التجديد الحضاري

بقلم
د. محمد المجذوب
نحن والقيم
 تعمل معاني الأخلاق في الإسلام على تحقّق القيم الإنسانيّة كقيم إيمانيّة تستلزم عادة المزج بين تكوين الرّؤية الصّائبة للعالم جنبا الى جنب مع تكوين المعاني الإيمانيّة الصّالحة؛ فيكون غرس التّديّن هو أساس القيم الأخلاقيّة، بطريق إعمال النّظر والتّدبّر في ملكوت اللّه في الآفاق والأنفس بحثاً عن الآيات التي تجلب المعنى واليقين والحقّ وسكون النّفس، فيكون الدّين كقوّة إيمانيّة أساسا لمنظومات قيميّة ثقافيّة واجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة وجماليّة متماسكة وراشدة.
تظهر وظيفة القيم، في وظيفة بناء الفطرة السّويّة والتّنشئة الدّينيّة والتّزكية الاجتماعيّة وترقية الذّوق الإبداعي، كونها مقاصد الفعل القيمي الأساسي، وهو أمر معترف به من مختلف الأنظمة الثّقافيّة والاجتماعيّة، إذ أنّ أهمّية وظيفة التّزكية الاجتماعيّة عموماً، هي تأمين انتقال القيم المعيّنة من جيل إلى آخر، وفي هذا السّياق ينبغي التّمييز بين القيم الثّقافيّة الأساسيّة التي تضمّنتها هداية الكتاب وسنّته، وبين العادات والتّقاليد المحليّة التي تمليها الظّروف الاجتماعيّة عبر الزّمان، ممّا يوجب الاعتماد على دلالات الرّؤية الدّينيّة في تحديد قوام فلسفتنا الثّقافيّة، فضلاً عن التّراثيّات التّقليديّة المحليّة والإنسانيّة بصورة عامّة. 
أمّا وظائف القيم في حياة الإنسان، فهي عديدة بتعدّد شعاب حياة الإنسان والمجتمع، فبالنّسبة للإنسان فإنّ القيم تهيئ له خيارات معيّنة، مكوّنة لديه إمكانيّة الاختيار والاستجابة لموقف معين، فتلعب دوراً هامّاً في بناء شخصيته. كما إنّ القيم تعطي الإنسان إمكانيّة أداء ما هو مطلوب منه، لذلك فهي تجعله أقدر وأصبر على الصّبر وتحمّل الابتلاءات، كما تحقّق للإنسان الإحساس بالأمان لأنّها تقوّيه على مواجهة ضعف النّفس، فالقيم تدفع الإنسان لتحسين أفكاره ومعتقداته، وتساعده على فهم الآخرين من حوله، وتوسع إطاره المرجعي في فهم علاقاته مع الآخرين، وتعمل على إصلاح الإنسان اجتماعيّاً وأخلاقيّاً ونفسيّاً وفكريّاً وثقافيّاً...الخ، لأنّ القيم وسيلة علاجيّة ووقائيّة للفرد، بالإضافة إلى أنّها تعمل على ضبط نزوات الإنسان وشهواته ومطامعه، وكلّ هذه الوظائف يكمل بعضها بعضاً وصولاً إلى مرحلة الرّضا ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ..﴾ (التوبة:100)، أي رضا اللّه ورضا النّفس.
أمّا بالنّسبة للمجتمع، فإنّها تحافظ على تماسكه، وتساعده على مواجهة التّغيرات التي تحدث فيه، كما أنّها تربط بين أجزاء الثّقافة في المجتمع لأنّها هي التي تعطي النّظم الاجتماعيّة أساساً عقليّاً، فالقيم تحمي المجتمع من الأنانيّة والدّونيّة الطّائشة، وتزوّده بالصّيغة التي يتعامل بها مع المجتمعات الأخرى من حوله، كما إنّ القيم تجعل سلوك الجماعة عملاً تبتغي به وجه اللّه تعالى. بيد أنّ الوظائف الفرديّة والمجتمعيّة تتكامل وتتوحّد فيما بينها لتؤدّي الى بناء الذّات الإنسانيّة القادرة على الاستجابة الرّاشدة مع ابتلاءات الحياة لأداء دورها الحضاري المحدّد، وهي قادرة على إعطاء المجتمع المسلم الشّكل الذي يميّزه عن المجتمعات الأخرى.
