نافذة على الفلسفة

بقلم
أ.د. عبدالرزاق بلقروز
مالك بن نبي وفريدريك نيتشه: ما الذي جعل فيلسوف الحضارة يهتم بفلسفة السائل الكبير ؟
 إن مالك بن نبي(1905-1973) قد هزّته الصّواعق النّيتشويّة ووجد حلولا لمشكلات فكريّة عند زرادشت، وافتتح نصوصه باقتباسات مختلفة مأخوذة من المتن الفلسفي النّيتشوي، وفهارس أعلامه لا تخلو جميعها من تواجد اسم نيتشه بينها.
إن تواجد اسم نيتشه في المدونة الفكريّة لمالك بن نبي، يدخل في إطار اطّلاعه على الفلسفة الغربيّة بعامّة، وتشغيل عُدّة مفاهيميّة مُكَثَّفة من أجل نقد الحضارة الغربيّة من جهة ومن أجل البحث عن الدُّروب التي تجعل العالم الإسلامي يستأنف رسالته التّاريخيّة بالدّخول إلى دورة حضاريّة جديدة من جهة أخرى، فنجد في متنه الفكري  القانون الأخلاقي الكانطي « القيام بالواجب قبل المطالبة بالحقوق»، وأولويّة عالم الأفكار في التّغيير الحضاري لدى هيجل، والقيمة العمليّة للفكرة بخاصّة لدى جون ديوي، ونيتشه الذي هو مدار سؤالنا في هذا المقام.
يشير مالك بن نبي إلى أنّ لقاءه الأول بنيتشه كان متوازيا لتعرفه على سبينوزا، في فرنسا من 1930 إلى 1939 أين كان يُجالس الكاتب الجزائري « حمودة بن الساعي» مجالسة نقاشيّة حول همّ التخلف ومسالك التحضر: « وعلى كلّ كان صديقي في حاجة إليَّ ليقرأ عليَّ الوريقات الصّغيرة التي يملؤها بانطباعاته وتأمّلاته خلال الأسبوع، وكنت في حاجة إليه لتبادل الرّأي حول نيتشه، وقد اكتشفته في ترجمة لـ «هاليغي» Halevy، أو حول سبينوزا الذي شغلني أيضا في دراسة قيمة تتناول حياته، تلميذا لـ «ابن ميمون»، وبالتّالي بالنّسبة للمدرسة الإسلاميّة في عصره، ولقد كانت فعلا بروق الأول وصواعقه وأفكار الثّاني الملتوية المتسرّبة تشغل بالي كثيرا في تلك الفترة»(1).
إن لجوء مالك بن نبي إلى مفردة الصّواعق تعبيرا عن نيتشه، يدلّ على ذلك الوصف الذي يختصّ به نيتشه في كتابته، أي التّفكير والكتابة كآلة حربيّة وأسلوب بركاني، بخاصّة وأنّ الحقبة كانت تلوح بإرهاصات مجيء حرب عالميّة ثانية.
«وكان نيتشه يشغلني خصوصا، لأنّ صواعقه كانت تدوّي فعلا في تلك الفترة التي ستفجّر فيها الحرب العالميّة الثّانية»(2)، ودويّ الصّواعق هذا يجد مكانه في الدّلالة السّياسيّة التي تمّ بمقتضاها تخريج فلسفة نيتشه، وبداية تشكُّل النّازية التي يبدو أنّ مالك بن نبي كان يرى بأنّ إرادة القوّة لدى نيتشه أحد المنابع المركزيّة لها. وما يعزّز هذا الفهم العبارة اللاّحقة التي قالها مالك بن نبي بعد إشارته إلى هذا التّأثّر، حيث جاءت نتائج الانتخابات معلنة فوز الماريشال «هندنبورغ»: « ولكنّ الصّحافة نفسها قد عبّرت عن تلك الانتخابات منذ الغد، عندما أعطت نتيجتها في عناوين لاذعة هزليّة تقول: كسب «هندنبورغ» عشرة ملايين من الأصوات، ولكن عمر هتلر أربعون سنة»(3).
