نقاط على الحروف

بقلم
د.عبدالله التركماني
إشكالية الهوية والمواطنة في سورية (2/2)
 4 - الهوية والمواطنة في الحالة السّورية
إنّ تشكّل الوطن السّوري، خلال التّاريخ المعاصر، عرف صراعًا كبيرًا على تحديد هويّته. حيث أخذ هذا الصّراع، في بعده السّياسي، تعريف الهويّة إلى خارج النّطاق الجغرافي والقّيَّمي المشترك للسّوريين، بسبب حاجة القوميّين والإسلاميّين والشّيوعيّين إلى شرعيّة الخارج. وهذا يساعد على فهم أسباب ضعف الهويّة الوطنيّة السّوريّة، وعودة الهويّات الفرعيّة لتكون الرّابط الأساسي، في فكر وممارسة نسبة كبيرة من الشّعب السّوري، وقد ظهر ذلك جليًا بعد مرور إثنتي عشرة سنة على الثّورة السّورية.
لقد طرحت سنوات الثّورة السّوريّة قضيّة الهويّة الوطنيّة بقوّة، وكشفت عن أزمة عميقة في تعريفها، وبات واضحًا عدم التّطابق بين الانتماء الوطني والولاء، فيما حضر الولاء المذهبي والطّائفي بقوّة، على حساب انحسار الولاء الوطني، بل مورست الوصاية على الهويّة الوطنيّة. ولا شكّ بأنّ هذه الأزمة ناتجة – أساسًا – عن الاستبداد الذي مارسه النّظام السّوري على المواطنين السّوريّين كافّة، حيث عمد إلى مصادرة حقوقهم، بما فيها حقّ التّعبير عن الهويّة الخاصّة بهم، ممّا يعيق عمليّة الاستقرار السّياسي في المستقبل.
ولا شك أنّ أزمة الهويّة السّوريّة ناتجة عن غياب مشروع الدّولة الوطنيّة الحديثة، إضافة إلى الانهيار الشّامل في أنساق المجتمع السّوري، حيث الانقسام الهويّاتي يتفاقم بشكل عميق، وهشاشة مفهوم الوحدة الوطنيّة التي مازالت « تعَدُّ من المصطلحات التي تجمع بين السّوريين على الصّعيد النّظري، إلاّ أنّها على الصّعيد العملي مجرّد تعبير رغبوي، يُستخدم في إطار المجاملات الخالية من أيّ مضمون، وتكون عادة وسيلة للتّغطية على ظاهرة التهرّب من الاستحقاقات، أو التّركيز على الولاءات ما قبل الوطنيّة»(16).
ومن المؤكّد أنّه يصعب بناء الوطنيّة السّوريّة إلاّ من خلال تجاوز الأسباب، التي غيّبتها أو شوّهتها، وهي الأيديولوجيا القوميّة، فوق الوطنيّة، التي مثّلها حزب البعث، ومن ثمَّ تجسّدت في الواقع كوطنيّة مزيّفة تمثّل مصالح الطّغمة المستبدّة. وينسحب هذا التّجاوز على الأيديولوجيا الإسلاميّة وغيرها من الأيديولوجيّات ما فوق وطنيّة. 
ولا شكّ أنّ حالتنا، الموصوفة أعلاه، رسّخها نظام الاستبداد، من خلال صهر جميع أفراد المجتمع السّوري في بوتقة واحدة، وإعادة تشكيلها على أساس الولاء المطلق للوطن المختزَل برمز سلطة الاستبداد « سوريّة الأسد أو لا أحد». وكذلك التّركيز على الدّعاية العقائديّة، بل التّلقين العقائدي منذ الصّغر، وخلق عالم وهمي مهيمن وبرّاق ومنسجم مع أيديولوجية سلطة الاستبداد.
