حديث في التربية

بقلم
محمد بن خالي بن عيسى
إنعكاسات التربية العنيفة على سلوك الأطفال (1/3)
 تمهيد.
أصبحت ظاهرة العنف تكتسي أهمّية كبرى في السّنوات الأخيرة، بحيث صارت موضوعا محوريّا ومركزيّا في النّقاشات السّوسيولوجيّة والسّيكولوجيّة والأنتروبولوجيّة، وكذلك عند مختلف الفاعلين والمختصّين في العلوم الإنسانيّة والإجتماعيّة، أو حتّى عند عامّة النّاس بمختلف مستوياتهم، سواء أكان العنف الممارس عنفا أسريّا أو مجتمعيّا أو مدرسيّا أو مؤسّساتيّا أو غير ذلك من أنواع العنف، وكذلك بشتّى أشكاله وتلاوينه سواء أكان العنف عنفا نفسيّا أو جسديّا أو رمزيّا أو لفظيّا أو جنسيّا أو غير ذلك. ومن هنا نطرح التّساؤل التّالي، لماذا أصبح العنف موضوعا مهيمنا في جلّ النّقاشات التّربويّة والتّعليميّة والبيداغوجيّة والسّوسيولوجيّة والأنتروبولوجيّة في السّنوات الأخيرة ؟ أليست هناك مواضيع ومشاكل أخرى تعيشها المدرسة يتوجّب علينا الإلتفات إليها من قبيل الإكتظاظ، وسوء التّحصيل الدّراسي، وعدم ملاءمة المناهج، وتغيير البرامج في كلّ مرّة، وقلّة الموارد البشريّة المؤهّلة، إلى غير ذلك من الموضوعات التي تعيشها المدرسة والتي لم تنل حظّها من العناية والإهتمام بالدّراسة والتّحليل؟ لكن من وجهة نظر كاتب هذه السّطور المتواضعة، فإنّ ظاهرة العنف تكتسي أهمّية خاصّة، نظرا للعلاقة المباشرة التي تربط بين ممارسة العنف وبين طريقة تشكّل شخصيّة الإنسان بصفة عامّة والطّفل بصفة خاصّة، سواء تمّ ذلك داخل المدرسة أو الأسرة أو المجتمع. إنّ البحث في موضوع العنف يجيب عن أسئلة عميقة شغلت بال العديد من المفكّرين والباحثين التّربويين والمحلّلين النّفسانيّين حول مفهوم الشّخصيّة وطبيعة تشكّلها لدى الأطفال، وبالخصوص في السّنوات المبكّرة، وبالضّبط في المجتمعات العربيّة ذات البنية الذّكوريّة المحافظة أو مايسمّى بالمجتمعات البطريكيّة، والتي في الغالب ترسخ سلوكات خاطئة ومدمّرة عند الأطفال ذكورا وإناثا، هذه المجتمعات التي تعلي من سلطة الذّكر على حساب الأنثى، ومن سلطة الكبير على حساب الصّغير، ومن سلطة الشّيخ على حساب الشّاب، ومن سلطة الرّجل على حساب المرأة، إلى غير ذلك من التّرتيبات المجتمعيّة، ممّا يولّد مع هذا النّوع من السّلط تجاوزات وخروقات تتجلّى في ممارسة أشكال من العنف المادّي والرّمزي، وتعدّ هذه إحدى خصوصيّات البيئة العربيّة، رغم ماتزخر به من قيم ومبادئ إسلاميّة تحثّ على تجنّب ممارسة العنف بحقّ الأطفال، وتؤكّد على إعطاء قيمة كبرى لشخصيّة الطّفل، لكي ينضج في بيئة سليمة، كما ورد ذلك في القران الكريم، يقول تعالى:﴿ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (يوسف:12)، بمعنى أنّ حقّ اللّعب لدى الأطفال مهمّ للغاية، ومقرّر بنصّ قرآني صريح، إذ يسهم اللّعب في تطوير شخصية الطفل، ويمنحه الإتزان النفسي الضّروري، وذلك بعكس من حرم منه، وهذا ما يقره مضمون الآية القرآنيّة منذ قرون، قبل أن تظهر المواثيق الدّوليّة التي تحثّ على إحترام حقوق الأطفال وبالخصوص حقّ اللّعب، وفي المقابل لم يلتزم إخوة يوسف بهذا الإقرار الصّريح منهم بحقّ اللّعب، وقاموا بإلقاء أخيهم في البئر، وهو نوع خطير من العنف الجسدي والنّفسي ارتكب بحقّ أخيهم الطّفل يوسف وهو مايزال صغيرا.
1 -  تأثيرات  التّربية العنيفة على الأطفال.