إلا أن مَعْقِدَ الطَّرافة فضلا عن هذا، أنّ مالك بن نبي كان يوظّف نيتشه من أجل المداواة الفكريّة وإعادة ربط الإنسان بذاته وأصالته وعدم الرّكون إلى أيّة إيديولوجيّة زائفة، هذه الحقيقة يطالعنا بها «مالك بن نبي» في مذكّراته، فقد كان هناك د. عبد العزيز الخالدي، عندما كان طالبا بإحدى ثانويات عنّابة، أين كان هناك أحد الأساتذة الذين أثرّوا فيه بقناعاتهم الأيدلوجيّة اليساريّة، بخاصّة وأنّ هذه القناعات شكّلت أنوية تأسيسيّة للحزب  الشّيوعي الجزائري فيما بعد، في مجتمع يتمتّع بحصانة ثقافيّة ويقظة تجاه ما يحاك ضدّ ثقافته في دروب الظّلام، وشاعرا إضافة إلى هذا بواجباته  الإيديولوجيّة . كيف المسلك الفاعل لإنقاذ د. عبد العزيز الخالدي من هذا التّيه الفكري ؟
يقول مالك بن نبي بعدما حدثه أحد معارفه عن د. الخالدي قائلا:«إن خالدي في ذمتنا يا سي «الصديق»، لا يجوز لنا أن نسلم مفكّرا إلى التّيارات الفكريّة التي لا تتّفق مع فكرتنا ومع شخصيّتنا ومع تاريخنا.
فتقرّر أن نضيف « خالدي» إلى قائمة الشّبان الذين  يجب إنقاذهم من التّيه الفكري، ونظرا لتكوينه وحرصه على الاطلاع والمطالعات، رأيت أن يكون المنقذ هو(نيتشه).
ومن الغد في لقاء اتفقنا أو تآمرنا عليه، قدّمت لخالدي نسخة من كتاب الفيلسوف الألماني، أظنّها نسخة من كتاب «هكذا تكلّم زرادشت. وهكذا رجعت نعجة تائهة، ردّها نيتشه إلى القطيع الإصلاحي»(4). لكن ما الذي وجده «مالك بن نبي» في نيتشه حتّى يكون أداة إنقاذ من التّيه الفكري ومن المناحي اليساريّة في التّفكير؟ كيف يردّ نيتشه الإنسان إلى مشروع إصلاحي ديني وهو الذي ناهض الأديان واعتبرها أعراض انحطاط؟
يبدو أن توجيه مالك بن نبي شخص هيمنت على ذهنه التّيارات اليساريّة إلى « هكذا تكلّم زرادشت» توجيها مشروعا، ذلك أنّ زراذشت نيتشه ينبذ قيم الاشتراكيّة التي تلغي الذّات الفرديّة وتميت فيها نوازع الفرادة والعلو. إنّ زرادشت يدعو إلى حرّية القلب والفكر وتجاوز الذّات، فالذي لا يأمر لا مكان أمامه سوى للطّاعة « هذا السّر هو ما كلّمتني به الحياة نفسهاّ». أنظر قالت لي، ذلك الذي ينبغي عليه دوما أن يَتجاوز نفسه»(5). وإمعانا من زرادشت في تنبيه الإنسان على أن يُبدع ذاته جلجل قائلا:«لقد أنيرت بصيرتي : إنّني بحاجة إلى رفاق، وإلى أحياء-لا أمواتا وجُثثا أُجرجرها حيث أشاء.
بل رفاقا من الأحياء أحتاج، رفاقا يتبعونني لأنّهم يريدون أن يتبعوا أنفسهم- وإلى هناك حيث أريد»(6) لكن ما الذي حدث بعد أن قرأ د. الخالدي كتاب نيتشه: هكذا تكلّم زرادشت؟ هل كان الدّواء فاعلا من التّيه الفكري ؟ 
يجيبنا ابن نبي قائلا:«وقد كنت ألاحظ بارتياح على وجه (خالدي) علامة النّقاهة الرّوحيّة النّاجعة، منذ بدأ قراءة نيتشه... فأصبح محصّنا بأفكار الفيلسوف الألماني من تلك العقبات التي توضع في طريق شبابنا الجامعي حتّى اليوم، لتحيله إلى طريق تفكير وإحساس تجعله أجنبيّا عن الشّعب شاذّا عن نسق حياته»(7).
واللاّفت للنّظر أن مالك بن نبي لم يُبق الصّلة بينه وبين نيتشه صلة معرفيّة تناقش إشكاليّات نظريّة كما رأينا مع فؤاد زكريّا مثلا، إنّما يوظّف فكر نيتشه في المداواة الفكريّة والتّوجيه العملي نحو الأصالة واليقظة والحرّية، وكأنّ هذه الواقعة حقّقت مُراد نيتشه الذي كان يبحث عمّن يخرج بمشروعه إلى الحياة والحدث أو من يعيش فلسفته، وقد أفصح عن هذه الرّغبة في قولته «أن يكون الواحد قد فهم ستّ جمل من زرادشت؛ بمعنى أن يكون قد عاشها، فإنّ ذلك سيرفعه إلى مقام فوق منزلة الفانين ليس بإمكان إنسان حديث أن يرتقي إليه»(8).
