شذرات

بقلم
د.محمد عمر الفقيه
ثمّ إن علينا بيانه
 قال تعالى : ﴿...ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ (القيامة : 19). 
المتأمّل لكتاب اللّه يصل إلى نتيجة مفادها أنّ مصدر رسالة اللّه إلى النّاس كافّة هو اللّه وحده، ودور  الرّسول ومهمّته الرّئيسة التّبليغ والتّطبيق والتّفعيل لكتاب اللّه في الحياة العمليّة، فالرّسول ﷺ ليس عنده إجابات جاهزة لما كان يُطرح عليه من أسئلة، وإنّما كان دائما يتوجّه بالأسئلة التي تطرح عليه إلى اللّه سبحانه وتعالى، وكان يتلقّى الإجابات من اللّه سبحانه وتعالى بكلمة «قل» ، وقد وردت كلمة «قل» في كتاب اللّه أكثر من 320 مرّة ، وهذا يدلّ دلالة واضحة أنّ النّبي ﷺ  ليس معه إجابات جاهزة على أسئلة الصّحابة أو على أسئلة أهل الكتاب أو على أسئلة المنافقين والكافرين ، وإنّما كان ﷺ ينتظر الإجابة من اللّه سبحانه وتعالى، وكثيرا ما كان يأتي السّياق القرآني بكلمة «يسألونك»، وكانت الإجابة الإلهيّة «قل» ، حتّى في حالات الإفتاء، قال تعالى : ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى ٱلنِّسَآءِ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ....﴾ (النساء: 127) ولم يقل أنا أفتيكم، بل قال اللّه يفتيكم ، ممّا يوكّد أنّ النّبي ﷺ ليس مخوّلا وليس لديه صلاحيّة الإفتاء في دين اللّه، ولا يملك صلاحيّة التّشريع في دين اللّه، وإنّما هو متّبع لما يوحى إليه فقط، قال تعالى : ﴿... إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ... ﴾ (الأحقاف: 9). 
حتّى في غنائم معركة بدر ، لم يجتهد النّبي ﷺ في توزيعها ولم يلجأ إلى القياس، وإنّما لجأ إلى اللّه سبحانه وتعالى، قال تعالى: ﴿يسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ...﴾ (الأنفال: 1)،
حتّى في القضايا البسيطة والمتعلّقة باليتامى التي كان من الممكن أن يقدّم النّبي ﷺ فيها إجابات للسّائلين، إلاّ أنّه لم يفعل، وإنّما بعث بأسئلته إلى اللّه وجاءت الإجابة، قال تعالى : ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ...﴾ (البقرة: 220)،
وكذلك فيما يتعلّق بعلم الغيب وقيام السّاعة، فلم يكن النّبي ﷺ يملك أيّة إجابات عنها ولم يكن لديه مصدر للمعرفة إلاّ اللّه باعثه ومرسله، قال تعالى :﴿إِنَّ ٱللَّهَ عِندهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ...﴾ (لقمان: 34)،
وفي قضايا الأحكام التّشريعيّة المتعلّقة بالحيض، لم يفتِ النّبي فيها من تلقاء نفسه وإنّما توجّه بالسّؤال إلى ربّه وجاءت الإجابة، قال تعالى : ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى .....﴾ (البقرة: 222)،
وهذا يدلّ دلالة واضحة أنّ مصدر هذا الدّين ومصدر التّشريع فيه هو كتاب اللّه تعالى، فالرّسول ﷺ كان يرجع في كلّ صغيرة وكبيرة تتعلّق بهذا الدّين إلى اللّه، وعندما كان النّبي ﷺ يجتهد في بيان أو تشريع بعض الأحكام، كان الوحي الإلهي ينزل مصحّحا ومعاتبا أحيانا النّبي كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ...﴾ (التحريم: 1)،
وكقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ...﴾ (الأنفال: 67)،
فالرّسول ﷺ يتلقّى التّشريع من الوحي الإلهي، ويجتهد في ضوء فهمه لكتاب اللّه، ولا يشرّع ﷺ أحكاما تتعارض مع كتاب اللّه.
إنّ الانطلاق من هذه الحقيقة القرآنيّة سيحل لنا الكثير من الإشكاليّات المتعلّقة بالسّنّة النّبويّة، ويقدّم لنا إضاءات على كثير من الرّوايات المنسوبة للنّبي ﷺ والتي تتضمّن أحكاما وأخبارا ليس لها أساس في كتاب اللّه، ولا تندرج تحت أيّ أصل قرآني، فعند الحديث عن تنقية ما نسب إلى النّبي ﷺ من أقوال ومن سنن، لا بدّ أن ننطلق من هذه القاعدة الذّهبيّة التي تضعنا على بداية الطّريق الموصل إلى الحقيقة.