لقد كان عام 1970 «الحركة التّصحيحيّة»، بقيادة حافظ الأسد، مفصلي في «تكوين سوريّة وهويّتها»، حيث «شُيِّد نظام أمني وعسكري، وشُكِّلت له أدوات أيديولوجيّة»، وأُعيد تشكيل بنية المجتمع، دينيًّا وطائفيًّا وعائليًّا، لتتشكّل بذلك «بنية اجتماعيّة تقليديّة قديمة»، مقابل الفئات المجتمعيّة الحديثة التي «تتكوّن ممارساتها من علاقات حديثة قائمة على قيم أقرب إلى المواطنة والفرديّة والمساواة، تمارس حرّياتها وفقًا لنظام الحقوق والواجبات». وظهر ذلك جليًّا بعد أزمة الثّمانينيّات، حيث « أُعيد تشكيل الهويّة القديمة: سياسيًّا دفعت السّلطة الأمنيّة برجال دين تابعين لها، أو قابلين للصّمت حيالها. وأعطت رجال الدّين والمؤسّسات الدّينيّة ودور العبادة دورًا كبيرًا في التّديين والتّطييف الواسع (17).
لقد كان لسياسات نظام آل الأسد، التي بنيت بعناية للحفاظ على استمراريّة النّظام، دور مهمّ في تعزيز بذور الخلافات داخل المجتمع السّوري. إذ إنّ الدّفع بأبناء مكوّن واحد للسّيطرة على مفاصل الدّولة الفاعلة، ومحاولة إرضاء باقي المكوّنات بمكاسب شكليّة، واللّعب على الاختلافات الطّائفيّة بين مكوّنات الشّعب السّوري، مهّد لضعف الولاء للهويّة الوطنيّة السّورية الجامعة، وبروز الهويّات الفرعيّة. وبالنّتيجة عادت الانتماءات الفرعيّة لتكون الرّابط الأساسي، في فكر وممارسة نسبة كبيرة من الشّعب السّوري.
في حالتنا السّوريّة، فإنّ مجرى سنوات الثّورة أكّدت على وجود خلل كبير في واقع ووعي الهويّة لدى القوى والتّكتلات والأحزاب السّياسيّة، حيث ظهرت إشكاليّة الهويّة الثّابتة، التّاريخيّة والدّينيّة والمذهبيّة، وحتّى المناطقيّة، وتمظهرت في مشاريع وتلفيقات القوى السّياسيّة، من خلال شكلين متناقضين (18): أوّلهما، يعبّر عن تمسك بالهويّة الثّابتة (عربيّة، إسلاميّة، كرديّة..)، من دون النّظر إلى العطالة التّاريخيّة التي أصابت هذه البنى. وثانيهما، ذهب البعض إلى تبنّي منظومات قيميّة حداثيّة، للقفز أيضًا فوق مسألة الهويّة الوطنيّة.
ومع تجاذبات أطراف الحالة السّورية، محلّية وإقليميّة ودوليّة، والحالة المستعصية للكارثة السّوريّة، ومع التّشتّت في الجغرافيا الكونيّة والمحلّية للشّعب السّوري، فأيّ فضاء للهويّة السّورية الجامعة والمواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات؟ بعد أن كانت مفردة المواطنة الحقّة خارج قاموس النّظام طوال خمسة عقود، وبعد أن عجزت المعارضة في تأصيل وبلورة مفهوم الهويّة والمواطنة السّورية الجامعة، لأسباب تتعلّق بأيديولوجيّاتها المأزومة جميعها، قوميّة وإسلاميّة وماركسيّة، باعتبارها وجوه للأيديولوجيّات الشّموليّة، التي تنمّط الإنسان حسب مقاسها، ولا تتعاطى معه كقيمة إنسانيّة فضاؤها الحرّية المبدعة والذّات الواعية النّاقدة.
وكانت النّتيجة بروز الهويّات الفرعيّة وخفوت الهويّة الوطنيّة، وبذلك تتفتّت سوريّة في مستوى الهويّة، ممّا يعكس افتقاد النّظام والمعارضة إلى مشروع وطني جامع للسّوريين بكلّ مكوّناتهم. وقد غابت القيادة الثّوريّة المدنيّة، التي تمثّل كلّ فئات الشّعب السّوري، ممّا سمح للتّنظيمات والجماعات المسلّحة في فرض نفسها، وإبعاد الفاعلين الشّباب الذين أطلقوا شرارة الثّورة السّوريّة، من أجل الحرّية والكرامة. كما لا يمكن أن نغفل دور العوامل الخارجيّة في « تطييف الهويّة السّوريّة»، في حين أنّ الثّوار الشّباب سعوا لـ « تشكيل هويّة وطنيّة جامعة، ودولة حقّ وقانون يكون فيها المواطنون متساوين في الحقوق والواجبات»(19).
