أهل الاختصاص

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
تجليات المبدأ الطبيعي «أقل فعل» «Least Action Principle» في الفيزياء والفلسفة
 الخروج من المتاهة
يمكن شرح المبدأ الطّبيعي «أقل فعل» «The principle of least action» بما يُعرف بمسار الحديقة «Garden path»، ليست هذه ترجمة الكلمتين السّابقتين بل ترجمتها عند أهلها المتاهة، مثلما تسير داخل متاهة ثمّ تفاجأ بأنّ الطّريق مسدود، فتعود لتختار طريقا آخر. ومثل قاعدة الإبهام «Rule of thumb» وليست هذه أيضا ترجمة شبه الجملة السّابقة بل ترجمتها عند أهلها من واقع الخبرة. والآن جرّب الجملة التّالية: «Fruit flies like banana». التّرجمة الأولى ستكون: (الفاكهة تطير مثل الموز)، واضح أن هذا طريق مسدود، لقد فسّرت الكلمة الأولى على أنّها اسم، والثّانية فعل، والثّالثة حرف، ستعود حتما لتختار مسارا جديدا. التّرجمة الثّانية: (ذباب الفاكهة يحبّ الموز). هذا تفسير نحوي مختلف تماما، لقد جعلت الكلمة الأولى اسما جاريا مجرى الصّفة، والكلمة الثّانية اسما لا فعلا، والكلمة الثّالثة فعلا لا حرفا. ما تفسير هذا؟ لماذا تختار عقولنا المسار غير الصّحيح أوّلا في مثل هذه المسائل؟ 
ببساطة، لأنّ العقل مخلوق ذكيّ، فهو يقدّم لك الأشياء والأدوات التي تستعملها كثيرا، يجعلها قريبة منك ليَسهُل استدعاؤها، يضعها لك على مكتبك ولا يخزنها في مكتبتك، لتستخدم أقلّ طاقة فيما يتكرّر كثيرا وهو بالفعل الشّائع، فتوفّر بذلك طاقة عظيمة كانت ستهدر عبثا حتّى وإن خالفت القاعدة، ربّما يبدو أنّه مساعد كسول يختار المسار الأسهل، لكنّه مصمّم لكي يوفّر لنا أكبر قدر ممكن من الطّاقة، لنستعملها في أكبر عدد من المهام، لكنّنا عادة لا نستثمر الطّاقة التي يوفّرها. الكلمات والتّراكيب التي اخترناها في المسار غير الصّحيح هي الأكثر شيوعا واستخداما. يفَعل العقل منذ أن خلق ما يفعله محرّك البحث «جوجل» اليوم حين يقدّم لنا الشّائع أوّلا. هذا الغموض النّحوي يعلّمنا درسا مهمّا جدّا في عصر «الترندات» هو أنّ الشّائع ليس دوما هو المسار الصّحيح للخروج من المتاهة.
محاولة للفهم 
إفرض أنّه لديك سيارة وتمّ تكليفك بمهمّة تحتاج فيها أن تنتقل من نقطة معيّنة إلى نقطة أخرى في أقلّ وقت وبأقل تكلفة، مع ملاحظة أنّ وقود السّيارة باهظ الثّمن، وتريد بالطّبع أن تنفق أقلّ ما يمكن من الوقود في أقلّ وقت ممكن. سيارتك مصنوعة وفقًا لأحدث التّقنيات الفائقة، ويمكنها أن تتسارع أو تتباطأ بالسّرعة التي تريدها. ومع ذلك، فهي مصمّمة بطريقة تجعلها أسرع كلّما زاد استهلاكها للوقود، لكن علاوة على ذلك يتناسب استهلاك الوقود مع مربع السّرعة (لأنّ طاقة الحركة تتناسب مع مربّع السّرعة). وعلى الجانب الآخر، إذا كنت تقود بسرعة مضاعفة فإنّك تستهلك وقودًا أكثر بأربع مرّات في نفس الفترة الزّمنيّة. وبالإضافة إلى السّرعة كمتغيّر مهمّ في المسألة، يتأثّر استهلاك الوقود أيضًا بوزن السّيارة، ذاك عامل خفيّ أيضا، فكلّما كانت سيارتك أثقل، زاد استهلاكها للوقود. 
