مقالات مترجمة

بقلم
بن عيسى الدمني
الإسلاميون الأتراك في اختبار السلطة البلدية إنتاج فضاءات، ممارسة حكم وإدارة مجتمعات محلية - (2/3)
  السّلطة البلديّة الإسلاميّة: شفافيّة وديمقراطيّة مباشرة مقابل فساد استزلام؟
إن المرشَّحين الإسلاميين الذين بالغوا في التشهير بفساد الموظَّفين والمنتخَبين المحليين، قدموا وعودا بمقاومة ممارسات الاستزلام التي يُفترَض أن تكون الفِرَق المغادرة تورطت فيها. صحيح أن الإسلاميين لا يحتكرون سجلّ النزاهة والأخلاق. لكنهم، في المقابل، فاقوا الأحزاب الأخرى في الإلحاح على هذا السجل وفي إكسائه صبغة دينية.
عملا بالتوجيهات الحزبية، كانت عدة بلديات تابعة لِـ «حزب الرفاه» تعلن في التسعينات أنْ «لا رشوة في هذه البلدية» وأن «الراشي والمرتشي ملعونان». و قد وظفت بلدية (العمرانية) التابعة لمدينة (إسطنبول) مقابلا ماليا على بعضَ المرافق (مثل رفع الفضلات، وتسجيل وثائق التملّك)، بعد أن كان توفيرها في ظل الإدارات السابقة مجانيا بصورة رسمية؛ لكن تلك المرافق كانت، في واقع الأمر، خاضعة لضرائب غير رسمية تؤدى في شكل «بقشيش». بعض المراقبين اعتبروا أن البلديات الإسلامية إنما حظيت بالتقدير، خاصة في سنوات عملها الأولى، لأنها كانت أقل فسادا وأفضل تصرّفا من بعض البلديات التابعة للتيار الاجتماعي ـ الديمقراطي المنتهية ولايتها والتي نُسبت إليها عمليات تحويل أموال مدوّية. هذا لا يعني أن الإسلاميين كانوا في منجاة من الفضائح؛ فلقد اضطر عدة رؤساء بلديات إلى الرد على مساءلات صدرت عن الرأي العام، وحتى عن القضاء، بشأن تهم تعلقت بفساد. من الأمثلة الدالة على ذلك أن (مليح غوكسيك) رئيس بلدية (أنقرة) المنتمي إلى «حزب الرفاه» وإلى «حزب السعادة» ثم إلى «حزب العدالة والتنمية»، وقع اتهامه باستخدام أموال عامة لفائدة مدارس قرآنية ومساكن مخصصة للطلبة ومرتبطة بجمعيات دينية محظورة، إضافة إلى تمكين مسؤولي الحزب وعائلاتهم من أراض وفُرَص أعمال، بصورة غير قانونية(1).
 يبدو أيضا أن إسناد المناصب البلدية بصورة تفضيلية كان معمولا به على الدوام. فكثيرا ما كان عمّال عديدون، و حتى كوادر أو موظفون سامون غير منتمين إلى «حزب الرفاه»، يقدّمون استقالاتهم بعد أن يعاد تصنيفهم وتعيينهم في مناصب عمل لا تمتّ إلى وظائفهم السابقة بأي صلة (من ذلك أن مدير الشؤون القانونية السابق في بلدية (فان) تم تعيينه في وظيفة بستانيٍّ بعد وصول فريق «حزب الرفاه» سنة 1989)؛ أما الذين لم يكونوا موظفين، فقد وقع رفتهم دون تحفظ وبكل بساطة: ففي عام 1993، كان وصول «حزب الرفاه» إلى بلدية دائرة (كاغيثان) ِبِـ (إسطنبول) سببا في طرد 245 شخصا كان الفريق الاجتماعي ـ الديمقراطي المغادر قد وظّفهم سابقا. الحقيقة أن عدة بلديات ذات نزعة إسلامية قدّمت مبدأ الولاء الحزبي على مبدأ الاستحقاق في إدارتها للموظفين. والظاهر أن تهمة «الخيانة» التي وجهها تنظيم «حزب الرفاه» إلى (طيب أردوغان) عندما انتدب موظفين غير حزبيين، فور انتخابه رئيسا لبلدية (إسطنبول)(2)، هي دليل على أن الحزب كان في الخفاء يزكّي المفاضلةَ الحزبية في التشغيل. وكان (أردوغان) من ناحية أخرى، قد اعترف بأنه لم يُفلح في وضع حد لممارسات الفساد في بلديته الخاصة(3).