إذ من المهمّ تعزيز الانتماء الإيجابي، الإرادي والحرّ والمعاصر، لكلّ مكوّنات الشّعب السّوري، على أنّها عوامل تنوّع وغنى. ممّا يقتضي وضع حدٍّ للانتماء السّلبي الإكراهي، في ظلّ التّوصيفات العدديّة (الأكثريّة والأقليّة)، وكذلك إنهاء وصاية البعض على الآخر تحت أي مسمى (قومي أو ديني). ويكمن الحلّ في التّصالح مع التّاريخ، وقبول الواقع الديّمغرافي كنتيجة تاريخيّة عبرت الزّمن وأخذت صورتها الحاليّة، إضافة إلى إقامة نظام ديمقراطي تعدّدي وشراكة سياسيّة حقيقيّة، ووضع حدٍّ للاستعلاء القومي والدّيني. باعتبار أنّ الحداثة السّياسيّة جاءت بالدّولة الوطنيّة الحديثة بوصفها «الوحدة الاجتماعيّة التي توحّد النّاس بواسطة روابط مدنيّة، قائمة على الحقوق المدنيّة والسّياسيّة والاجتماعيّة للمواطنة» (20). 
إنّ فكرة المواطنة المتساوية ماتزال تتعرّض لتجاذبات إسلاميّة – علمانيّة، نتيجة ارتباطها بمسألة الهويّة، إذ إنّ بعض المواقف الإسلاميّة لم تكن في وارد الموافقة على مبدأ المواطنة الكاملة لغير المسلمين، بما يتعارض مع الشّرعة العالميّة لحقوق الإنسان. ولعلّ الحوار العلماني – الإسلامي، المنطلق من حاجة مجتمعنا إلى التّقدم والوحدة، يساعد على نشر ثقافة المواطنة، ويعمّق الوعي بأهميتها وضرورتها، بما هي مساواة بين المواطنين في الحقوق السّياسيّة والاجتماعيّة، والمساواة أمام القانون في المجتمع السّوري.
إنّ دولة المواطنين السوريين، المتساوين في الحقوق والواجبات، هي الأقدر على احتضان حقيقي لتعدد الهويات، ومعالجة الطائفية، لأنها «دولة جامعة ترعى الاختلاف وتمنع الخلاف، وهي ناظم لتطبيق القانون، من غير انغلاق أو احتكار». حيث لا يمكن الحديث عن هوية أغلبية وهوية أقلية، لاسيما إذا كان القصد التسيّد والتفوّق والأحقية، لأنّ ذلك سيعني هوية «خارج إطارها الإنساني»، وهذه ستؤدي إلى « التصادم مع الآخر، وفرض الهيمنة عليه، يقابلها ردُّ فعل ورفض، وقد يؤدي ذلك أيضًا إلى الانكماش والانكفاء»(21). 
إنّ المواطنة تقوم على قاعدة المواطن/الفرد الذي ينبغي مراعاة فردانيته، من خلال الدولة، وهي تغتني وتتعمق بوجود مجتمع مدني حيوي وناشط، بحيث يكون قوة رصد للانتهاكات المتعلقة بالحرية والمساواة والحقوق، وكذلك قوة اقتراح بحيث يصبح شريكًا فعالًّا للدولة في توسيع وتعزيز دائرة المواطنة العضوية وتأمين شروط استمرارها، لاسيما إذا تحولت الدولة من حامية إلى راعية، تعزز السلم المجتمعي والأمن الإنساني.
وفي حين أنّ المواطنة ركن أساسي في الدولة الحديثة، فإنّ هناك من يدعو لنموذج آخر أساسه أيديولوجي، يقوم على الهوية الدينية أو الطائفية أو القومية. فأغلب الإسلاميين مثلًا يتحدثون عن « دار الإسلام ودار الشرك»، وهم وفقًا لهذا التقسيم افترضوا مواطنة عابرة للحدود والجنسيات والقوميات، مما يؤدي إلى تجاوز الدولة الوطنية، لاسيما عندما يجري الحديث عن «مواطنة إسلامية».
