تحت المجهر

بقلم
خالد إغبارية
قراءة في إصدارات الباحث سمير ابو الهيجاء قرية عين حوض / فلسطين
 أحيي صديقي الأستاذ سمير أبو الهيجاء على نشاطاته وجهوده التي تُعتبر كنزا مهمّا في ثقافتنا وتراثنا الفلسطيني، حيث يوثّق فيها رواياتٍ وشهاداتٍ حيّةً عن نكبة شعبنا في عام 1948 وما قبل أيضا، وبهذه المهمّةِ يدحضُ الكثيرَ من روايات من احتل شعبَا واغتصب أرضه وهجَّره من وطنه . فالكاتب والباحث سمير أبو الهيجاء قدّم لنا في ثمانية كتبٍ من اصداراته العشرةِ: «أنا من هناك ولي ذكريات(2013)، الترانسفير المقنّع(2016)، اللّجوء القسري(2017)، إلى فلسطين(2018)، الشّيخ الصّامد(2017)، عين حوض ستبقى تشهد(2020)، حرّاس الذّاكرة(2021)، لمّا إمّي تحكيلي(2022)، حكاية صمود(2016)، شموخ الأحرار(2020)»،شهاداتٍ ورواياتٍ إنسانيّة حيَّةٍ لمرحلةٍ تاريخيّةٍ عاشها الشّعب الفلسطيني قبل نكبة عام 1948 وخلالها، جمعها من خلال زيارات إلى عدد كبير من مخيّمات اللّجوء في الأردن وقبرص وتركيا والضّفة الغربيّة وقطاع غزة والدّاخل الفلسطيني، وكنت برفقته في أكثر من ثمانين بالمئة منها، حيث وثَّق تلك الروايات الشّفويّة كتابة وتسجيلا مرئيًّا. 
هذه الرّوايات هي تجسيدٌ وجدانيٌ لناسٍ هُم ليسوا أرقاما. فكلّ فلسطينيٍّ له حكايتُه وروايتُه الخاصّةُ به، وحياةُ الشّعبُ الفلسطينيُّ هي مجموعةٌ من الرّوايات والقَصَصِ ذاتِ الطّابعِ الإنسانيِّ الذي واجه مصيرا قاسيا جدّا قبل عام 1948 وخلاله. 
ويتأثّر الكاتبُ في رواياتِ اللاّجئين بتجربته الشّخصيّة،ِ حيث عاش اللّجوءَ بعد أن هاجرت عائلتُهُ من قرية «عين حوض» الواقعة على سفح جبل الكرمل الغربي مقابل البحر المتوسط  في العام 1948، إذ وُلد في قرية «عين حوض الجديدة» بعد خمسة سنوات من تهجير عائلته. وتقع «عين حوض أبو الهيجاء» على تلّة لا يفصلها إلاّ وادٍ عن عين حوض المهجّرة. وهذه الرّواياتُ والشّهاداتُ الحيّةُ تتحدّثُ عن مرحلةٍ تاريخيّةٍ فاصلةٍ في حياة الشّعب الفلسطيني. فالشّخصيّات الموجودة في الرّوايات عاشت النّكبة واقعا، والنّكبة ألقت بظلالها على مجملِ حياة النّاس جميعُهُم.
ينطلق أبو الهيجاء في رواياتِ محدّثيه بتقديمه عرضا مفصّلا لطريقة تهجيرِ النّاسِ وترحيلِهم من مكانٍ الى آخر، عندما اندلعت الحربُ عامَ 1948، وكيف سكن النّاسُ في العراءِ بعيدا عن منازلهم. ويذكرُ قصةً من تلك القَصَصَ الكثيرةَ التي يتداولها اللاّجئون عن نسوةٍ فقدن أولادَهن خلالَ رحلةِ التّهجيرِ  والهروبِ من الحرب. ففي كتابِ «اللّجوء القسري» يذكرُ الكاتبُ الحاجّة «أم رياض» ابنة قرية «هوشة» المهجّرة، وهي تتحدّث كيف أنّها حملت أختَها الصّغيرةَ في رحلةِ العذابِ الطّويلة، وقد توجّه إليها والدُها قائلا : «وَلِك ارميها، شباب ماتوا، بتبكي على بنت»؟
ويحدّثنا الباحثُ في كتابه «أنا من هناك ولي ذكريات» عن رواية الحاج «عبد الرّحيم جابر» من قرية «قاقون» المهجّرة، فيقول :«بعد عدّة هجماتٍ ومعاركَ دارت بين الثّوارِ والعصاباتِ الصّهيونيّة، قرّر الجيشُ العراقيُّ إخلاءَ قريتنا من المدنيّين لحين الانتهاءِ من المعاركِ، ومن ثمّ عودتِنا. ورحلنا في البداية إلى منطقة «بيارة حَجّاج» قرب «راس العين»، ومن ثمّ إلى «جلجوليّة»، وحتّى الآن لا زلنا ننتظرُ عودتَنا التي وعدَتنا بها الجيوشُ العربيّة».
