مرايا

بقلم
د.عزالدين عناية
الأديان الإبراهيمية قضايا الراهن
 ضمن ما يشغل عالم الأديان التّونسي عزالدين عناية، المدرّس بجامعة روما (إيطاليا)، صدر له كتاب جديد بعنوان: «الأديان الإبراهيميّة.. قضايا الرّاهن»(1)، وهو كتاب يعيد النّظر في مفهوم الأديان الثّلاثة، اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام، في ظلّ تحدّيات العالم الرّاهن. إذ يعيش التّراث الإبراهيمي أزمة بين الورثة، وتتوه الدّعوة الإبراهيميّة في وعثاء السّياسة، وليس من الهين لمّ شمل الورثة، وهو ما يضعنا أمام سؤال ما الذي تبقّى من الإبراهيميّة الحنيفيّة؟ إذ لم يتسنّ للأديان الإبراهيميّة، حتّى عصرنا الرّاهن، رسم خطّة مشتركة في التّعايش والاحتضان بين بعضها البعض. خطّة تتواضع بمقتضاها على حضور أتباع الدّين الآخر بين ظهرانيها، دون أن يلحقهم أذى أو ترهقهم ذلّة. وإن كانت حصلت معالجات منفردة لهذه المسألة، اختلفت تفاصيلها من دين إلى آخر، دون بلوغ أسس جامعة. فمن الأديان الثلاثة من يملك تشريعات في الشّأن، غير أنّها تقادمت، أو هُجرت، أو داهمتها التّبدلات الاجتماعيّة الهائلة، دون أن يتعهّدها أهلها بالتّهذيب والتّنقيح، على غرار مؤسّسة أهل الذّمة، أو مفهوم أهل الكتاب في الإسلام؛
ومن تلك الأديان ما لا يزال في طور تخليق منظومة لاستيعاب الآخر، لم يحصل في شأنها إجماع داخل المواقع النّافذة في المؤسّسة الدّينيّة، على غرار «لاهوت الأديان» في المسيحيّة.
ذلك أنّ مفهوم الأديان الإبراهيميّة حمّال أوجُه، كلّ له دلالته وكلّ له تأويله؛ وما نشهده من إيلاف في الرّاهن داخل المجتمعات، يأتي بفعل الإطار التّشريعي للدّولة المدنيّة الحديثة لا بموجب تحريض تلك الأديان، رغم ما يلوح جليّا من قواسم مشتركة، ومن تقارب عقائدي بين اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام. وبالتّالي يظلّ التّحدّي الذي يواجه الجميع، وهو كيف تعيش تلك الأديان شراكة الأوطان؟ وكيف تغدو حاضنة لبعضها البعض ولا تكون طاردة؟ إذْ ما برحت اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام دون مفهوم «أهل الكتاب» الضّامن للعيش المشترك، ودون مفهوم «الأديان الإبراهيميّة» الجامع للتّنوع المفترق، وينطبق عليها مفهوم «الأديان الثّلاثة» المتجاورة والمتباعدة في الآن نفسه.
لا يرنو هذا المؤلَّف إلى صياغة مفاضَلة بين تلك الدّيانات، على غرار، أيّها أرحب صدرا في احتضان الآخر؟ ولا ينظر إلى المسألة ضمن معادلة «نحن النّعيم والآخرون هم الجحيم!»، فالحدود بين الأنا والآخر باتت متحوّلة متداخلة. إنّ المفاضلة في عصرنا أمست منهجا متقادما فاقد الصّلاحيّة، وأنّ كلّ عمليّة احتضان، مفاهيمي أو مؤسّساتي، هي وليدة جدل اجتماعي مركّب.
وقد شئتُ أن تكون فصول هذا المؤلّف دانية من المعيش اليومي، ومُتابِعة للواقع الرّاهن بين أتباع الأديان الثّلاثة، في هواجسهم وفي تعايشهم، في تآلفهم وفي تنافرهم، داخل الوطن الواحد وفي ظلّ الحضارة الواحدة؛ لذلك تشغل محاور هذا الكتاب أوضاع ذلك الآخر، الذي يمثّله دين القلّة، وبالمثل تمثّله الذّات، حين تتبدّل المواقع وتتغيّر الحواضن، فتغدو الذّات -ضمن انزلاق دلالي- هي الآخر. 