إنّ الفوات التاريخي للوطنية السورية يطرح علينا مهمة المساهمة في إعادة صياغة المفاهيم المرتبطة بهذه الوطنية (الهوية، المواطنة، المكوّنات، الدولة)، أي المساهمة في تجديد الثقافة السياسية لدى السوريين. خاصة أنّ موضوع الهوية سيكون حاضرًا بقوة خلال المرحلة الانتقالية من الاستبداد إلى الديمقراطية، وإعادة البناء ومرحلة العدالة الانتقالية.
وفي ضوء ما سبق، لابدَّ من صياغة برنامج عمل فاعل، لاستدراك التدهور الحاصل على صعيد إعادة تشكيل الهوية السورية، مع الأخذ بعين الاعتبار التنوّع القومي والديني والمذهبي، مما يؤدي إلى إدارة هذا التنوّع بما يخدم إغناء الحياة الاجتماعية السورية. وهنا من الضروري رفض أية مشاريع مستقبلية، تقوم على أساس المحاصصة القومية والطائفية لمؤسسات الدولة، بل إنتاج خطاب وطني جامع، يقوم على فكر واعٍ حضاري مدني حامل لمشروع ديمقراطي يوفر الحرية والكرامة للشعب السوري.
إنّ السعي إلى إحياء الهوية الوطنية السورية لا ينطوي على إلغاء الهويات الفرعية، كي تكون قادرة على تلبية حاجات الاجتماع السياسي، أي إعادة بناء الدولة السورية الحديثة، باعتبار أنّ غياب هذه الهوية عامل أساسي في استفحال الكارثة السورية، خاصة تسهيل التفريط السياسي بالوطن السوري. 
إنّ الطريق إلى إعادة تأسيس سورية كوطن موحد، وإعادة بناء الدولة الوطنية، لم تعد تقتصر على زوال الاستبداد، بل لا بدَّ من: صياغة العلاقة بين مكوّنات الشعب السوري على أسس جديدة، تنبذ الطائفية والمذهبية والعصبيات المختلفة. وصياغة سورية الجديدة، سورية الوطن والمواطنة والتعدّد والتنوّع، على قاعدة الديمقراطية السياسية والاجتماعية. ومن المؤكد أنّ إعادة بناء الوطنية السورية ليست أمرًا يمكن إنجازه عبر إجراءات فوقية، وهي ملازمة للعملية السياسية، ونتيجة متدرجة لها، ولكنها لا تُبنى على المحاصصات من أي نوع، وإنما على أساس الكفاءة والولاء للدولة الوطنية.
خاتمة
الهويّة عمليّة ديناميّة متغيّرة بفعل ضغط التّحوّلات والمستجدات الحضاريّة والمجتمعيّة، ولعلَّ جدل الهويّات يكشف أنّ اختيار الصّراع بدل التّعايش، سيكون ضارًّا وخطيرًا على مجمل الهويّات الوطنيّة والفرعيّة.
واليوم، بعد مرور إثنتيْ عشرة سنة على الثّورة السّوريّة، بتنا أكثر قابليّة للتّفكير جدّيًّا في مشروع وطني سوري، يكون بكلّ السّوريين ولكلّهم، على أساس احترام الخصوصيّات والحقوق، وفتح المجال أمام جميع الطّاقات للمشاركة في إعادة بناء سوريّة، وحلّ مشكلاتها، والعمل من أجل تنميتها وتطويرها نحو الأفضل.
الهوامش
(16) د. عبد الباسط سيدا: هل الوحدة الوطنية السورية حقيقة واقعة – صحيفة « جيرون « الإلكترونية 13 نيسان/أبريل 2019.
(17) عمار ديوب: في إشكالية الهوية السورية الملتبسة، الموقع الإلكتروني لـ «مركز حرمون للدراسات المعاصرة»، 11 آذار/مارس 2019، ص 7.
(18) حسام ميرو: بين سارتر وديكارت: إشكالية الهوية في التعيّن السوري – صحيفة « الخليج « الإماراتية، 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2018.
(19) عمار ديوب: في إشكالية الهوية السورية الملتبسة..، المرجع السابق، ص 11.
(20) ريتشارد مينش: الأمة والمواطنة في عصر العولمة، المرجع السابق، ص 7.
(21) د. عبد الحسين شعبان: عن الهوية والعولمة – صحيفة « الخليج « الإماراتية، 2 آذار/مارس 2016.