شخصيات الإصلاح

بقلم
التحرير الإصلاح
المجاهد محمد الدغباجي في الذكرى 99 لاستشهاده
 في صبيحة اليوم الرّابع والعشرين من شهر رجب 1342 الموافق لغرّة مارس 1924، أي قبل تسع وتسعين سنة، اجتمع حشد من الرّجال والنّساء والأطفال في ساحة سوق البلدة ينتظرون قدوم البطل ليزفّوه شهيدا للوطن. اقتاده الجنود مكبّل اليدين واتجهوا به نحو المنصّة، خيّم السّكون على المكان، تقدّم الضّابط الفرنسي نحو السّجين ذي الأربعين سنة بعصابة ليضعها على عينيه، لكنّه رفضها بشدّة متوجّها بكلمات ثابتة نحو زوجة أبيه التي كانت بمثابة أمّه قائلا:«لا تخشي عليّ يا أمي، فإنّي لا أخاف رصاص الأعداء، ولا أجزع من الموت في سبيل عزّة وطني..اللّه أكبر وللّه الحمد..»  كلمات نزلت كالصّاعقة على آذان الجنود الذين اصطفّوا ليمطروا جسده بالرّصاص، لكنّها كانت بردا وسلاما على الحاضرين، زغردت زوجة الأب لمشهد موت السّجين وهو يكبّر وهتفت عاليا، مباركة شجاعته والشّرف الذي نالها منه. إنّه الشّهيد البطل «محمد الدّغباجي» أحد زعماء المقاومة الباسلة التي أَقَضَّت مضجع الاستعمار الفرنسي في تونس والإيطالي في ليبيا. 
هو محمد بن صالح الزّغباني الخريجي من بني يزيد، أمّا الدّغباجي فهي كنية خاصّة به لا بأسرته. ولد الثّائر التّونسي الشّهير وبطل الجنوب في العام 1302 هجريا (1885ميلادي) بوادي الزّيتون الواقع على مسافة 30 كم من بلدة الحامّة من ولاية قابس، بعد أربع سنوات من دخول الاستعمار الفرنسي البلاد التّونسيّة. 
نشأ «الدّغباجي» في وسط بدوي فتمرّس بمصاعب الحياة. وتعوّد على احتمال المكاره وما تقتضيه البداوة من شظف عيش وتجلّد واحتمال للمكاره، وعُرف منذ صغره بكرهه المستعمر وحقده عليه شأنه شأن الكثيرين من أبناء تونس، فرفض الخنوع والخضوع للسّياسة الاستعماريّة الفرنسيّة.
ولمّا بلغ سنّ الثّانية والعشرين تمّ تجنيده، وذلك سنة 1907، فقضى بالجنديّة الاستعماريّة ثلاث سنوات عاد إثرها الى موطنه حيث تزوّج، ثمّ أجبرته الحاجة والحرمان على العودة بعد ثلاثة أعوام إلى ثكنات الجيش للعمل كمتطوّع. لم يكن الدّغباجي مرتاح البال وهو يحمل بندقيته ليدافع عن العلم الفرنسي خاصّة مع وصول أنباء نضالات الثّوار اللّيبييّن ومواقفهم البطوليّة في وجه المستعمر الإيطالي. أنباء أثارت في الدّغباجي الحميّة وأشعرته بالنّخوة وأجّجت فيه مشاعر المقاومة. بدأ يفكّر صحبة بعض من رفاقه في الفرار من الجنديّة، في الوقت الذي كانت فيه فرنسا مشغولة بالحرب العالميّة الأولى. فاستغلّ تواجده ضمن الجيوش الفرنسيّة بمنطقة الذّهيبة في تطاوين، قرب الحدود التّونسيّة اللّيبيّة ليفرّ نحو ليبيا في سبتمبر 1915 صحبة خمسة من رفاقه، ويلتحق بصفوف المقاومة بقيادة البطل اللّيبي خليفة بن عسكر النّالوتي الذي قرّبه إليه وجعله أحد أعضاده لما رآى منه من بطولة وشجاعة وحسن تدبير عندما كان يشارك في مهاجمة الحصون الفرنسيّة بالحدود، وبقي يقاتل معه في وقائع ضدّ الاستعمار الايطالي حينا وضدّ الاستعمار الفرنسي حينا آخر. وعلى إثر إبرام الصّلح بين ايطاليا والثوّار اللّيبيين سنة 1919 ودخلت الثّورة اللّيبيّة مرحلة الهدنة. قرّر الدغباجي العودة إلى موطنه بمنطقة بني زيد ليواصل كفاحه ضدّ المستعمر الفرنسي، ويرسم ملحمة تاريخيّة لبطل فذّ أقلق المستعمر وكبّده خسائر كبيرة لا تحصى ولا تعدّ في الأرواح والعتاد.
