحضارة التي تصدر عنها، ولأنّ هذه الحضارة الآن هي الغالبة المتسلّطة، فإنّها تنجح في تصدير مذاهبها إلى الآخرين، ويقع المغلوبون المنهزمون تحت سلطانها، وقد يذوبون فيها، ولا سيما إذا لم يفيئوا إلى ركن ركين من عقيدتهم أو تراثهم، أو تاريخهم، يحميهم من الفناء أو التّلاشي في الآخر. وهذا ما عبّر عنه العقاد – رحمه اللّه – بقوله: «يقول ابن خلدون: إنّ المغلوب مولع بمحاكاة الغالب، ويوشك أن يندمج المغلوب في بنية القوي المتسلّط عليه، ويفنى فيه عادة وعملا ولغة وأدبا إن لم يعصمه من هذا الفناء عصمة من بقايا الحيويّة كمنت فيه، وورثها من تاريخه القديم..»(5).
وإنّ الأدب العربي يقع اليوم تحت سلطان المذاهب الأدبيّة الغربيّة، وهو يقلّدها تقليدا أعمى في الشّكل والمضمون أحيانا، ويكاد يحتذيها في أحيان أخرى «حذو القُذَّة بالقُذَّة».
يتحدّث شوقي بغدادي عن تبعيّة الشّعر العربي الحداثي لمدارس الشّعر الغربي وتياراته المختلفة، فيقول:«التّسيّب الكبير الذي يحكم ساحة التّجارب الشّعريّة يقوده – بشكل عام – هاجس التّبعيّة لما صدر ويصدر من مدارس وتيارات أدبيّة أوروبيّة غربيّة على الأخص، وما خالطها من صراعات غريبة ليس على الذّوق العربي فحسب، بل حتّى على الذّوق البشري عموما..»(6).
ويقول عبد الحكيم حسّان: «أدبنا مستورد، لا توجد لنا نظريّة نقديّة عربيّة يمكن أن تساهم بها في ركب التّطوّر والحضارة، لأنّ الأدب الذي يكتبه أدباؤنا مستورد، ومقاييسه بالتّالي مستوردة..»(7).
وبدت التّبعيّة للأدب الغربي وللفكر الغربي تتحكّم حتّى في ذوقنا الجمالي، وأصبح معيار الحسن والقبح الفنيين عندنا مستمدّا من النّظريّات الجماليّة النّقديّة التي حملها إلينا الفكر الغربي الحديث. وقد انتقد برهان غليون سيطرة الحداثة الغربيّة ومعاييرها على الإبداع الفكري، فقال:«إذا كانت الجماليّة قائمة في إبداع المعاني الفنيّة، فإنّ جعل الحداثة في ذاتها معيارا للإبداع يعني غياب أيّة نظرة في هذا الإبداع الفنّي، باستثناء نظريّة النّسج على منوال ما هو حديث، أو ما هو باستمرار أحدث من السّابق، وهي نظريّة – إذا صحّ التّعبير – عبثيّة منواليّة. 
إن الإبداع في الفنّ – كما في أي ميدان من ميادين النّشاطات العقليّة والاجتماعيّة – لا يعني البدعة – أي الأخذ بكلّ ما شاء الفنان من دلالات وارتباطات، وإنّما هو توليد دلالات جديدة خاضعة لضوابط ونواظم معطاة في كلّ فن، أي هو إطلاق الطّاقات الكامنة في نظام دلالي معيّن..»(8).
ويوضح برهان غليون ذلك أكثر عندما يقول: «إن تحويل الحداثة ذاتها إلى معيار للإبداع يعني في الواقع فقدان أيّ معيار، وتفسير الشيء بذاته.. وهي لا يمكن أن تعني في النهاية إلا القدرة على استنساخ آخر ما يظهر في الغرب مصدر التجديد والتحديث والتسابق بين المبدعين.. وهذا لا يعني قتل أساس الإبداعيّة فقط – ونعني به الذّاتيّة، ذاتيّة المبدع، وذاتيّة الجماعة التي يأخذ العمل الفنّي قيمته منها – ولكنّه يعني أيضا قتل الإبداع ذاته، وتحويله إلى مجرد تعميم لدلالات فنيّة وجماليّة ظهرت في مركز الحضارة، أي إلى بدعة، حتّى لو بدا ذلك للمقيمين في الأطراف نوعا من الكشف والإبداع..»(9).
انبهار الأدب العربي الحديث بالمذاهب الغربية 
إنّ المذاهب الأدبيّة الغربيّة قد فعلت فعلتها في أدبنا العربي الحديث، غربت كثيرا من نماذجه، وقطعت صلتها شكلا ومضمونا بمنابع الثّقافة العربيّة والإسلاميّة الأصيلة. 
وهذه المدارس الغربيّة، ينبغي أن يؤخذ في الحسبان أمران هامان يتعلّقان بها: 
الأول: وهو ما أشرنا إليه من كونها نتاج فلسفات وإيديولوجيّات أنتجتها حضارة تختلف في تصوّراتها، ومصادرها، ومرجعيّاتها عن حضارتنا العربيّة الإسلاميّة كلّ الاختلاف. 
الثّاني: أنّ هذه المذاهب الأدبيّة الغربيّة قد استنبطت من أدب ذي طبيعة مختلفة – فكريّا، وفنيّا، وجماليّا – عن طبيعة أدبنا العربي الإسلامي. وبالتّالي فهي ليست إنتاجا إبداعيّا عربيّا، ولا هي مستقرأة من نماذج أدبنا العربي أو الإسلامي: قديمه أو حديثه، ولا هي إفرازات مجتمع عربي إسلامي، أو حضارة عربيّة إسلاميّة، إنّها إنتاج غربي. 