إنّ ممارسة العنف على الأطفال تؤدّي لا محالة إلى عواقب وخيمة على نبوغهم وعلى مستقبلهم وعلى تشكّل شخصيّاتهم، من هنا يتبيّن لنا مدى أهمّية دراسة العنف وتحليل عواقبه على الفرد، ومدى الخطورة التي قد تسبّبها ممارسته على الأطفال بالخصوص، فتعنيف الأطفال من قبل أسرهم أو مجتمعهم أو في مدارسهم، يعيق تطوّر شخصيّاتهم ونموّها بشكل سلس، ويعيق تحصيلهم الدّراسي وتطوير مستواهم التّعليمي، فرغم كمّ الأبحاث والدّراسات التي أنجزت حول موضوع العنف عند الأطفال، مازال البحث في الموضوع يغري الباحثين والدّارسين والمختصّين، لأنّ مقاربته تتيح لنا فهم أبعاد أخرى للشّخصيّة الإنسانيّة بصفة عامّة وشخصيّة الطّفل بصفة خاصّة.
إنّ جلّ الأطفال الذين سبق وتعرّضوا للعنف مهما كان نوعه وشكله لا يتمتّعون في الغالب بشخصيّة قويّة وسويّة، إذ يفتقدون لعامل الثّقة بالنّفس، ولا يتمتعون بروح معنويّة عالية وثقة بالذّات، تمكّنهم من الإندماج السّريع في مجتمعاتهم وفي أوساطهم الأسريّة عن طريق الإنخراط في مجموعة الأنشطة الحياتيّة والمجتمعيّة. إنّ ممارسة العنف بأنواعه المختلفة تقمع كيان الطّفل وتحقّر ذاته وتشلّ تطوّره الطّبيعي والسّلس في المجتمع وتكبح نبوغه، وتعيق تشكّل شخصيّة مبدعة ومنتجة ومنفتحة على المجتمع، فالعنف بالمعنى السّالف الذّكر يرفع من نسبة الحصول على أطفال مسالمين، إتكاليين ، خنوعين يتملّكهم الخجل، وعديمي الثّقة بأنفسهم، إنّهم تجسيد لعلاقة القهر والرّضوخ التي يعاني منها الإنسان المقهور، الذي لا يجد له مكانة في علاقة التّسلّط العنفي هذه، سوى الرّضوخ والتّبعيّة، والوقوع في الدّونيّة لقدر مفروض(1)، فلامناص إذن من إعادة النّظر في طرق تفكيرنا وأساليبنا التّربويّة والبيداغوجيّة للحدّ من إنتشار هذه الآفة المجتمعيّة، لأنّ معظم الأدبيّات التّربويّة تتّفق على أنّ كسب رهان الجودة داخل المنظومة التّربويّة مرتبط بتوفّر شروط بيداغوجيّة ملائمة وتبنّي مقاربة نسقيّة تستحضر مجمل العوامل الكفيلة بدعم نجاعة المنظومة التّربوية والرّفع من أدائها(2)، والتي من بينها التّخلّي عن الممارسات غير التربويّة في تدريس الأطفال. 
ومن هذا المنطلق، صار يتوجّب على المدرسة والأسرة وأفراد المجتمع بصفة عامّة إعادة النّظر في الطّريقة التي يُنظر بها إلى الطّفل، وتجديد أساليب تلقين القيم والمثل والمعارف، ومن ثمّ التّركيز على تنمية جوانب من شخصيّة الطّفل السّيكولوجيّة والمهاريّة والإدراكيّة والسّلوكيّة حتّى يسهل عليه الإندماج في مجتمعه الأسري والمدرسي، بدل التّركيز على العقاب البدني واللّفظي لتطوير مستواه التّعليمي، ممّا يؤدّي إلى خلق شخصية منهكة ومحبطة وكارهة للمدرسة ولروح التّعلّم وفاقدة لكلّ ثقة في النّفس والذّات. 
إنّ العمليّة التّعليميّة التّعلّميّة ليس الهدف منها بالضّرورة إيصال المعارف في سنّ مبكرة، وحشو دماغ الطّفل بالمعلومات أو إنهاء المقرّرات الدّراسيّة بأيّ وجه كان، بل الأساس وقبل كلّ شيء الحفاظ على توازن الطّفل النّفسي، فمع تقدّم المتعلّم في السّنوات الدّراسيّة اللاّحقة لاشكّ أنّه سيتمكن من اكتساب المعارف عندما ينضج وينمو ويكبر، إذّاك تكون المعارف المقدّمة في مستوى قدراته العقليّة والإدراكيّة، وعلى عكس إضطرابات الشّخصيّة التي يسبّبها العنف والتي تبقى مستمرّة معه طوال حياته، فلا مجال لتداركها إن هي أصابته في مقتل، أمّا التّأخر الدّراسي فيمكن تداركه لاحقا، فنحن لا نريد طفلا حاقدا نفسيّا، كارها للمدرسة والمجتمع، ولا نريده أن يشكّل عبئا ثقيلا وحملا إضافيّا على الدّولة والمجتمع مستقبلا ، حينما يصير الإنتقام والتّخريب والتّدمير هو سلوكه الوحيد والأوحد تجاه نفسه أولا، وتجاه الآخرين ثانيا، وإتجاه مرافق الدّولة ثالثا، من أجل إثبات