تطوير الذات

بقلم
محمد أمين هبيري
تربية النفس بين التحديات الحديثة والاستجابة العلمية
 مقدمة
تعدّ تربية النّفس من المجالات المهمّة التي تعنى بتطوير شخصيّة الإنسان ونموه الشّخصي والاجتماعي والنّفسي والرّوحي. وعلى الرّغم من أنّ مفهوم تربية النّفس يعود إلى الحضارات القديمة، إلاّ أنّ تاريخ ظهوره كعلم منظّم يرجع إلى القرن العشرين.
التّربية لغة من الفعل رَبَا يربو أي زاد ونما، وكذلك هي مصدر من الفعل ربَّى يُربّي أي نشأ ونمى، فالتّربية إذا في اللّغة هي في إطار النّمو والتّنشئة والزّيادة(1). أمّا اصطلاحا فتعتبر عمليّة تنشئة الشّخصيّة المتكاملة المتّزنة القادرة على اكتساب المهارات والقيم والاتجاهات والأنماط السّلوكيّة البنّاءة وعلى التّعامل مع البيئة المحيطة بكلّ مكوّناتها في مكان وعصر معين.
يختلف مفهوم التّربية إذن، عن مفهوم السّياسة، فكما أشرنا سابقا بأنّ السّياسة عبارة عن تدبير الأمر باختصار شديد، فإنّ مفهوم التّربية تجهيز الشّيء لأمر، والشّيء هنا قد يكون إنسانا أو حيوانا أو حتّى نباتا، والأمر هاهنا يرجع للغاية الاستراتيجيّة من التّربية في حدّ ذاتها، فابن سينا يُعرّف التّربية بأنّها التّجهيز والإعداد للحياة الدّنيا وحياة الآخرة(2) وهي الغاية الاستراتيجيّة من تربية الإنسان.
في بداية القرن العشرين، بدأ العلماء والمفكرون في دراسة تأثير العوامل النّفسيّة في السّلوك الإنساني، وكيفيّة تأثير التّربية والتّعليم في الشّخصيّة والسّلوك الإنساني. وقد أسهمت هذه الدّراسات في تطوير فهمنا للعلاقة بين النّفس والسّلوك، وفي تطوير أساليب وتقنيات تربويّة جديدة لتحسين الصّحّة النّفسيّة لدى الأفراد.
تعتبر تربية النّفس اليوم مجالًا متنوعًا يضمّ العديد من الاختصاصات والتّقنيات، وتشمل تطبيقاتها المختلفة المدارس والجامعات والمؤسّسات التّربوية والصّحيّة، والعديد من الأساليب التّربوية والاستشارات النّفسية. وتعدّ تربية النّفس أحد أهم العوامل التي تساهم في بناء المجتمعات الصّحيّة المزدهرة. فماهي أهمّية تربية النّفس في المجتمعات الحديثة؟
يمكن الإجابة على هذا السّؤال من خلال النّظر إلى بعض التّحدّيات التي تواجه المجتمعات الحديثة (الجزء الأول). ثمّ من خلال معرفة طرق الاستجابة إلى هذه التّحديات (الجزء الثاني) حتّى نتمكّن من بناء إنسان مستقل بذاته قادر على مواجهة الظّروف الصّعبة.
الجزء الأول: تحدّيات المجتمعات الحديثة في تربية النّفس
إنّ النّظر في المجتمعات الحديثة يجعلنا نتدبّر في التّحديات اليوميّة (العنصر الأول) من جهة وفي التّحديات الفلسفيّة (العنصر الثاني) من جهة أخرى.
العنصر الأول: التحديات اليوميّة
يواجه المجتمع الحديث العديد من التّحديات في تربية النّفس، ويمكن تلخيصها في العديد من الجوانب، من أهمّها زيادة الضّغوط والتّوتر في الحياة اليوميّة، التي تؤثّر بشكل كبير في الصّحة النّفسيّة والعاطفيّة للأفراد. فهذا الضّغط الذي يواجه الأفراد يؤثّر في قدرتهم على التّعامل مع المشاكل والتّحديات الحياتيّة بطريقة صحيّة وإيجابيّة.
كما أنّ التّكنولوجيا ووسائل التّواصل الاجتماعي أصبحت جزءاً لا يتجزّأ من حياة المجتمعات الحديثة، وهذا يؤثّر على التّواصل الاجتماعي والعلاقات الإنسانيّة بشكل كبير. فالتّعرّض المستمر للمحتوى السّلبي والتّشاؤمي عبر وسائل التّواصل الاجتماعي يؤثّر في صحّة النّفس الإيجابيّة والتّفاؤليّة للأفراد.