كما استمر إسناد الصفقات العمومية وفق ترتيبات الحِقَب السابقة، وبذات القدْر من عدم الشفافية، وظلت المقاولات التي ارتبطت بعلاقات مع المسؤولين الحزبيين تفضَّل على غيرها: هكذا استأثرت «مقاولة البيرق للأشغال العامة» التي كانت ساندت حملة «حزب الرفاه» الانتخابية في 1994، بعدة صفقات مهمة بِـ (إسطنبول) في ظروف كانت تنقصها الشفافية(4). وكان تقديم تبرّع لمؤسسة من المؤسسات الإسلامية يعَد ضمانا للحصول على رخصة بناء من لدن دائرة (أمينونو) البلدية التابعة لِـ «حزب الرفاه» في (إسطنبول). وقد سولت بلدية الحاضرة (إسطنبول) لنفسها السماح حتى بتمويل قسط كبير من المنَح المسداة للعمال البلديين من أموال التبرعات التي كانت تدفعها شركات، أو أشخاص، لقاءَ إنشاءِ بناءاتٍ غير قانونية(5). وفي حوالي سنة 2000، كان تقديم دعم مالي لنادي كرة القدم البلدي بمدينة (قيصري) يسهّل دائما لصاحبه الحصولَ على صفقة عمومية(6).
أخيرا، يبدو أن الإسلاميين، شأنهم في ذلك كشأن بقية الأحزاب، يتعهدون جماعاتهم ويوسّعون نطاقها بالامتنان عليها بتوزيع إيرادات حضرية. هذا ما يجعلنا نستنتج وجود تواصل نسبي بين ممارسات حكم الفرق البلدية القديمة وممارسات الإسلاميين الذين يحكمون منذ حوالي خمسة عشر عاما [قبل تاريخ إنجاز هذه الدراسة]. من جهة أخرى، قد نميل إلى تفسير هذا الأمر الملَحوظ بأنه شكّل تكيّفا من قبل الإسلاميين مع المقتضيات الاجتماعية السياسية التي فرضها العمل المؤسساتي وفرضتها التصورات الشعبية للشأن السياسي(7). لكن لا يمكن لنا البتة أن نذهب إلى أبعد من ذلك. فكيف يمكن أن نعرفَ إنْ كانت تلك الممارسات قد زادت أم نقصت في ظل البلديات الإسلامية، أو نعرفَ إنْ كان شكلها قد تغير أم لا، أو نعرفَ إنْ كان نصيب التنظيم الحزبي منها قد كبر أم ظل، على العكس من ذلك، محدودا؟ إن الكشف عن هذا النوع من التحركات يمر عبر توجيه اتهامات، وعبر منطق صحافي وقضائي نادرا ما يكون محايدا، ولا يمكن بحال أن يُعَدّ أساسا لشهادات موضوعية أو لإجراءات غير منحازة. ومن المحتمل أن تكون وسائل الإعلام الملتزمة بالتيار السائد أكثر مماحكة حول هذا الموضوع كلما تعلق الأمر ببلديات إسلامية. إن التغيّر الأساسي الذي يمكن معرفته يتمثل في تشكيلة المستفيدين من الإيرادات، خصوصا من حيث توسّعهم إلى شبكات دينية. ففي الفترة الممتدة بين 1989 و 1994، دعمت بلدية (سيفاس)، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، جمعيات ومؤسسات قريبة أيديولوجيا من «حزب الرفاه»؛ عن طريق التكرّم عليها بتحويل أراض بلدية لفائدتها، وحَثِّ عمالها البلديين على دعم أنشطتها(8).
ثمة تغيّرٌ آخر معلَنٌ في أساليب حكم البلديات الإسلامية يخص الشفافية والديمقراطية المباشرة. فقد كان الإسلاميون يطمحون إلى إعادة تمكين المواطنين من سلطةِ مبادرةٍ ومراقبة يبدو أنهم كانوا محرِومين منها. وكان المطلوب من هذا الخطاب الساعي إلى القرب من الشعب، والمعبّر عن استعداد المنتخَبين لخدمته، أن يقطع مع ما يُفترَض أن تكون الفرق السابقة قد اتسمت به من جفوة ولامبالاة، وحتى من كبرياء.
