حكم وأحكام

بقلم
الهادي بريك
الزّكاة وظيفة إجتماعية وليست عبادة عفوا من المعنى
 لن يسلك إمرؤ طريق العبادة المؤمّنة لسعادة الدّارين حتّى يمتلئ تعبّؤا أنّ الإسلام كلّه من أوّله إلى آخره هو دين معلّل مقصّد معقول مفهوم. وذلك على معنيين : المعنى الأوّل هو أنّ كلّ النّاس حياله ـ فهما وفقها وعلما وسلوكا ـ سواء. فلا يفضل هذا ذاك ولا تلك هذه إلاّ بفضل الوعي. وليس بفضل المرتبة الدّينية التي لا وجود لها أصلا في الإسلام. المعنى الثّاني هو أنّ هذا الدّين إنّما ضمن إشعاعه وتجدّده وردّة النّاس إليه ـ حتّى عندما يكون في أتون الحرب المشنونة عليه من كلّ صوب وحدب ـ بسبب ما حواه من معقولية في تعاليمه، ومعان في أوامره ونواهيه وحكم لقصصه. ومقاصد لقيمه. لا تندّ عن ذلك عقيدة قال فيها الله نفسه مريدا تعليلها: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾(1). ولا إماطة أذى عن طريق بما يبثّ قيم الجمال والزّينة من جهة أولى على تضاريس الطّبيعة ومحالّ إقاماتنا. وبما يجعل النّاس متكافلين متضامنين كأنّهم جسد واحد من جهة أخرى. فيمهّد بعضهم لبعض مسالك العبور عفوا من الأذى والمعوّقات. 
إختلاف مستويات التّعليل في هذه الشّريعة بين حقل من حقولها وحقل آخر لا يلغي تلك القاعدة العظمى أنّ الإسلام كلّه معقول مفهوم. لا يحتكر ولا يزاول بغير هدف ولا معنى. أرأيت كيف أنّ القلب والمخّ كلاهما يتكافل على حفظ الحياة، ولكن كلّ من موقعه وبمستوى ما أهّل له؟ إختلاف في المستوى فحسب، ولكنّهما يشتركان في حفظ الحياة. الإسلام كذلك بالتّمام والكمال : كلّه منوط بغاية في الحياة، ولكنّ العقيدة تسلك إلى تلك الغاية مسلكا غير الذي تسلكه العبادات، وهذه تسلك طريقا غير الذي تسلكه التّشريعات. وبذلك يضيف الإسلام إلى جلاله وكماله جمالا آخر هو : جمال التّنوّع إضافة إلى جمال المعنى المقصود. وصدق نبيّه ﷺ القائل : «من يرد الله به خيرا يفقّهه في الدّين»(2). وليس كفقه المقاصد وعلم العلل فقها. ولا كالوعي بالرّسالة العامّة وبرسالة كلّ مركّبات هذا الدّين وعيا يؤمّن لصاحبه سعادة نفسية وفكرية
وظيفتان للإنفاق : تزكية وتكافل
أصل الإنفاق هو المقصود. ولكن فرض منها وجوبا الزّكاة، سواء كانت زكاة مال أو زكاة رؤوس، أي زكاة فطر. وذلك ما عدا هو مفروض بسبب. سبب النّسبة، كإنفاق زوج على زوج، أو ولد على والد. لم يتردّد الوحي الكريم ـ وفي أمّه العليا أي القرآن الكريم ـ أن يذكر مقصدي الإنفاق. ذكر مقصد التّزكية النّفسية إذ قال فيها:﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾(3). كما ذكر المقصد الإجتماعيّ التّكافليّ الذي يؤمّن وحدة صفّ مرصوص كفيل بمقاومة الغزوات الخارجية وذلك في قوله ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ﴾(4). دون ذكر الوظائف الإقتصادية المباشرة ومنها التّداول الماليّ والبضائعيّ بما يؤهّل السّوق لحركة إقتصادية يفيد منها النّاس. إذ الإحتكار يفضي إلى التّضخّم الذي ينخر إقتصادات الأرض بسبب الجشع والشّره البهيميّ
زكاة المال ممّا أخرجت الأرض أوفى لمقصدها
من المعالجات السّيئة التي وقع فيها بعض الفقهاء تخصيص بعض عمومات القرآن الكريم. من ذلك أنّ القرآن الكريم دعا صراحة إلى الإنفاق ممّا أخرجت الأرض. جاء ذلك في مواضع منها قوله سبحانه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ﴾(5). ومواضع أخرى بمثل هذه الصّراحة. ومن المعالجات الأشدّ سوء من أتباع أولئك الفقهاء ـ سيما في مراحل الرّكود والتّقليد الأعمى والتّعصّب الفقهيّ المجنون ـ جهودهم على حالات زمنية حتّى بعد أن تغيّرت الأوضاع، من دون رعاية المقصد الذي هو ماض مطّرد. تنبّه إلى ذلك أوّل الفقهاء أبو حنيفة، إذ ترك عموم القرآن على عمومه ولم يجد في السنّة الصّحيحة ما يقضي بتخصيصه. ولو عاش الإمام مالك معنا اليوم لعدل عن رأيه في تخصيص زكاة المال بما هو مدّخر مقتات، وذلك لما يرى ممّا تخرج الأرض لنا ممّا هو ليس مدّخرا أو هو ليس مقتاتا ولكنّ حاجة النّاس إليه ماسّة. من ذلك الجلبّان والحمص، وما شابه ذلك من البقول. ومن ذلك ما تأكله الأنعام التي هي وسائل فلاحة ونقل وثروة. 