وفي كتابه «إلى فلسطين» يروي الحاج «فضل الشّيخ يعقوب» أصيل «الرّملة» ويسكن «مخيمَ الحسين» في الأردن بعد تنهيدة قصّته فيقول : «كانت حياة ملؤها السّعادة، كنّا ثلاثةَ أخوة وكان لكلّ واحد خمسةَ وثلاثون دُونما وكان لنا بنايتان، أعود وأقول لأولادي: «الخطيّة برقابكم، هذه الأرض لنا مشْ للصّهاينة لا تتنازلوا عنها»، ويتابع الحاج فضل: « أنا خرجت مع أهلي، كنّا ثلاثة رجال نحن اليوم أكثر من مئة شخص، وما في دينه بتروح ووراها مُطالب».
ويذكر لنا أبو الهيجاء في كتابه «حراس الذّاكرة»  قصيدة نظّمها المُهَجَّرُ «محمد علي أسعد أبو يحيى»، الملقّب بالصبّاريني، الذي يسكن مدينة الرّصيفة في الأردن، شملت معالم «صبارين»: 
«قالوا تَصَبِّر فقلـتُ الصبرُ أضنانـــا    ***   رُحمـاك ربــي فصبّاريـن سَلوانـــا
سَلوا خيامًا سوادُ الليــلِ ساترُنــــا    ***   البردُ زائرُنــــا والريــحُ تغشانـــا
آه « فلسطين» عيلَ الصبرُ فانطلقـتْ    ***   أحقادُنا تبتغي ثــاراتِ «أقصانـــا»
دارٌ لنا زانَ بـ «الرَّوحـاء» منزلُهـــا   ***   وجادَها الغيثُ أشكـالا وألوانـــــا
يا موطنا أسبـلَ العينين موجِــــدةً    ***   فارقْتُهُ يافعا غَـــرَّا وهيْمانــــــا
«وادي الخضيرة» هل في الروحِ بلبلـةً      ***   قد عِشْتُ فيك الهوى سهلا وغُدرانــا
«عين الصلاة» بها العبادُ ما سُعــدوا     ***   مُذ فارقوها غدت للنحــس ميدانــا
والشيخُ صبّاح والجميــزُ مَعْلَمُـــه     ***   «راسُ المطلةِ» قد دَنــا وما دانــــا
دربُ «الْمَحَطٌّ» و»وادُ التين» إن سَـألا    ***  عنا أجابا كفــى بُعــدًا وهُجرانـــا
أحِـنُّ يا دارُ للكانــــونِ يُدَفِّئُنــــا    ***  وللخراريف مــاكنــا ومــا كانـــا
أحِنُّ للتِّبْــنِ للطّابـــونِ مخبزُنـــا     *** أحِــنُّ للطَّــرْشِ أبقــارًا وثيرانـــا
يا» تينُ» يا «توتُ» يا عكوبُ إنَّ لنــا      *** عشنا ومتنـا بصباريـــن عنوانـــا
يا ساريَ البرقِ ذَكِّر موطني ولهًــــا     *** متى لقــاءٌ بــه نجتَّــرُّ ذِكرانــــا
يا ربُّ إنا حُرمنـــا مَهْــدَ موْلدِنـــا     *** فأجعل لنا من ثَراها لَحْــدَ مثوانـــا»
وفي نفس الكتاب «حراس الذّاكرة» يذكر رواية الحاج «موسى سعيد موسى الحِن»، من مدينة «اللّد» ويسكن قرية «جَفنا» قضاء رام اللّه، الذي يقول : «وصل اليهود إلى حيّ الجامع الكبير وكنيسة الخضر، وانتشروا في وحدات صغيرة حول الجامع والكنيسة، أخذوا يدخلون بيوت المنطقة ويُخرجون منها السّكان ويُحضرونهم إلى داخل الجامع وساحته الواسعة، إلى أن امتلأت السّاحة بمئات الأهالي، كان الجوّ خانقًا وحرارة الطّقس عالية، لذا أغمي على الكثيرين من شدّة الخوف والحرارة والعطش، فضلاً عن ذلك كان الجنود يطلقون الرّصاص فوق رؤوسهم لتخويفهم».