لم يكن الدّغباجي مخطّطا سياسيّا ولا منظّرا أو مستهديا بنظريّة ثوريّة، يحسب للمعارك كلّ حسابها. كان ثائرا ومثالا للفدائي الذّائد عن العزّة والكرامة. خاض خلال الفترة ما بين  1919 و 1924 معارك عديدة في الجنوب التّونسي أهمّها معركة «خنقة عيشة»، و«المحفورة»، وواقعة «المغذية» من ولاية صفاقس، وواقعة «الجلبانيّة»، تحدّى فيها قوّة الاستعمار وبطشه .
كان يعبّئ رفقاءه في الجهاد بروح المقاومة وحبّ الوطن ببعده المغاربي، ولعلّ ما جاء في رسالته لأحد العملاء الذي أراد استدراجه وتسليمه للمستعمر لدليل قاطع عن هذا الإيمان القوي بالوطن الكبير الذي لا يعرف الحدود التي رسمها المستعمر الغاصب حيث جاء فيها:«أنتم تطلبون منّا الرّجوع إلى ديارنا لكن ألسنا في ديارنا؟ إنّه لم يطردنا منها أحد، فحركتنا تمتدّ من فاس إلى مصراتة، وليس هناك أحد يستطيع إيقافنا.. ونقسم على أنّنا لو لم نكن ننتظر ساعة الخلاص لأحرقنا كلّ شيء، والسّلام من كلّ جنود الجهاد».
تمت محاكمة الدّغباجي غيابيّا في الثّامن عشرة من شعبان من عام 1339 هـ الموافق ليوم 27/04/1921 وقُضي بإعدامه مع جمع من رفاقه، الذين التحقوا بالتّراب اللّيبي، ولكنّ الطّليان لم يتأخّروا في القبض عليهم وتسليمهم لسلطات الاستعمار الفرنسي.
هذا هو محمد الدغباجي أحد أبرز المناضلين وشهيد الحركة الوطنيّة التّونسيّة إبّان الاستعمار الفرنسي جسّد وحدة المغرب العربي من خلال مقاومته للمستعمر في تونس وليبيا ورفض الاستسلام للعدو حتّى وافاه أجله، ليغادر وطنه شهيدا من أجل الحرّية والانعتاق. ورغم سنوات نضاله ومقاومته للمستعمر بشراسة، التي بلغت 11 سنة كاملة، ورغم بطولاته، فقد  تعمّد النّظام «البورقيبي» ومن بعده «النّوفمبري» تغييب هذا البطل عن تاريخ الحركة الوطنيّة وتشويه تاريخه النّضالي لكنّ الضّمير الشّعبي بقي يتذكّر الدّغباجي ويتداول بطولاته مشافهة وعبر الشّعر الشّعبي وخاصّة من خلال أغنية «الخمسة اللّي لحقوا بالجرّة وملك الموت يراجي، لحقوا مولا العركة المرّة المشهور الدّغباجي»...
رحل الإستعمار وبقي الدّغباجي شامخا في ذاكرة التّونسيّين رمزا للشّجاعة والفداء وملهما للأجيال التي ستبني الوطن اعترافا له ولأمثاله بالجميل واحتراما للمناضلين والمجاهدين الذين لم يبخلوا بدمائهم من أجل تونس.