هذا فضلا عن استثمارات أخرى شغلها مالك بن نبي من أجل توصيف الإنسان في العالم الإسلامي ونقد ثقافته، فإنسان ما بعد الموحّدين؛ المفهوم الذي بلوره مالك بن نبي ملمح على تاريخيّة مفهوم الإنسان في الثّقافة الإسلاميّة وبما هو عرض من أعراض الانحطاط، إنّه يماثل الإنسان الارتكاسي عند نيتشه الذي عجز عن إبداع المعاني الجديدة أو اجتياز مراحل تاريخيّة جديدة أيضا، فهو نتاج الثّقافة التّاريخيّة ثقافة الوهن والخور، وإنسان ما بعد الموحّدين هذا صورة مناقضة للجيل الأول التي تمثّل الرّسالة الخالدة إيمانا وسلوكا «لقد تلقّى المجتمع الإسلامي رسالته المطبوعة منذ أربعة عشر قرنا على هيئة وحي، فانطبعت في ذاتيّة الجيل المعاصر لغار حراء الذي أسمع السّيمفونيّة البطوليّة لدين الرّجال كما يدعو نيتشه الاسلام»(9)
هكذا إذن يجري استثمار مالك بن نبي لنيتشه استثمارا توجيهيّا من أجل إعادة بناء الإنسان من جديد، ومن أجل المداواة الفكريّة والصّحة العقليّة لكلّ من آثر الاتباع لغيره أو أثرت فيه مفاهيم الاتجاهات الفكريّة السّائدة. إنّ صواعق نيتشه تعيد لمن يعيشها النّقاهة وأصالة الذّات ووحدة المعرفة والثقافة، تلك الوحدة التي تمزّقت في التّاريخ؛ وأخرجت إلى العالم الإسلامي إنسانا منهزما يعيش مع الدّين في الصّوامع والخلوات دون أن يخرج هذا الدّين إلى  الوجود، ويعمل على إغناء الحياة وإثباتها بدلا من نفيها واحتقار قيمتها، وإنّ الحسّ التّاريخي عند نيتشه ومالك بن بن نبي أداة فعّالة لكشف نسبيّة الممارسات الثّقافيّة وفضح الأفكار المريضة المتواجدة في الثّقافة الحديثة نتيجة للوراثة الاجتماعيّة من الثّقافة التّاريخيّة.
 وبناء على استقرائنا للأفكار التي انتهلها مالك بن نبي من نيتشه؛ فإنّه يبدو أنّه قرأ  وتأثر بشكل خاصّ بـ«هكذا تكلّم زرادشت» و«ضد المسيح» و«تأمّلات في غير أوانها»، في فترة كان لا يزال النّص النّيتشوي فيها لم يعرف حضورا في الفكر العربي المعاصر أي فترة الثّلاثينيّات، وكأنّ النَّص النّيتشوي هنا يجد فيه كلّ قاصد مقصده، من النّاقد  للرّأسماليّة والمناهض للعقلانيّة إلى الموظّف له كأسلوب من أساليب العلاج من التّيه الفكري والدّاعي إلى الثّورة الرّوحيّة والمُعتنق للإيمان الدّيني، فتحت يافطة « السّائل الكبير» تقبع هذه الرّؤى كلّها ضمن وحدة تأويليّة تستجمع داخلها التّنوُّع والتعدُّدَ.
الهوامش
(1) مالك بن نبي، مذكرات شاهد القرن، دار الفكر المعاصر، دار الفكر 1984، ص 275
(2) المرجع السابق، ص 275.
(3) المرجع السابق، ص 275
(4) مالك بن نبي، مذكرات شاهد القرن، مرجع سابق، ص 346.
(5) نيتشه، هكذا تكلّم زرادشت، ، في التغلب على الذّات. ص 228.
(6) المصدر السابق، ديباجة زرادشت، ص 56.
(7) مالك بن نبي، مذكرات شاهد القرن، مرجع سابق، ص 387.
(8) نيتشه، هوذا الإنسان، ، مالذي يجعلني أكتب كتبا جيدة، الشذرة 1، ص 66.
(9) مالك بن نبي، مشكلة الأفكار في العالم الاسلامي، دار الفكر، سوريا، 2000، ص 70.