استهلاك سيارتك للوقود يساوي تمامًا الطّاقة الحركيّة للسّيارة (لأنّنا من الممكن أن نعتبر أنّ كلّ الطّريق على نفس البعد من مركز الأرض أي أنّ الطّاقة الكامنة والتي سنسمّيها بطاقة جهد الأرض لا تختلف من نقطة لأخرى كتقريب أوّلي). إذن كيف عليك أن تذهب إلى النّقطة المراد الوصول إليها في الوقت المحدّد وتستهلك أقلّ قدر ممكن من الوقود؟ 
ربّما تكون بحاجة إلى القيادة في خطّ مستقيم باعتبار أنّ أصغر مسافة بين نقطتين هي الخطّ المستقيم، ومع زيادة المسافة المقطوعة يزداد استهلاك الوقود. يمكنك أيضا اختيار تكتيكات مختلفة للوصول لهدفك، على سبيل المثال، يمكنك القيادة بسرعة كبيرة ومن ثمّ الوصول إلى النّقطة الهدف، ستكون قد ربحت من الوقت الكثير، لكنّك حتما ستكون قد خسرت كمّية كبيرة من الوقود. ربّما لن يكون إجمالي استهلاك الوقود بهذه الضّخامة. أو يمكنك القيادة بشكل متساو وبنفس السّرعة بحيث يمكنك الوصول بدقّة في لحظة من الزّمن دون التّسرّع. أو يكون جزء من المسار سريعًا وجزءًا أبطأ. ما هي أفضل وسيلة للذّهاب؟ 
اتضح أنّ الطّريقة المثلى والأكثر اقتصادا للقيادة في حالتنا هذه هي القيادة بسرعة ثابتة بحيث تكون هناك في الوقت المحدّد. أيّ خيار آخر سوف يستهلك المزيد من الوقود بشكل عام في مجال الجاذبيّة. يمكنك التّحقّق من ذلك بنفسك مع بعض الأمثلة والسّبب هو أنّ استهلاك الوقود يزيد بما يتناسب مع مربع السّرعة. لذلك فإنّه مع زيادة السّرعة يزداد استهلاك الوقود بشكل أكبر من تقصير وقت القيادة وبما أنّ السّيارة تستهلك الوقود في كلّ لحظة بما يتناسب مع طاقة حركتها، فإنّ الطّريقة الأكثر اقتصادا للانتقال من نقطة إلى أخرى في الوقت المحدّد بالضّبط هي القيادة بسرعة ثابتة في خطّ مستقيم، فقط مثل الجسم الذي يتحرّك في غياب «القوى»  التي تتحكّم في مساره.
إدخال البعد الثّالث إلى المسألة
 الآن دعونا نحسن من سيارتنا قليلاً، لنفترض أنّنا استبدلنا محرّكها بمحرّكات نفّاثة بحيث يمكنها الطّيران بحريّة في أي اتجاه. بشكل عام ظلّ التّصميم كما هو، لذلك ظلّ استهلاك الوقود مرّة أخرى متناسبًا تمامًا مع الطّاقة الحركيّة لسيارتنا الطّائرة. إذا تمّ تكليفك بمهمة الإقلاع من نقطة في وقت ما والوصول إلى نقطة أخرى في أقلّ وقت و بأقلّ تكلفة، فإنّ الطّريقة الأكثر اقتصاد ربّما  تكون كما في السّابق. بالطّبع ستطير بشكل موحّد وفي خط مستقيم بالتّرتيب للوصول إلى النّقطة في الوقت المحدّد بالضّبط. هذا يتوافق مرّة أخرى مع الحركة الحرّة للجسم في الفضاء ثلاثي الأبعاد، ومع ذلك إذا تمّ تثبيت جهاز غير عادي من أحدث طراز في الطّائرة، بحيث يمكّن الطّائرة من توليد الوقود من لا شيء حرفيًّا (سوى البعد عن نقطة أو بالأحرى مستوى معين) التّصميم  إذا هو أنّه كلّما ارتفعت السّيارة، زاد الوقود الذي ينتجه الجهاز في كلّ لحظة. 
يتناسب خروج الوقود طرديًّا مع الارتفاع الذي توجد عليه الطّائرة حاليًّا. وأيضًا كلّما كانت الطّائرة أثقل، زادت قوّة الجهاز المثبّت عليها وزادت كمّية الوقود التي تنتجها، ويتناسب النّاتج طرديًّا مع كتلة الطّائرة. أي أنّ استهلاك الوقود في كلّ لحظة من الزّمن يساوي طاقة الحركة مطروحًا منها طاقة الجهد (وسبب الطّرح لأنّ الجهاز المركّب ينتج الوقود ولا ينفق). 