وقد غابت هاتان الحقيقتان – جهلا، أو عمدا، أو لانبهار المغلوب بالغالب على نحو ما ذكر ابن خلدون – عن كثير من أدبائنا العرب المعاصرين، فسجّلت المذاهب الأدبيّة الغربيّة – على ما فيها من مجافاة لعقيدتنا وتصوّراتنا الفكريّة، ولغتنا، وذوقنا، حضورا طاغيا في أدبنا العربي الحديث، على نطاق الشّكل والمضمون معا. 
اقتبس كثير من أدبائنا أفكارا وتصوّرات وآراء لا حصر لها من هذه المذاهب، بل راحوا يقلّدونها تقليدا ضريرا لا تمييز فيه، ولا غربلة ولا اصطفاء، حتّى فشت في أدبنا العربي الحديث – نتيجة هذا التقليد – عشرات، بل مئات من الأفكار السّقيمة التي تتناقض مع ديننا وقيمنا، بل تشكّل اعتداء صارخا عليهما في أحيان غير قليلة(10).
وراحت طائفة من نقّادنا تقسم أدبنا الحديث إلى مدارس واتجاهات وتيّارات على شاكلة هذه المدارس الغربيّة تماما، مستعملين تسمياتها ومصطلحاتها، وذلك كلّه في ظلّ ملابسات غير طبيعيّة يتمّ فيها الاتصال بالأدب الغربي، بل بالفكر الغربي عامّة. 
بل الأعجب من ذلك أنّ بعض الباحثين المعاصرين قد طبق هذه المذاهب على أدبنا العربي القديم، وهو أدب له ظروفه الخاصّة، وبيئته، وطبيعته، التي لا يمكن أن تلتقي - بحال من الأحوال – مع طبيعة الأدب الغربي الحديث الذي هو – كما عرفت – نتاج ظروف نفسيّة وسياسيّة، واجتماعيّة، وزمانيّة، ومكانيّة مختلفة كلّ الاختلاف عمّا عرفه الأدب العربي القديم، وما تقلّب فيه من الظّروف والأحوال. 
يقول شوقي ضيف ناقلا عن جبّ من غير تعليق: «الشّعر الجاهلي – كما وصلتنا نماذجه – لا يعتمد أصحابه على «فنّ الموسيقى» فقط، وما يحدثون فيه من قواعد والتزامات دقيقة، بل هم يعتمدون على فنّ آخر، لعلّه أكثر تعقيدا، وهو «فنّ التّصوير» ولعلّ ذلك ما جعل «جبّ» يقول: إنّ أدب العرب أدب رومانتيكي..»(11).
وهذا كلام غير دقيق، إذ الرّومانسيّة – كما لا يخفى – هي مذهب غربي له – كغيره من المذاهب الغربيّة – أصول فلسفيّة، وفنّية، وهو أبعد ما يكون عن تصوّر الشّعر العربي، ولا سيما الجاهلي منه. 
والحقّ أنّ الأدب العربي عرف تيّارات واتجاهات متنوّعة، ولكنّها لا تشكّل مذاهب أو مدارس بالمفهوم الاصطلاحي الحديث، إنّها أقرب – كما يقول شكري عياد – إلى «المنازع» منها إلى «المذاهب»(12).
وليس هذا مقصورا على العرب فحسب، بل ينطبق على الأوروبيّين كذلك، وقد أشار محمد مندور في كلامه على نشأة المذاهب الأدبيّة الغربيّة إلى أنّ الأدب الأوروبي لم يعرف المذاهب الأدبيّة في عصوره القديمة، ولا في عصوره الوسطى، وأنّ هذه المذاهب الأدبيّة أخذت تتشكّل ابتداء من عصر النّهضة..»(13).
في ضوء جميع ما تقدم، كيف يتعامل الأدب الإسلامي مع هذه المذاهب الأدبيّة الغربيّة ؟ 
أين سيكون موقعه منها؟ ما معاييره في ضبطها، وكبح جماحها؟ 
هذا ما سنتطرق إليه في الجزء الثّاني من المقال بالعدد القادم إن شاء اللّه.
الهوامش
(1) انظر «في الأدب والنقد» لمحمد مندور، ص105.
(2) المذاهب الأدبية والنقدية عند العرب والغربيين، ص62، (سلسلة عالم المعرفة- الكويت).
(3) النظرية الأدبية، 326-328.
(4) السابق، ص329.
(5) دراسات في المذاهب الأدبية والاجتماعية، للعقاد، مكتبة غريب، القاهرة، ص7.
(6) مجلة الناقد، العدد الثامن، شباط، فبراير، 1989م، ص24.
(7) جريدة الأخبار المصرية، الصحيفة الأدبية، عدد 1/4/1981م.
(8) اغتيال العقل، دار التنوير، بيروت، 1987م، ص286.
(9) السابق، ص282.
(10) انظر كتاب «الحداثة في الشعر العربي المعاصر: حقيقتها وقضاياها»،  د. وليد قصاب، ص37-73، دار القلم، دبي: 1996م.
(11) الفن ومذاهبه في الشعر العربي، ص15، دار المعارف، بمصر، ط6،.
(12) المذاهب الأدبية والنقدية عند العرب والغربيين، ص62.
(13) في الأدب والنقد، ص104.