وبجانب ذلك، يواجه المجتمع الحديث التّحديات النّاجمة عن التّعدّد الثّقافي والدّيني واللّغوي، حيث يتعيّن على الأفراد التّعامل مع الاختلافات الثّقافيّة والعرقيّة والدّينيّة بشكل سلمي ومتفهّم. كما أنّ التّعليم والتّربية يواجهان التّحديات في توفير القيم والمبادئ الإنسانيّة الأساسيّة مثل الصّبر والكرم والشّكر والاحترام والتّواضع للأفراد، وذلك بسبب تغييرات القيم الاجتماعيّة والثّقافيّة في المجتمعات الحديثة.
لذا، يتعين على هذه المجتمعات تجاوز هذه التّحديات من خلال توفير الدّعم النّفسي والعاطفي للأفراد، وتشجيعهم على التّفكير الإيجابي.
العنصر الثاني: التحدّيات الفلسفيّة
تواجه المجتمعات الحديثة العديد من التّحديات الفلسفيّة في علاقتها بتربية النّفس، فالعالم اليوم يشهد تحوّلات وتغيّرات سريعة في القيم والمفاهيم الاجتماعيّة والثّقافيّة. ومن بين هذه التّحديات، يأتي التّحدي الفلسفي الأساسي في تعريف مفهوم التّربية النّفسيّة وتحديد محتواها وأهدافها.
ويواجه المجتمع الحديث تحدّيا في تعريف مفهوم التّربية النّفسيّة بسبب وجود العديد من النّظريات والمدارس الفلسفيّة المختلفة التي تعرّف التّربية النّفسيـة بشكـل مختلف، ممّـا يؤدّي إلى صعوبـة في وضع مفهوم واضح وشامل للتّربية النّفسيّة. كما يتطلّب تحديد محتوى التّربية النّفسيّة تقديرا دقيقا للحاجات النّفسيّة للفرد والمجتمع، ومن ثم تصميم وتنفيذ برامج تربويّة تتناسب مع هذه الحاجات.
وتتمثّل التّحديات الفلسفيّة الأخرى التي تواجه المجتمعات الحديثة في علاقتهـا بتربيــة النّفـس في تعريف الأهداف الحقيقية للتّربية النّفسيّة، فالتّحدي هو تحديد هذه الأهداف بشكل واضح ومحدّد، وتحديد دور التّربية النّفسيّة في تحقيق هذه الأهداف. ويأتي هذا التّحدي نظرا لأنّ التّربية النّفسيّة تهدف إلى تحسين جودة حياة الأفراد والمجتمع، وتطوير شخصيّة الفرد بما يجعله قادرا على التّفكير الإيجابي والتّعامل مع المواقف الحياتيّة بطريقة صحيحة.
الجزء الثاني: استجابة المجتمعات الحديثة في تربية النّفس 
ترتكز استجابة المجتمعات الحديثة في مبحث تربية النّفس على ما توصّل إليه العلم الحديث من أبحاث وقوانين، وقد تمّ تكريسها في آليّات تربية النّفس (العنصر الأول) من جهة وذلك بالرّجوع إلى خصائصها (العنصر الثّاني) من جهة أخرى.
العنصر الأول: آليات تربية النّفس
تشتمل تربية النّفس على العديد من الآليّات والتّقنيات التي يمكن استخدامها لتحقيق الأهداف المرجوّة، ومن بين هذه الآليات:
1 - التوّاصل الفعّال: ويتضمّن استخدام اللّغة الجيّدة المفهومة، التي تفهم الرّسائل الواردة وتقديم رسائل واضحة ودقيقة.
2 - تعزيز الثّقة بالنّفس: يمكن تعزيز الثّقة بالنّفس من خلال تطوير مهارات التّحدّث والاستماع والتّفكير الإيجابي والاهتمام بالذّات.
3 - التّدريب الذّاتي: ويشمل تحديد الأهداف والخطط والتّنفيذ والتّقييم والتّحسين.
4 - تقديم المثال الحسن: يمكن للأفراد المساهمة في تحسين السّلوكيّات والمواقف الإيجابيّة من خلال تقديم المثال الحسن والعمل على تعزيز القيم الأخلاقيّة والاجتماعيّة.