يأتي هذا الكتاب تأمّلا في أوضاع الأديان في الرّاهن، وإن أمْلت الضّرورة العودة إلى الأصول، أو إلى سالف التّجارب، لفهم مجريات الواقع المستنفر، فأحيانا تكون أُطر استيعاب الآخر المؤسّساتيّة أو المفاهيميّة مضلّلة، لا تفصح عمّا يتخلّلها من تناقضات، ولا يتسنّى رصد مظاهر الدّونيّة والحيف من خلالها، فتضيع مكابدات العيش المشترك في طياتها.
وليس غرض هذا العمل أن يكون دعوة أخلاقيّة، يحضّ على فضائل تعايش الأديان والحوار بينها -وإن كان صاحبه يجلّ ذلك الدّور-، ولكنّه حديث عن الأديان حين تنزل معترك الاجتماع، وحين يتحكّم بعضها بمصائر بعض. لذلك ينأى المؤلَّف عن المطارحات الشّائعة في حوارات المجاملة، التي طالما تتناول المنشود وتغفل عمّا هو موجود، ليقف على نقيض تلك المقاربة، واضعا القارئ أمام واقع التّدافع الدّيني، بشكليه، المحمود والمذموم.
إنّ الأديان الثّلاثة تبدو مقبلة على مواسم تفوق قدراتها الهرمنوطيقيّة التّقليديّة، ما عادت المدونات الفقهيّة واللاّهوتيّة الكلاسيكيّة كفيلة بحلّها. كما أنّ هناك قضايا تواجه تلك الأديان تتخطّى إمكانيّات دين بعينه، وتتطلّب تضافر الجهود، مثل إشكاليّات البيئة والمناخ والفاقة والأمّية، وغيرها من المشاكل العويصة. فالعالم اليوم يتغيّر من تحت أقدام الأديان الثّلاثة -إن صحّ التّعبير- بوتيرة متسارعة، غالبا ما توفّق التّشريعات المدنيّة في التّأقلم معها، وتتعثّر الدّيانات الإبراهيميّة عن مواكبتها، في وقت يُفترض فيه أن تكون الأقدر والأجدر لما بينها من رؤى أنطولوجيّة جامعة.
كان علماء الاجتماع الدّيني الأمريكان، أمثال «رودناي ستارك» و«لورانس إياناكوني» و«روبار توليسون»، من أوائل الذين نبّهوا إلى أنّ الفضاء الدّيني الغربي، أو كما يطلقون عليه «السّوق الدّينيّة»، محكوم بالاحتكار من طرف متعهّد قويّ يمسك بمقدّرات الفضاء، يضيّق على غيره الحضور، ويحدّد مقاييس الحضور وفق مراده. 
ومن المفارقات الكبرى في عصرنا، أنّ الدّين المستضعَف المهاجر، بات يستجير بالعلمانيّة وبالدّولة المدنيّة طلبا للمقام الآمن، ولا يجد ذلك المأمن وتلك النُّصرة عند رفيقه في رحلة الإيمان، وهو حال الإسلام الأوروبي. فهو ليس في استضافة الكاثوليكيّة «التّقليديّة» ولا البروتستانتيّة «التّقدّميّة»، ولكنّه في كنف العلمانيّة. فقد وفّقت المجتمعات الحديثة في ما خابت فيه الأديان الثّلاثة، من حيث إتاحة فرص الحضور للآخر. في وقت يُفترض فيه أن يكون المؤمن «الإبراهيمي»، بين أهله وملّته، حين يكون في الحاضنة الحضاريّة لدين من الأديان الثّلاثة، لكنّه في الحقيقة لا يجد تلك السّكينة، وغالبا ما يلقى حرجا، ويأخذ صورة الخصم والمنازع والمهدّد القادم من وراء البحار، ولذلك أمام دعاة الحوار اليهودي المسيحي الإسلامي، ثمّة ضرورة ملحة لطرح سؤال: «هل هناك فعلا أمّة إبراهيميّة أو تراث إبراهيمي جامع؟»