وفي كتاب «إلى فلسطين» يقول الحاج «مصطفى أبو عواد» من مخيم «نور شمس» قضاء «طولكرم»، أحد مهجّري قرية «صبارين» وهو يحمل مفاتيح بيته في صبارين: « بعد حرب الأيام السّتة ذهبت مع أولادي إلى صبارين ومعي مفاتيح بيتنا، لكن لم نجد الاّ الحجارة المترامية، وعرّفتهم عليها، وشربت من البير الّي خسفه اليهود وزرت المقبرة، وبكيت، وصلّيت هناك»
وفيما تَرِد قصّةُ مفاتيحِ المنازلِ التي حملها اللاّجئون عند رحليهم عن منازلهم لاعتقادهم أنّهم سيعودن اليها خلال أيّام أو أسابيع، يشير الكاتب الى أشياء أخرى فيذكر أنّ «أحدهما بيده رشمة الفرس المصنوعة من الصّوف.. والآخر على ظهره كيسٌ من قمح أو عدس».
هذه الرّوايات هي قصص إنسانيّة لكلّ منها دلالتها عن الحبّ والحياة والبؤس، أبطالها شخصيّات حملت هموم شعبٍ هُجِّر من أرضه عنوة. «هذه روايات البسطاء الذين استطاعوا أن يواجهوا مكر التّاريخ».هي روايات لأكثر من مئة وخمسين منكوبا ومُهَجَّرا.
وفي كتابيه عن الأسرى المحرّرين من سجون الاحتلال، «حكايات صمود» و«شموخ الأحرار»، يتطرّق سمير أبو الهيجاء  إلى حكايات وروايات شفويّة من أسرى تحرّروا من الأسر الصّهيوني، وهم من جميع فلسطين التّاريخيّة، حول الأحداث التي صادفتهم في الأسر، وكيف ومتى ولماذا تمّ أسرهم، وعن معاناتهم ومعاناة أهلهم، فما من بيت في فلسطين إلاّ فيه شهيد أو أسير في السّجون الصّهيونيّة، أو تحرّر بعد عناء طويل، ويحتوي الكتابان على إحدى وثمانين حكاية ورواية أسير، فكّ اللّه أسرهم جميعا.
أما كتابه «عين حوض ستبقى تشهد»، فيتضمّن روايات شفويّة عن «عين حوض»، قرية عائلة الكاتب المهجّرة، وقد جمعها من مهجَّرين من عائلته من الدّاخل الفلسطيني والمخيّمات في الضّفة الغربية وفي الأردن وغيرها.
فيما نقرأ في كتاب «الشّيخ الصّامد»، عن سيرة جده «محمد عبد الرّؤوف» الذي يعتبر مؤسّس «عين حوض الجديدة»، وكيف بدأ بتأسيسها على تلّة مقابلة لعين حوض المهجّرة، والتي أصبحت بيوتها سكنا للصّهاينة، ولا يفصلها إلاّ وادٌ عن «عين حوض» المهجّرة .
أمّا كتابه الأخير فقد خصَّه لأمّه، ووسمه تحت اسم «لمّا إمّي تحكيلي»، ويحتوي على ست ومئةٍ صفحة، من القطع المتوسّط، سطَّره بالعامّية حسب ما حدّثته والدته، وقد أهداه  لأمّه التي أرضعته لبن المحبّة وحبّ الوطن في غياب الأب الذي توفّي وعمر كاتبنا ثلاث سنوات. يقول الكاتب في الصّفحة التّاسعة «سنين طويلة عشتها وأنا أعتبرها، أمي وأبي الذي غاب منذ زمن بعيد، فهي التي رعتني وإخوتي، منذ كانت صَبِيَّةً في ريعان شبابها، هي التي رسمت الأَمل في حياتنا، ومهَّدت لنا الطّريق لنعبر صعاب الحياة بدون أذى». يُعبِّر الكاتب عمّا يجول في صدره من حبّ لأمه، فهي بالنّسبة له كلّ شيء في هذه الدّنيا. وفي الصّفحة الثّانية عشر يقول «هيك حكتلي إمّي» حيث جلس بجوارها وبدأت تسرد له روايتها وقصّتها من يوم وُلدت إلى حين كتابته هذه السّطور، وعن عائلتها وحياتها في قرية «اجزم»، ويذكر في الصّفحة إحدى وعشرين كيف احتل الصّهاينة قرية «اجزم» وهجَّروا أهلها، وكيف انتقلوا الى «دالية الكرمل» وقد وعدهم الصّهاينة بالعودة بعد سبعة أيام. وفي الصّفحة اثنتين وعشرين يصف الكاتب كيف خيّم الصّمت على أمّه وتتنهّد وتقول «شو بِدّي أحْكي! هَذولْ اكْثَرْ مِنْ سَبعينْ سِنِةْ، شو عَقْلِي دَفْتَرْ». 