إن تجربة «المائدة البيضاء» عكست تلك الرغبة الملحّة في النهوض بالديمقراطية المباشرة. إن وضع هذا الجهاز المخصَّص للإصغاء المباشر لمقترحات المنظورين ولانتقاداتهم، داخل مكاتب مخصصَّة لذلك الغرض ومعروفة بشكل واضح، كان الهدفُ منه اجتنابَ الوقوع في التلكؤ البيروقراطي. ذلك أن الجهاز يتيح للمواطن فرصة الوصول بسهولة أكبر إلى هيئات القرار. بالإضافة إلى ذلك، فإن رؤساء البلديات الإسلاميين يعتبرون أن دواعي الشرف تقتضي منهم المشاركة بشخوصهم في المناسبات الخاصة مثل الأعراس أو الجنائز؛ وفي حال تعذّر ذلك، تكون مشاركتهم ببعث الرسائل. من ذات هذا المنظور الخاص بالقرب، أنشأت عدة بلديات ما أطلقت عليه عنوان «يوم الشعب»: من ذلك أن رئيس بلدية دائرة (العمرانية) في (إسطنبول)، المنتمي إلى «حزب الرفاه»، كان يستقبل السكان بمكتبه بعد الظهيرة، مرة في كل الأسبوع. فيُنصت إلى مطالبهم ومقترحاتهم، ويحاول حل مشكلاتهم؛ وكثيرا ما كان يوجههم إلى شبكة المنظمات التي كانت تعمل بالتعاون مع البلدية. و كان المجال مفتوحا لمجيء كل السكان، سواء أكانوا منتمين إلى أحزاب أو في حل من أي انتماء. ولئن كان مثل تلك الحصص موجودا أيضا في زمن الفريق السابق، إلا أن رئيس البلدية المنتمي إلى التيار الاجتماعي ـ الديمقراطي كان يخاطب السكان من فوق منصّة؛ وهو ما أضفى على الحصص إذاك صبغة مسرحية، وجعلها سببا لمزيد الانفصال عن الناس، ولانعدام أي إمكانية للتواصل بين الأشخاص(9).
بالإضافة إلى كل تلك الأجهزة، قامت البلديات الأولى التابعة لِـ «حزب الرفاه»، سنة 1989، بإنشاء «تجمّعات شعبية» في مواعيد منتظمة ومفتوحة، كانت تسمح للمواطنين بطرح تساؤلات، والإفصاح عن طلبات وانتقادات. و كان ذلك يتم أثناء لقاءات يعقدونها مع منتخَبيهم ومع المسؤولين عن المصالح الفنية. ويتولى هؤلاء تقديم البيانات حول أنشطة البلدية(10). إن تلك التجمعات التي غالبا ما كانت تقدَّم على أنها صورة مقتبَسة من طريقة حكم الخلفاء الأوائل، كانت تسمح بإعطاء انطباع عن المنتخَبين بأنهم قريبون من منظوريهم، مهتمّون بمشاكلهم ومَدينون لأفعالهم؛ فكانت، بذلك الاعتبار، مندرجة ضمن آليات حملات الإسلاميين الانتخابية وضمن استراتيجيتهم في التمثيل النيابي. غير أنها كانت، في أواخر التسعينات، تنعقد في حيّ (كاغيثان) الحزامي بِـ (إسطنبول)، داخل المقاهي التي يرتادها الرجال دون سواهم ـ و لم يكن للنساء فيها حق إبداء الرأي ـ و كانت بالدرجة الأولى تجمع أعضاء «حزب الرفاه» أو المتعاطفين معه. في الأخير، كانت الشخصيات الرسمية هي التي تتحكّم في مدة الكلام. وهو ما يكشف  أن تلك الأجهزة الخصوصية شكلت، في المقام الأول، أسلوبا سياسيا ذا نزعة شعبوية وأبوية؛ وأن الأمر، في الحقيقة،  لم يكن يتعلق بديمقراطية أو بتسيير ذاتي(11). فقد كان البُعد المتعلق بالمشاركةِ محدودا، نظرا إلى أن تلك التجمعات لم تكن تتيح للمواطنين صياغة طلباتِهم خارج الإطار الموضوع سلفا من قِبل السلط البلدية، ولم يكن، بالتالي، في متناول الجماعات المحرومة أن تشارك بصورة فعلية في سياسات المدينة(12).
تشكلّات السّلطة وإدارة الجماعات المحلية
إن تقارير الأنشطة تُظهر أن العمل العمومي للبلديّات ذات التّوجّه الإسلامي له ما يميّزه في مستوى الأولويّات وفي مستوى تركيبة المقبوضات والمدفوعات. فقد كانت إحدى أولويات «حزب الرّفاه»، منذ البداية، توسيع المرافق والبنى التّحتيّة الأساسيّة: مثل النّهوض بالغاز الطّبيعي لأجل تعويض التّدفئة بواسطة الفحم والخشب المتفحّم الذي يعدّ من أسباب التّلوث الخطير، ووضع منظومات ناجعة لتجميع المياه المستعمَلة. 
