بحثا عن المشترك

بقلم
أ.د.احميده النيفر
محمد إقبال: الصوت والصدى
 في الواحد والعشرين من هذا الشهر تمرّ الذّكرى السّادسة والثّمانون لوفاة الشّاعر والمفكّر الذي لبّى نداء ربّه في ربيع 1938 عن عمر تجاوز الستين(1). غادر هذه الدّنيا مردّدا ما قاله في بعض قصائده:
 «لا يخشى المؤمنُ الموتَ، لأنّه ينظر إلى الحياة بابتسامة ساخرة». 
إحياء هذه الذّكرى اعترافٌ بالفضل لأهله، فنحن مدينون للرّجل بدَيْن ما نزال نماطل في أدائه. إنّنا حين نُقِرّ بأنّ الاحتفاء بذكراه ضرورة ثقافيّة فإنّنا نكون عملنا على تلافي بعض ما فات من تقصيرنا العربي إزاء الرّاحل الكبير. 
كان إقبال أعجميّا، لم يحسن العربيّة ولم يكن يفكّر بها، لكنّه رغم ذلك كان شديد الإعجاب بالجزيرة العربيّة ورسالتها الحضاريّة. أليس هو القائل: 
أنا أعجميُّ الدِنِّ لكن خمرتــي  ***  صنع الحجاز وكرمها الفينان
إن كان لي نغم الهنود ولحنهـم  ***   لكنّ هذا الصّوت من عدنــان
ما أثبتَه في مقاطع من دراسته «تجديد الفكر الدّيني في الإسلام» عن الثّقافة العربيّة وعلاقتها بقيم الإسلام وروحه شاهد على إكباره للجذر العربي ودليل على حصافة رأيه. 
تأكيدا لذلك، اعتبر أنّ «سرّ الأسرار» في الحياة الإسلاميّة هو محبة الرّسول ﷺ والاتصال الرّوحي بشخصه الكريم. أثبت ذلك عندما ترك قبل وفاته ديوانا مخطوطا، يؤكّد فيه هذه الرّابطة الوثقى بعنوان «تحفة الحجاز» ( أرمُغان حجاز).
من جانب آخر يعدّ إقبال عَلَم التّجديد الإسلامي في العصر الحديث. كان رائدا سبق بعقود جيل أصحاب المشاريع الفكريّة الذين أعادوا قراءة التّراث الإسلامي بالاعتماد على مناهج حديثة.   
مع هذا السّبق وهذه الوشائج، فقد بقي نداؤه دون صدى عربيّ. كيف نفعل اليوم في هذا الإعراض المُشين؟
لقد تواصل عدم اكتراثنا: لم تُتَرجم من آثار إقبال العديدة إلاّ قلّة قليلة تَمّتْ بفضل جهود شخصيّة من مثل ما فعل «الصاوي شعلان» و«عبد الوهاب عزّام» و«عبّاس محمود». ظلّ لذلك فكره شبه مهجور بيننا؛ كما ظلّت أشعاره غريبة عن حِسِّنا وذوقنا، باستثناء مقاطع من قصيدته شكوى وجواب شكوى انتشرت بيننا عندما تغنّت بها سيدة الغناء العربي.
يتأكّد هذا من مقارنة ما ظهر في البلاد العربيّة من أفكاره وآثاره، وما تفشّى فيها من كتابات «أبي الأعلى المودودي» و«أبي الحسن الندوي» مثلا. عند المقارنة نقف على الفارق الهائل بين الحضورين. 
لماذا كانت لنا مع إقبال حالة هي أقرب إلى الصدّ بينما كان الشّباب المسلم يتلقّف بشغف ما يُنقل إلى العربيّة من بعض الأدبيّات الإسلاميّة الأخرى الوافدة من شبه القارّة الهنديّة؟ 
إنْ كان الأمر يتطلّب درسا فالمطالبة بقدر من إعادة الاعتبار للرّجل تبدو متأكّدة. هو تصحيح يكون في ذات الوقت أحد مداخل هذا الحاجة الدّراسيّة لظاهرة إقصاء ثقافي غريب. 