إنحصرت الزّكاة اليوم ـ أو تكاد ـ في الشّعير والقمح والزّيتون. هل هذه تنتمي إلى الموادّ الثّمانية التي ذكرها الحديث الصّحيح أنّها مكوّنات رئيسة في تأمين العيش، وبذلك شدّد التّعاوض فيها سدّا لربا الفضل؟ بعضها ينتمي وبعضها لا. وما كان في تلك الأيّام مؤمّنا للحياة لم يعد كذلك بسبب تغيّر الحياة. أو جاءت أغذية أخرى تخرجها الأرض هي كذلك، وهي أكثر تداولا في التّعاوض الغذائيّ. 
فقه الأحكم هو الدّوران مع العلّة، وليس التّقليد الأعمى لأيّ فقيه أو إجتهاد. لو رأى صاحبه الذي رأينا لعدل عن موقفه. الشّريعة مقدّمة على الفقه، والتّجديد في الدّين فريضة على الفقهاء الوعاة. أمّا التّقليد الأعمى فمن لا يحسنه؟ الذي تخرج له أرضه اليوم أنصبة وأنصبة من الجوز الذي إرتفع ثمنه أليس أولى بزكاته؟ أليس هو مدّخر مقتات حتّى لو لم يكن في زمن الإمام مالك غذاء رئيسا؟ ومثله (البنان) وغيرهما كثير لا يحصى، بحسب إختلاف الإقتصادات العائليّة في دار الإسلام. 
المالكيّة الذين إعتبروا المدّخر المقتات لم يكرّهوا غيرها ولم يحرّموه. ولكن رأوا أنّ إيجاب ما هو للنّاس أولى غذاء ـ سيما ممّا يدّخر تحوّطا لسنوات عجاف ـ أضمن لحياتهم. إنّه لمن سوء التّعصّب للمدرسة المالكيّة بصفة خاصّة أن يضيّق في مخارج الزّكاة فيها. وهي المدرسة التي بزّت كلّ إجتهاد، إذ أخذت بكلّ توسّع بالإستصلاح. 
أيّ إستصلاح ـ وهو من أكبر أصول تلك المدرسة العظمى ـ عند متأخّرة المالكيّة المتعصّبين ـ أو الجهلة بأجهزة الشّريعة وأنساقها ـ وهم يحرمون فئات كثيفة محرومة لا حقّ لها فيما تخرج الأرض ممّا هو مدّخر مقتات، ولكنّ ذنبه أنّه لم يكن في أيّام الإمام مالك. أهذه مصلحة؟ بل هي مفسدة دون ريب. وأيّ مصلحة عندما لا نعتبر الزّكاة فيما تأكله الأنعام التي هي آلات رئيسة في الإنتاج الفلاحيّ بل في البنية التّحتية في كثير من بلاد الأرض. من قصرت دابّته أليست قصرت تجارته وقصر إنتاجه؟
زكاة الفطر وشغب الوهابية الميتة
تعلن الحرب بيننا في كلّ رمضان جديد إثارة لخلاف غير معتبر بالمرّة حول إخراج زكاة الفطر، هل يكون من عينها أو من قيمتها. ومن سوء حظّنا أنّ الموسم الرّحمانيّ الكريم الذي جادت به علينا الشّريعة لنكون أقرب إلى اللّه وإلى بعضنا بعضا تكافلا هو الذي يكون سوقا حامية لتلك الحرب. 