ومن هنا تظهر أهمّية الدّفاع عن منظومات القيم التي ينبغي أن يتمثّلها المجتمع، كونها المنظومات القيميّة التي تتأسّس عليها قيم المجتمع ورؤيته للعالم في مختلف شعاب حياته، من حيث إنَّها أنساقٌ من القيم الإيمانيّة والفكريّة كونها تمتلك قوّة تأثير بحدّ ذاتها، تمكّنها من توحيد الجماعة الإنسانيّة عقديّاً وأخلاقيّاً عن طريق إرضاء حاجاتهم النّفسيّة وإشعارهم بالتّماسك والمصير المشترك، ومن هنا تجيء قدرة منظومات القيم على التّعبئة وتحفيز المجتمع على الانخراط في بوتقة الأخلاق الرّاشدة التي يتوجّه بمقتضاها على الدّوام.
 بيد أن تزكية القيم الإيمانيّة الانفعاليّة يحتاج إلى مجاهدة شديدة للنّفس الإنسانيّة؛ وهو ما فطنت إليه منظومة القيم الإسلاميّة على وجه الخصوص، ذلك أنّ القيم تتصارع فيما بينها كما تتصارع الأمم والشّعوب، فليس أسهل على الإنسان من مسايرة الرّغبات، ومتابعة الشّهوات. 
ومن ثمّ فإنّ المشكلة هنا لا تكمن في البرهان على مشروعيّة نقل القيم وإنّما تكون التّساؤلات عن ماهية ومكتسبات النواقل الثّقافيّة ذاتها. أعنى حواملها مثل: النّظام الأسري والنّظام التّعليمي والسّياسي والاجتماعي ونظام العبادة ووسائل الاعلام والاتصال ...الخ، بما أنّ آليات الإصلاح القيمي لم تعد فحسب محصورة في دوريّة فكريّة ولا تنظيمات حزبيّة، ولا دور نشر كتابيّة أو منتديات فكريّة، ولا قنوات بثّ إذاعي أو تلفازي فضائي تعرف انتشارا كبيراً، وتحظى بإقبال جماهيري واسع فحسب، وإنّما تفاعل لكلّ هكذا وسائط وأنماط، فضلاً عن الأنماط المقبولة لحماية القيم والدّفاع عنها كآليّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، ونظام العقوبات الذي يقرّره نظام العدالة، ممّا يجعلها جميعاً موضوعاً لأدوات الإصلاح القيمي والاجتماعي، إذا ما تعلّق الأمر بمشروع الإصلاح التّزكوي وسؤال الهويّة المنشودة. 
كما نتحدث عن المجتمع الفاعل ثقافيّاً، أي المجتمع الذي يشارك فيه الجميع في العمليّة الثّقافيّة من خلال آليّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وما ذلك إلاّ لأنّ الإصلاح القيمي ليس نظاماً قائماً بذاته، وإنّما هو نظام ذو علاقة وثيقة بالأوضاع الاجتماعيّة المؤسّساتيّة: القيميّة والسّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والفكريّة...الخ، في المجتمع الذي تخدمه سياسات الإصلاح الثّقافي. ولذلك فإنّ الأصل في وسائط الإصلاح القيمي التّنوّع والتّعدّد والتّجدّد، منها على سبيل المثال: الأسرة والمسجد إلى جانب المؤسّسات الثّقافيّة النّظاميّة من رياض الأطفال ومدارس وجامعات، فتكون مهمّة الإصلاح القيمي عمليّة اجتماعيّة شاملة تضمّ كلّ شرائح المجتمع ومكوّناته، ابتداء من النّشء في الأسرة مروراً بالعوام وأرباب المهن، وانتهاء بالنّخب والمثقّفين.
بيد أنّه ومع انتشار أسباب التّقدّم المادّي وأدوات الحداثة التّكنولوجيّة «الثّقافيّة»، فإنّ مطلوبات الإصلاح القيمي، تزداد تعقيداً وكأنّ هذا التّلازم بين التّقدّم والتّعقيد في الحياة كقاعدة عامّة هي من طبيعة الحياة الإسلاميّة المعاصرة نفسها، إلى حدّ تحوّلها إلى كبرى مشكلاتها. وهو أمر واقع لا مناص منه، فمع تعقيدات الحياة المعاصرة تزداد المسألة الثّقافيّة تعقيداً، إذ تنعكس هذه التّعقيدات على مسارات الإصلاح القيمي في المجتمع، فتجعل منها عمليّة متشعّبة المشارب والمجالات لا ينحصر همّها في التّعليم والإعلام والأسرة فحسب، وإنّما تتعدّاهم إلى جميع مجالات الحياة الاجتماعيّة، حتّى لا يبقى قطاع من قطاعات المجتمع إلاّ ويقوم بدور قيمي ما، ولذلك فلابدّ أن نؤكّد على التّلازم بين دور الإعلام والنّادي والسّوق والمصنع والمتجر، فضلاً عن الأسرة والمؤسّسات الثّقافيّة والدّعويّة والمسجد، في إشاعة الهويّة الثّقافيّة للإيمان والتّوحيد.