معاصرته تعني أنّ مقارباته لم تفقد راهنيتها ولم تستنفذ أغراضها. ما قدّمه إقبال من الإجابات عن أسئلة طُرحت في الثّلث الأوّل من القرن العشرين يظلّ شاخصا أمامنا، مطلعَ هذا القرن الجديد مواجِها ذاتَ المعضلات القديمة التي استمرّتْ قائمة بكامل حدّتها.
إذا أردنا أن نتمعّن أكثر في معاصرة إقبال، فلا بدّ أن نتذكر أنّه:
* عاش فترة صدام سياسي بين العالم الإسلامي والغرب الأوروبي شهدت هيمنة هذا الأخير على أندونيسيا والهند وغالب البلاد العربيّة.     
* عاصر أيضا التّجربة التّركيّة الكماليّة بكلّ جرأتها وتحدّيها للموروث الإسلامي وما حملته من تطلعات قوميّة، كان لها أثر بالغ في النخب العربيّة طيلة القرن العشرين.   
* واكب الفكر الغربي الحديث عند دراسته الفلسفةَ والحقوقَ في طور بلغ الإبداع الأوروبي مرحلةً متقدّمة أَسِرت أجيالا من الشّباب المسلم. كانت علاقة إقبال بفلسفة « هيجل» و«نيتشة» و«كونت» و«برغسون» تجربة عايش ما عرفته نخب مسلمة في محنة شكّها في الذّات وانبهارها بالآخر. 
* خاض غمار الحياةَ السّياسيّة في بلاده من موقع الالتزام العملي، وممّا كانت تطرحه النّخب المسلمة الهنديّة من تساؤلات نظريّة. لذلك اعتنى ضمن اهتمامات الفكر السّياسي المطروح آنئذ بعلاقة الدّنيوي بالدّيني وطبيعة الدّولة ووظيفتها وترتيب الأولويات في علاقة الفرد بالمجتمع. 
* واجه في الهند حالة من اليأس والضّياع في صفوف ملايين المسلمين، مع حضور لافت لتوجّهات إسلاميّة تعتبر أنّ المحافظة ضمان للبقاء مُتخذةً لنفسها مسالك متباينة بعضها يحتمي بتصوّف زهدي والآخر بالتّمذهب الفقهي. كان السّؤال المؤرّق في هذا الخضم الإسلامي هو: ما العمل؟ هل الأجدى دعوة العالم إلى الإسلام أم تغيير حال المسلمين؟ 
كانت هذه أبرز المستويات التي صاغ محمد إقبال من تفاعلها رؤيتَه وأرسى في ضوئها ذهنيّة تجديديّة ليس لها طابع وثوقيّ مغلق. هذا جانب من جوانب معاصرته لنا اليوم. 
حين نعيد النّظر في الأحواز الخمسة السّابقة نلاحظ أنّ الفكر العربيّ المعاصر في مجالاته السّياسيّة والثّقافيّة والدّينيّة مازال دون حسمٍ عمليّ للجانب الأهم من إشكاليّاتها. إن كانت بعض المظاهر قد تغيّرت اليوم فالصّراع السّياسي بين الغرب والمسلمين ما زال على أشُده ومعه يتواصل بصورة أعقد علاقة الثّقافة الخاصّة بالآخر الذي أصبح مُعولَما.    
إن التمعّن في المشهد الفكري العربيّ يثبت أنّ الذّهنيّة التّجديديّة التي صاغها إقبال لإعادة التّوازن المفقود بين الدّين والدّنيا بإصلاح ديني تحت شروط العصر الحديث، هذه الذّهنيّة تبقى معاصرة في الحيّز العربيّ الذي أعيته قضيّة الأصالة.
كانت بؤرة التّساؤل عند إقبال تتحدّد في سؤالين: هل الدّين أمر ممكن اليوم؟  كيف يتحققّ هذا الإمكان؟ أليس كلّ الحراك الإسلامي الذي عرفته البلاد العربيّة منذ مطلع هذا القرن الهجري إلى اليوم سعيا للإجابة عن ذاتِ السّؤالين؟! 
لذلك فلا مبالغةً في القول بأنّ إقبالا قامةٌ إسلاميّة لا معنى لمواجهتها بصَلَفٍ لا يشرّفنا ولا يفيدنا.
الهوامش
(1) ولد محمد إقبال في سيالكوت ـ إحدى مدن البنجاب الغربية في 9 نوفمبر 1877م  وتوفّي في 21 أفريل 1938م