وقد بذلت بلدية (إسطنبول) التي ينتسب أعضاؤها إلى «حزب الرّفاه» جهودا فعلية كثيرة لتحسين توزيع المياه الصّالحة للشّرب. واعتبر عديد ملاحظين في التّسعينات أنّ الإسلاميّين قد جعلوا المرافق البلديّة أكثر فعاليّة؛ خاصّة بفضل إدارة موفَّقة لمشكلة النّقل الشّائكة في مدينة (إسطنبول): «على وجه العموم، كان رؤساء البلديّات التّابعين لِـ «حزب الرفاه» أكثر فعاليّة (...) من سابقيهم (...). إذ نشطت في عهدهم حركة حافلات النّقل، وصارت الفضلات تُجمَّع، وشهدت الخدمات الاجتماعيّة (...) قدرا من التّحسّن»(13).
(فما هي أسباب نجاح الإسلاميّين في جعل المرافق البلديّة أكثر فاعليّة؟ وما هي الائتلافات الاجتماعيّة التي استندت إليها البلديّات ذات التوجّه الإسلامي في نشاطها؟ وما هي تشكيلات السّلطة المحليّة التي أنتجتها؟ الإجابة في العدد القادم إن شاء اللّه) (14)
الهوامش
(1) حكمت أ.، «سجلّ المسار البلدي لحزب الرفاه: تقويما للنشاط البلدي الإسلامي في (تركيا)»، صحيفة الشرق الأوسط، مقال تقدمت الإشارة إليه، ص. 88 ـ 89.
(2) كوسار باكي، «سَوْرة غضب حيال بلدية الحاضرة»، نقطة، 31 يوليو/تموز ـ 6 أغسطس/آب 1994، ص. 28، تقدمت الإشارة إليه في المرجع السابق، ص. 82، إشارة 32.
(3)« لم أستطع وضع حد للبقشيش»، صحيفة حريّات، 3 يوليو/تموز 1998,
(4) كمبوريات، 10 ديسمبر/كانون الأول 1998، وقع إيراده في ج. ـ ف. بيروز، «النظام الحضري الجديد لِـ «حزب الرفاه»: التهيئة الحضرية، الإدارة الحضرية و الفن الحضري في (إسطنبول) منذ مارس/آذار 1994». مقال تقدمت الإشارة إليه، ص. 285، إشارة 13.
(5) سيفينس كارا، «بلدية (إيمينونو) مؤسسة حزمت: في خدمة شعب مدينة (إيمونونو)»، صحيفة الأخبار اليومية التركية ، 18 ديسمبر/كانون الأول 1996؛ «حل جدير بالاهتمام للبناءات غير القانونية»، ييني يوزيل، 27 مارس/آذار 1995. ورد في: أ. حكمت، «سجلّ المسار البلدي لِـ «حزب الرفاه»: تقويما للنشاط البلدي الإسلامي في (تركيا)»، صحيفة الشرق الأوسط. مقال تقدمت الإشارة إليه، ص. 89، إشارة 75.
(6) دوغان ع. أ.، الإشهار الهش. الحركة البلدية الإسلامية وفق مثال (قيصري)، تقدمت الإشارة إليه، ص. 249.
(7) حول اندماج الإسلاميين في المبادلات القائمة على الاستزلام، انظر: فانيتزل ماري، «سبل الاحتجاج الصامتة: الإخوان المسلمون المصريون بين الاستزلام والمواطنة البديلة»، مجلة عقول سياسية، 29، فبراير/ شباط 2008، ص. 28.
(8) زكي كوسكون، العلويون، السنّة و...مدينة (سيفاس) الأخرى، (إسطنبول)، إيلينسيم، 1995، ص. 321 ـ 326.
(9) ج. وايت، التعبئة الإسلامية في (تركيا): دراسة قي السياسة العامة، (سياتل)/(لندن)، جامعة (واشنطن) للصحافة، 2002، ص. 172 ـ 174.
(10) روسن شاكر، لا شريعة و لا ديمقراطية، (إسطنبول)، ميتيس، 1994، ص. 179 ـ 180.
(11) ييل نافارو ـ ياهسين، وجوه الدولة: العلمانية و الحياة العامة في (تركيا)، (برينستون)/ (أكسفورد)، طباعة جامعة (برينستون)، 2002، ص. 141 ـ 143.
(12) ع. أ. دوغان،الإشهار الهش. الحركة البلدية الإسلامية وفق مثال مدينة (قيصري)، تقدمت الإشارة إليه، ص. 244 وما بعدها.
(13) ج. وايت، «براغماتيون أم أيديولوجيون؟ «حزب الرفاه» التركي في السلطة»، مقال تقدمت الإشارة إليه، ص. 26 
(14) إضافة من المرتجم