الآن مهمتنا تصبح أكثر صعوبة وهي الحركة الأكثر اقتصادا للطّائرة بين النّقاط. الحركة المنتظمة المستقيمة ليست هي الأكثر فعاليّة في هذه الحالة. اتضح أنّه من الأفضل - الحصول على ارتفاع قليل، والبقاء هناك لفترة من الوقت بعد استهلاك المزيد من الوقود ثمّ النّزول إلى النّقطة الهدف مع مسار الرّحلة الصّحيح، سيتداخل إجمالي إنتاج الوقود بسبب الصّعود مع استهلاك الوقود الإضافي لزيادة طول المسار وزيادة السّرعة إذا قمت بالحساب بعناية، فإنّ الطّريقة الأكثر اقتصادا للطّائرة هي الطّيران في قطع مكافئ، بالضّبط على نفس المسار وبنفس السّرعة التي يطير بها الحجر في مجال الجاذبيّة الأرضيّة. 
بالطّبع يمكنك رمي حجر من نقطة بعدّة طرق مختلفة بحيث تصل إلى نقطة ما لكنّك تحتاج إلى رميها بحيث تصل، بعد أن تقلع من نقطة في كلّ مرّة إلى نقطة معيّنة في كلّ مرّة. ستكون هذه الحركة هي الأكثر اقتصادا  لطائرتنا.
إقتصاد الطّبيعة في الإنفاق
منذ زمن «جاليليو»، كان معروفًا أنّ الأجسام، التي لا تؤثّر في حركتها أيّ قوى، تتحرّك بسرعة منتظمة في خطوط مستقيمة، أي على أقصر طريق هندسي، وكذلك تنتشر أشعّة الضّوء على طول خطوط مستقيمة وعند الانعكاس يتحرّك الضّوء من نقطة إلى أخرى بأقصر طريق، حيث تكون زاوية السّقوط مساوية لزاوية الانعكاس. وفي عام 1744 قدم «بيير لويس موبيرتويس» مفهوم «الفعل» وصاغ المبدأ الذي بموجبه يختلف المسار الحقيقي للجسيم عن أيّ مسار آخر من حيث أنّ التّأثير بالنّسبة له ضئيل. ومع ذلك، لم يكن «موبرتيس» نفسه قادرا على تقديم تعريف واضح لما يساوي هذا الإجراء. وبعد ذلك تمّ تطوير صيغة رياضيّة صارمة لمبدأ الفعل الأقل من قبل علماء رياضيّات آخرين - «أويلر»، «لاجرانج»، وأخيراً قدّمها «ويليام هاملتون». 
توصّل «موبرتويس» إلى هذا المبدأ الجميل من الشّعور بأنّ كمال الكون يتطلّب اقتصادًا معينًا في الطّبيعة ويتعارض مع أيّ إنفاق غير مفيد للطّاقة. يجب أن تكون الحركة الطّبيعيّة بحيث يتمّ جعل مقدار معيّن في حده الأدنى، كان من الضّروري فقط العثور على قيمة هذا المقدار، فالطّبيعة مثلا تحرّك الأجسام دوما على المسار الذي يتطلّب القدر الأقل من صرف الطّاقة، لأن الطّبيعة مصمّمة على الإقتصاد في الإنفاق. 
ولا يمتنع حسب هذا القانون أن نجد الطّبيعة تصرف في لحظة ما طاقة أكثر من المطلوب (وهو ما نتسرّع في تسميته هدرا)، ولكن لو أمعنا النّظر في طبيعة الصّرف في تلك اللّحظة (لا لمقدار الصّرف نفسه)، لن نجد أي هدر في الصّرف، بمعنى أنّ الطّبيعة لا تمانع في زيادة الصّرف في لحظة معيّنة (بل هي في الواقع تحتّم ذلك أحيانا)، بشرط أن تكون هذه الزّيادة تسبّب بشكل أساسي في توفير أكثر في لحظات مستقبليّة. 