ويتحدّث الاستاذ سمير عن خطبة أمّه وعمرها لم يتجاوز سة عشرة سنة وزواجها ووفاة زوجها وهي ابنة واحد وعشرين سنة، فتقول «كانت هذيك الفترة أصعب فترة بحياتي». وفي الصّفحة السّادسة والعشرين يذكر الكاتب والده وكيف عاش في «عين حوض» ويأتي على ذكر مفكّرة تخصّ والده وموسومة بسنة 1949، وهي يوميّات وأشعار لوالده في سنة النّكبة وما بعدها. وتحّدثه أمه بعد ذلك عن الحياة الصّعبة التي عاشتها مع العيلة وهي تربّي أولادها الثّلاثة في بيت من قشّ. ففي الصّفحة 35 يصف لنا الكاتب لحظات صعبة ويقول « صمت رهيب، حبّات من الدّموع تنزلق من عيون الحاجّة، فأندم أنّي بدأت بتسجيل مذكّراتها، وبعد دقائق تتمالك نفسها وتقول: «بَعودْ وْبَوَصّي: ما تْجَوْزوا بَناتْكو وِوْلادْكو زْغارْ، هَذَا ظُلُمْ».
ويضيف في الصّفحة 47 وصف أمّه لحياة العيلة :«كانْ ابو مْحِمّد يْحِبْ قَرايْبُهْ، فَكانْ يِشتْعِلْ بالخُضْرا وبِالشّمامْ، وِيْجيبْ وِيْوَزِّعْ عَلى خَواتُه وْإِخِوْتُه، وأنا كُنْتْ ابعَثْ لَمَرْةْ عَمّي أَطَعْميها، وكانَتْ عَلاقْتي مَعْها مْليحَة؛ ما كانْ مَشاكِلْ بينّنا، لكنْ ما بِخلا الأمِرْ من زَعلاتْ بينْ الحَماه وِالكِنِّة؛ فَكُنِتْ دايْما اسْتَسْمِحْ مِنْها فَتِرْضى عَنّي».
وفي الصفحة الواحد والسّتين تتذكّر الحاجّة أم محمد « فاتْني أنّي أذْكُرْ أنُّه عَبدالرؤوف قَبِلْ ما يُخْطُبْني كانْ يْعيشْ في الضَّفِّة الغَربِيِّةْ وبِالتّحديدْ في اليامون، وكانْ مَعِ الجيشْ العِراقي في عاره وْعَرعَرهْ، هيك كَتَبْ في يَومِيّاتُه، وكانَت عَلاقْتُه مَعْ أَخوه عَبدالحَليم عَلاقَةْ قَوِيِّة، وهَذَا اللّي أثْبَتُه بكِتاباتُه اللّي بَيّنْ فيها إنّه عبدالحليم كانْ يْمِدهْ بِالمّصاري، وعِنْدْ ما عاوَدْ عَ الِبْلادْ وْتْجَوَّزْنا وْخَلَّفِتْ محمد وسمير، خَلَّفَتْ مَرْةْ عبدالرحيم بِنْتينْ، فِقالْ عبدالرؤوف لَمَرْةْ اخوه: هَذولْ البَناتْ عَرايِس لَاوْلادي إنْ ظَلْ بِالعُمُرْ مِدِّةْ، وكان هَذَا بَعِدْ مَماتُهْ بـ20 سِنِةْ»
وفي الصّفحة الثّامنة والسّبعين تقول الحاجّة أم محمد: «كانْ يومْ عُرسْ أوْلادي يومْ بكُلْ الحَياةْ بِالنِّسْبِةْ إِلي، أوْ قولْ بْدايْةْ الحَياةْ، لأنّا لَحَدْ هَذَاكْ اليومْ كُنّا نْنامْ في غُرْفِةْ وَحَدِةْ، وِاليومْ صُرْنا نْنامْ كُلْ واحَدْ في غُرُفْتُهْ مَعْ مَرَتُه، ولَأَوَّلْ مَرَّة أنا صارْ إلي غُرُفِة لَحالي، فَكانْ صِعِبْ عَلَيْ بِالأَوَلْ، لَكِنْ ما ازْعِلِتْ، بالعَكسْ كُنْتْ فَرحانِة كْثيرْ لِأَنّي كُنْتْ عارْفِة إِنُّه هَذَا اليومْ جايْ، ومستَنيتُهْ، فَهايْ سُنِّةْ الله في خَلْقُهْ»
وفي الصّفحة الثّالثة بعد المئة يسرد الكاتب عدّة أقوال في حقّ والدته من أقاربها، وكلّ يدلي بدلوه عن حياة الحاجّة ميسر .
الكاتب لم يترك شيئا من حياة أمه وهي تحكي له كلّ ما حدث معها طيلة حياتها السّبعة والثّمانين سنة، أمدَّ اللّه في عمرها.
بوركت استاذنا وكاتبنا سمير أبو الهيجاء على هذا النّشاط وتوثيق روايتنا الفلسطينيّة .
وأخيرا نقول «أن اللّحظة التي يكفّ الفلسطيني عن الحلم (بالعودة الى الوطن) يكون قد دمّر حلمه بنفسه».