ليس عندي أيّ ريب أنّ البلاد الخليجية التي تبنّت التّيار الوهّابيّ وجعلت منه مذهبا فقهيّا ـ وما هو كذلك قطعا ـ إنّما هي تعاند منافسة غير مشروعة مؤسّسة الأزهر الشّريف. الخلاف أصله الحقّ سياسيّ بإمتياز شديد، ولكن تدثّر ـ كعادة السّاسة المفسدين في الأرض ـ بالأردية الدّينيّة، لتنطلي الحيلة على المغفّلين، وما أكثرهم فينا. 
هل يمكن لنا أن نخطّئ اليوم معاذا إبن جبل ـ ذلك الصّاحب الذي قلّده ﷺ خير قلادة، فقال إنّه أعلمكم بالحلال والحرام ـ وهو يأخذ من أهل اليمن ألبسة قيمة عن الزّكاة. وليس عينها؟ لم فعل ذلك؟ لأنّه قدّر أنّ النّاس في تلك الأيّام بحاجة إلى ملابس أكثر من حاجتهم إلى مآكل ومشارب. دار إجتهاده وفق مصلحة النّاس. ولمَ أقره ﷺ؟ مجاملة؟ ما أقره إلاّ أنّه أصاب عين الحكمة في تدوير الحكم منوطا بعلّته. 
ما هي علّة زكاة الفطر؟ ذكرها الوحي نفسه سنّة إذ قال إنّها تجلب السّرور إلى المحتاجين في يوم عيد يلتقي فيه النّاس كلّهم لأجل إشاعة الفرحة أنّهم أكملوا العدّة وأطاعوا ربّهم. فلا يليق بهم عدا وضع قريب إلى التّساوي. وعندما يخرج أحدنا اليوم زكاة فطر عينا ـ أي دقيقا أو شعيرا أو زيتا أو قمحا أو أيّ شيء مأكول بدعوى أنّه ينفّد السنّة لتقع في يد من لا يأكل ذلك إمّا عيفة أو بأمر طبّيّ أو لا يجد من يطهوه ـ فهل يظنّ أنّه عبد ربّه بزكاة فطره؟ أبدا. هو عصاه عصيانا باطنيّا شنيعا. إذ أوقع زكاته في يد من لا يحتاج إليها لأيّ سبب كان. أليس من الأولى والمصلحة التي بنيت عليها الشّريعة كلّها أن تخرج زكاتك ـ حتّى زكاة المال وليس زكاة الفطر فحسب ـ نقدا ومثلا نقديّا وقيمة نقديّة حتّى توسّع على المزكّى عليه فيختار ما يفعل بتلك الزّكاة. هب أنّه مريض. أو له في البيت مريض ويحتاج دواء؟ هل يأكل شعيرك ليزداد مرضا على مرض؟ هل تكلّفه بمصيبة أخرى فيذهب إلى السّوق ليبيع شعيرك وبثمنه يشتري دواء أو ما يريد أن يأكل أو يلبس في يوم عيد؟ أيّ فقه هذا وأيّ تديّن هذا؟ 
ولكن أقول بكلّ أسى وأسف : نجحت هذه الوهّابية الماكرة في جعل الحيلة تنطلي على أكثرنا وشوّهت تديّن ملايين مملينة بما أوتيت من أجهزة بثّ وأموال ودعاة فاسدين مفسدين. ولكن بما صمت أهل الفقه الحقّ ولا يشفع لهم أنّهم سجنوا أو نفوا من الأرض أو حيل بينهم وبين النّاس في زمن يتنفّس فيه النّاس رياح ثورة التّواصل التي غزت كلّ بيت، بل كّل بيت نوم، ومطبخ.
الهوامش
(1) سورة المؤمنون - الآية 115
(2) رواه البخاري (71) ، ومسلم (1037) عن مُعَاوِيَةَ بن أبي سفيان
(3) سورة التوبة - الآية 103
(4) سورة الحشر - الآية 7
(5) سورة البقرة - الآية 267