في القرن السّابع عشر، افترض «بيير دي فيرمات» أنّ «الضّوء ينتقل بين نقطتين معيّنتين على طول مسار أقصر وقت، وهو ما يُعرف بمبدأ أقلّ وقت أو مبدأ «فيرما»، لكن في حقيقة الأمر أكثر عمقا مما اعتقد «فيرما»، إنّ الطّبيعة لا تقتصد في الزّمن فقط بل تتعدّاه إلى ما وراء ذلك. فقد تمّت صياغة مبادئ أخرى، مثل مبدأ «جاوس» لأقلّ قدر من القيود ونتيجته الطّبيعيّة، مبدأ «هيرتز» لأقلّ انحناء. أي أنّ هذا المبدأ يفرض على أنّ الجسم المتحرّك اتباع المسار الذي يسمح له باستهلاك أقلّ طاقة ممكنة لحظيّا، مع الأخذ بالإعتبار أنّ الحركة يجب أن تكون متواصلة وبشكل سلس بين نقطتي البداية والنّهاية، وكأنّ الجسم لا يدرك سوى شروط الآنيّة فقط لمحيطه.
دالة «لاجرانج» ومبدأ «أقل فعل»
الآن يمكننا نقل هذا التّشبيه إلى أجسام مادّية حقيقيّة. وقد تمّت النّمذجة الرياضيّة لاستهلاك الوقود (والحالات المشابهة) للأجسام بدالة لاجرانج أو لاجرانجيان (تكريما للاجرانج) و يُشار إليها بحرف “L”  يوضح اللاجرانجيان مقدار «الوقود» الذي يستهلكه الجسم في وقت معين. بالنّسبة لجسم يتحرّك في مجال محافظ ما فإنّ اللاجرانجيان يساوي طاقة الحركة مطروحًا منها طاقة الوضع. «بحيث تناظر إجمالي كمّية الوقود المستهلكة طوال فترة الحركة قيمة اللاجرانجيان المتراكمة طوال فترة الحركة» وهو الفعل. صياغة مبدأ الفعل الأقل هو أن الجسم يتحرّك بطريقة بحيث يكون فيها الفعل (الذي يعتمد على مسار الحركة) ضئيلًا جدّا أي في حده الأدنى بشرط معرفة  الشّروط الأوليّة والنّهائيّة. رياضيّا يمثّل مبدأ أقل فعل بدالي “L”  (دالة متغيراتها مجموعة من الدوال بالنسبة للإحداثيات المعممة، والسرعات المعممة والزمن)
 
حيث ترتبط كل نسخة يمكن تصوّرها من الدالي برقم معين. وبالرغم من كون مبدأ أقل فعل هو حجر الأساس بل والقياسي للصيغ اللاجرانجية والهاميلتونية للميكانيكا الكلاسيكية، بل أغلب المعادلات الأساسية في الفيزياء يمكن استنتاجها من هذا المبدأ الشامل، مثل الكهرومغناطيسية والنسبية العامة. بل أنه يتجلي أيضا في ميكانيكا الكم.
مبدأ أقل فعل في نظريّة المجال الكمومي
تعطينا الميكانيكا الكلاسيكيّة مسارا وحيدا ممكنا للانتقال بين نقطتين، ناتج عن حلّ للمعادلة الكلاسيكيّة للحركة، في حين أنّه في ميكانيكا الـكمّ فإنّ كلّ المسارات تشارك في سعة الإنتقال حيث أن تكامل المسار لفاينمان ببساطة يقول أن سعة الإنتقال بين حالة البداية والنهاية هي الجمع على كل المسارات الرابطة بين النقطتين.  والسؤال الذي نريد فهمه هو كيف أنه من بين كلّ المسارات المساهمة في سعة الإنتقال، فقط المسار الكلاسيكي هو طور يتفرّد في النّهاية بالظّهور للعيان. رياضيّا يتّضح أنّ المساهمة المهيمنة في التّكامل على المسار أي في سعة الإنتقال سوف تنشأ من المسارات القريبة من المسار الذي يبلغ عنده معامل الطّور حده الأدنى، بمعنى آخر المسارات القريبة من المسار الكلاسيكي وبهذا يتفرد المسار الكلاسيكي في النّهاية الكلاسيكيّة لا لأنّه يساهم بأكبر مساهمة في سعة الإنتقال بل لأنّ المسارات القريبة منه تجمع مع بعضها بشكل مترابط بينما بقية المسارات تلغي مساهمات بعضها ليكون متوسّط مساهمتها معدوما(1),(2) 
الهوامش
(1) (R. Feynman, Quantum Mechanics, And Path Integrals, McGraw-Hill Companies (1965
(2) Feynman, Richard Phillips (1942)، «The Principle of Least Action in Quantum Mechanics»