وجوده، والسّبب في ذلك أنّنا لم ننجح في تقديم تعليم عصري حداثي يحترم كيانه وخصوصيّته ورغباته، ويفهم إندفاعاته في تلك المرحلة العمريّة، ونسرع إلى تعنيفه، ممّا يجعله عرضة للضّياع والتّيه والحيرة في عالم قاس لا يفهم مكنوناته الدّاخلية واحتياجاته وما يعتريها من قلق، فلا هو يفهم العالم ولا العالم يفهم مايريد هذا الطّفل المنكسر، فما نريده هو تربية أطفال يستطيعون التّعبير عن احتياجاتهم المادّية والعاطفيّة والنّفسيّة لأسرهم ومدرّسيهم وأصدقائهم ومجتمعاتهم، ولا يتحقّق ذلك إلاّ في مدرسة عصريّة حداثيّة منفتحة على القيم الكونيّة والإنسانيّة والدّينيّة،
تفهم إحتياجات الأطفال المعنويّة والنّفسيّة، من قبيل إعطاء الأولويّة للحقّ في اللّعب كما ورد بنصّ القرآن الكريم (3)، لكي يحصل التوازن النّفسي لدى الطّفل في كبره وتستوفي شخصيّته إكتمالها، إلى جانب عوامل أخرى من تعليم وتربية وتهذيب. إنّ القمع المدرسي والمجتمعي يولد شخصيّة ضعيفة وهشّة البنية، ليست لها الجرأة الكافية لمواجهة الآخرين والتّواصل معهم بطلاقة وتعبير عن الذّات. فما دام قد انغرس في نفوس الأطفال من طرف آبائهم ومدرّسيهم ومحتقريهم، أنّهم أدنى من غيرهم من الأقران أو من أبناء الجيران أو من أبناء فلان، وأنّهم أقلّ شأنا من كلّ هؤلاء، ونعتهم بشتّى الأوصاف التى تدمّر شخصيّاتهم تدميرا، فلا ننتظر قطف ثمار هؤلاء الأطفال مستقبلا، وإنّما قطف العنف والسّلبيّة ثمّ إعادة إنتاج العنف مستقبلا على الأبناء والزّوجات والمجتمع والأصدقاء بطرق شعوريّة ولاشعوريّة، انتقاما من النفس المحتقرة والمهانة من المجتمع الذي رسّخ فيها كلّ أوصاف الدّونيّة وسوء تقدير الذّات، فالعادات العنيفة أو العدوانية تكتسب من خلال التّقليد أو كنتيجة للسّلوك المنحرف أو المدمّر، فقد تبيّن على سبيل المثال أنّ الأباء العنيفين في عقابهم غالبا ما ينحدرون من عائلة أو سلالة فيها عنف جسدي(4).
من هنا نستنتج أنّ الأسر التي تحترم شخصيّة أطفالها، وتنمّي فيهم الثّقة بالنّفس يكون أطفالها أكثر جرأة وأكثر تحرّرا في تعاملاتهم الإجتماعيّة ويشعرون بالدّفء الأسري والمجتمعي، فحبّ الأطفال وتحبيب المدرسة إليهم هو الكفاية المستهدفة من الحياة المدرسيّة والمجتمعيّة والأسريّة، لقد حان الوقت مع انتشار العلوم والمعرفة والتّكنولوجيا أن نغيّر سلوكنا وتعاملنا مع الأطفال، فلا عذر لأحد من الآن أن يعيد إنتاج العنف على الأطفال، حتّى يتمكّنوا من العيش بكرامة وعزّة، بدلا من العيش في الذّل والإهانة، فالمدرّس الذي مرّ من نظام تعليمي تعسّفي قمعي وقهري يشرعن العنف والسّب والقذف والتّحقير، لا ينبغي أن يعيد إنتاجه على أطفال لا ذنب لهم سوى أنّهم تواجدوا في مجتمعات متخلّفة، لا تحترم حقوق الأطفال، بعيدة كل البعد عن فلسفة حقوق الإنسان الكونيّة وعن تعاليم عقيدتنا الإسلاميّة السّمحة
الهوامش
(1) مصطفى حجازي : التخلف الإجتماعي، مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، الناشر المركز الثقافي العربي . ط9،الدار البيضاء - بيروت، 2005، ص39
(2) مقال للكاتب التونسي محرز الدريسي بعنوان: العنف المدرسي تمثلات التلاميذ ومدخل الجودة التربوية : عن مجلة الإصلاح العدد 186 السنة الحادية عشرة، يناير 2023، تصدر عن منتدى الفارابي للدراسات والبدائل بتونس، ص23
(3) سبق وذكرت في التمهيد عظمة تلك الآية القرآنية في تقديس حقّ اللّعب عند الطّفل منذ ألف وأربعمائة سنة، قبل أن يظهر الطّب النّفساني الحديث ليؤكّد هذه الحقيقة الرّبانيّة.
(4) أحمد الطاهري: ظاهرة العنف في الوسط المدرسي، دراسة في نظرياتها المعرفية، الناشر المركز الديموقراطي العربي للدراسات الإستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ألمانيا-برلين. ص29