5 - توفير بيئة داعمة: يتضمّن توفير بيئة داعمة للأفراد وتوفير المساعدة والدّعم والتّشجيع لتحقيق الأهداف المرجوة.
6 - التّحليل الذّاتي: يمكن للأفراد التّحليل الذّاتي لتحديد القواعد والمبادئ الأساسيّة التي يمكن استخدامها في تحقيق الأهداف.
تستند آليّات تربية النّفس على مفهوم أنّ النّمو الشّخصي يتطلّب التّفكير الإيجابي والمواقف السّليمة والسّلوك الحسن، وهذه الآليات تعمل على تعزيز هذا النّموذج الإيجابي لتحقيق الأهداف المرجوة.
العنصر الثاني: خصائص تربية النفس 
تهتم تربية النّفس بتنمية وتحسين الصّحّة النّفسيّة والسّلوكيّة للفرد، وتشمل مجموعة واسعة من الخصائص التي تساعد على تحسين جودة الحياة والعيش بشكل صحيح، من بين هذه الخصائص:
1 - التّوعية النّفسيّة: وهي العمل على تعزيز الوعي لدى الفرد بمعرفة ذاته وتحليل سلوكياته وتفكيره وعواطفه، وتوفير الدّعم اللاّزم لتنمية نموذج الذّات الصحيح.
2 - التّحكّم بالعواطف: وهي القدرة على التّحكّم في العواطف السّلبية وتحويلها إلى إيجابيّة، وعدم السّماح لها بالسّيطرة على السّلوك.
3 - التّنمية الشّخصيّة: وهي العمل على تطوير الشّخصيّة وتعزيز الصّفات الإيجابيّة والتّخلّص من الصّفات السّلبيّة والتّعامل مع الآخرين بشكل إيجابي.
4 - تحسين العلاقات الاجتماعيّة: وهي العمل على تحسين العلاقات بين الفرد والآخرين وتطوير مهارات التّواصل والتّعاون والتّفاهم.
5 - التّطوير الأخلاقي: وهو العمل على تنمية القيم والأخلاق الإيجابيّة مثل الصّدق والأمانة والعدالة والاحترام والتّسامح.
6 - الاسترخاء النّفسي: وهو العمل على تعلّم تقنيات الاسترخاء والتّأمل للتّخفيف من التّوتر والقلق.
7 - تطوير المهارات الذّاتية: وهو العمل على تنمية المهارات اللاّزمة لتحقيق الأهداف وتحقيـق النّجـاح في الحياة، مثل التّخطيـط وإدارة الوقـت والتّحكّــم في الإرادة.
8 - تعزيز الثّقة بالنّفس: وهي العمل على تنمية الثّقة بالنّفس والاعتماد على الذّات 
خاتمة
يوجد بعض الخطوات العمليّة لتربية النّفس والتي هدفها اصلاح النّفس، وقد تختلف بشكل كبير بين الأشخاص، ولكن بشكل عام يمكن الاشارة الى الخطوات التّالية:
1. التّعرف على الذّات: التّعرف على الذاّت الخاصّة بك، الشّعور بالذّات، التّعرّف على الشَّغِفَات الخاصّة بك، التّعرّف على ما يؤثّر في الشّعور، ...
2. التّغيير الذّاتي: يجب العمل على التّغيير الذّاتي، التّغيير في الشَّغِفَات، ... 
3. التّحدث عن الذّات: التّحدث عن الذّات، التّحدث عن الشَّغِفَات
4. تشجيع الذّات هو الطّريقة التي يستخدمها الشّخص لتشجيع نفسه، والعناية بها، والتّعبير عنها، وتطويرها، يشمل ذلك التّشجيع الاهتمام بالمواهب الخاصّة بالشّخص، التّشجيع على التّعلّم والتّطوير الذّاتي.
إنّ تربية النّفس هي عمليّة مهمّة في بناء المجتمعات الأكثر صحّة وازدهارًا. ومع التّحولات الاجتماعيّة الحديثة والتّحديات المستمرة التي تواجهها المجتمعات، أصبح من الضّروري التّركيز على الجوانب القيميّة للترّبية النّفسيّة مثل الصّبر والكرم والشّكر والاحترام والتّواضع. ومع ذلك، فإنّ التّحديات الحديثة مثل التّكنولوجيا والعولمة والّتغيرات الاجتماعيّة تتطلب استجابة علميّة وفعّالة للمحافظة على تربية النّفس كعمليّة أساسيّة لتطوير الذّات والمجتمعات.