في الصميم
بقلم |
د.عثمان مصباح |
القصص القرآني من منظور جديد (16) دعوة لوط عليه السلام |
كان لوط -كما قرّرنا سابقا- المؤمن الوحيد في قوم إبراهيم، ورفيقَه الأوحد في الهجرة إلى الأرض المباركة، وهاتان حقيقتان لا ينبغي لمن يؤمن بالقرآن أن يشكّ فيهما وإن تمالأ أهل الأرض جميعا على الخلاف، ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾(1).
وفي الأرض المباركة سيؤسّس المهاجران العظيمان حياة جديدة، بلغ من نجاحهما فيها أن صار أهل الأرض يعتبرونهما جزءا لا يتجزأ من اللّحمة القوميّة، فتحقّق بذلك الشّرط الاجتماعي للنّبوة، وحسبك شاهدا على ذلك قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ﴾(2)، فقد صار القومُ قومَ لوط، وصاروا يعتبرونه أخا لهم، وتبوّأ فيهم منزلة أهّلته لأن يكون نذيرهم المبين، وناصحهم الأمين. فأنّى بمثل هذا لرجل كان منبوذا في قومه السّابقين؟ وما هي أهمّ وقائع نبوّته؟
على أعتاب عصر جديد
كانت هجرةُ إبراهيمَ ولوطٍ إلى غرب الجزيرة العربيّة بمثابة قفزة من عصر عتيق إلى عصر تبدّلت فيه شروط الاجتماع، وسبب ذلك ظهور طريق التّجارة الذي ربط بين أطراف العالم القديم، فنشأت على هذا الطّريق قرى ومحطّات تتّسم بشيء من الانفتاح والتّسامح، لتوارد النّاس عليها من مختلف الشّعوب والأديان، وكان قوم لوط مقيمين على هذا الطّريق، فلمّا ورد عليهم لوط لم يجد صعوبة في الاندماج الاجتماعي، بل تقبّلوه قبولا حسنا، وزوّجوه من الأشراف بسبب الذّكر الجميل الذي كان له ولأبيه إبراهيم.
وقد أشار القرآن إلى صلة قوم لوط بطريق التّجارة إشارة واضحة في قوله عن قراهم: ﴿وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ﴾(3)، أي أنّ هذا الجزء من الطّريق كان زمن نزول القرآن لا يزال مستعملا ضمن حركة التّجارة، وأكّد ذلك بعد أن ألحق بهم أصحاب الأيكة فقال: ﴿وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ﴾(4)والإمام المبين هو طريق التّجارة الذي كان لشهرته لا يحتاج إلى بحث وتنقيب، إذ كانت القوافل تسلكه، فتمرّ بهذه القرى الهالكة دون انقطاع إلى زمن محمد ﷺ، وهو الطّريق نفسه الذي استعملته قريش في تجارتها، ولهذا خاطب اللّه قريشا بعد أن ذكّرهم بقوم لوط: ﴿وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ، أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾(5).
عرف هذا الطّريق عند المؤرّخين بطريق البخور لارتباطه بأغلى سلعة في تلك العصور، وعلى رأسها اللُّبان، حتّى قيل إنّها كانت بمثابة النّفط في هذا العصر، وكان يستخدم في المعابد، والاحتفالات، والطبّ، والتّجميل، ومع اللّبان كانت تأتي باقي الطّيوب التي تنبت في الجبال المباركة، المُصعِدةِ من مكّة إلى أن تطلّ جنوبا على بحر العرب، حيث الموانئ المشهورة بتوريد توابل الهند، والأحجار الكريمة، والمنسوجات الفاخرة، وعلى رأسها الحرير.
وحين استقر إبراهيم في مستقره الجديد صيّره معلمة من معالم هذا الطّريق، إذ جعله أشهر محطّة لاستراحة التّجار والمسافرين، فقد وفر لهم نزلا مجانيّا في غاية السّخاء، ولم يكن إبراهيم قبل ذلك شخصيّة مغمورة، فأخباره البطوليّة التي كانت له في قومه سبقته إلى مهجره، ثم حملت الرّكبان مناقبَه وحكمتَه إلى أطراف المعمورة، فتقاطر عليه المعجبون من شتّى الأصقاع، فكان بذلك قيمة مضافة لطريق التّجارة، وأوّل من استفاد منها أولياؤه الجدد الذين احتضنوه، والذين احتضنوا ذرّيته وصاهروه، ومنهم قوم لوط.
قوم لوط بين مرحلتين
قد يسأل سائل: كيف لنبيّ أن يتزوّج من قوم اشتهروا بفاحشة لم تسبقهم إليها أمّة من الأمم؟ وهل يعقل أن يصاهر خليل اللّه من خلال ابنه البارّ مثل هؤلاء الفجّار؟
الجواب أنّ تلك الفاحشة لم تكن قد ظهرت فيهم إلاّ بعد أن ساكنهم لوط مدّة طويلة، وأهمّ سبب لظهورها تراكم الأموال بسبب الرّسوم التي فرضوها على القوافل مقابل المرور الآمن ببلادهم، وهكذا تعاظمت ثرواتهم بكُلفة صِفْريّة، وزهدوا في مكاسب الأعمال الموروثة عن آبائهم، وتفرّغوا للملاذ، فاستولت عليهم عوائد التّرف.
وأهم ّما يميّز المترفين هو ابتغاؤهم المتع الخالصة، وكأنّهم يبحثون عن اللّذة الفردوسيّة، وهي لذّة وهميّة يستحيل تحقّقها في الدّنيا إلاّ على وجه أبتر لا يفيد تنمية، لأنّها تعادي الكمالات الإنسانيّة، والواجبات الاجتماعيّة، ومع الإشباع المفرط للشّهوات تتولّد الميول الشّاذة، ومن أكثر تلك الميول تطرّفا ما يعرف اليوم بالمثليّة الجنسيّة.
والمترفون إذا كانوا مجرّد طبقة فإنّ مسالكهم الشاذة تتوارى عن الأنظار، ولا تكاد تتعدّاهم إلى المستضعفين، فتكون الأمّة عبارة عن مجتمعين تحت سقف واحد، مجتمع نخبوي طفيلي ملتصق بجسم مجتمع كادح كما يلتصق القُراد الخبيث بأقفية الكلاب الضّالة، أمّا إذا شاع التّرف في الأمّة كلّها - كما كان شأن قوم لوط - فإنّها تدخل بجملتها في حالة استثناء نادرة تجعلها عبئا على البشريّة.
حقيقة الآفات التي استنكرها لوط على قومه
قال تعالى: ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ، إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ! بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾(6)
من الأوهام التي شاعت في هذه القصّة أن إتيان الذّكور لم يكن قبل قوم لوط، وهذا الاستنتاج ليس بلازم، ويمكن لمتدبّر النّصوص الواردة في الموضوع أن يلاحظ كيف وقعت مؤاخذة القوم كلّهم، ولا يصحّ مؤاخذة المجتمع بأكمله إلاّ إذا تواطأ أفراده على المنكر، أمّا إذا بقي حالة فرديّة، يأتيها من يأتيها في الخفاء، فلا معنى لهذه المخاصمة العامّة، ثمّ إنّ المؤاخذة وقعت على فاحشة مركّبة تركيبا يرتكز على إتيان الرّجال.
من هنا نفهم أنّ السّبق المقصود هو سبق قوم لوط إلى استحلال المثليّة الذكوريّة، والتّفاخر بها، والتّنافس فيها حتّى إنّهم أتوها جهارا في أنديتهم، وحتّى حملهم الإسراف فيها على قطع السّبيل لاغتصاب الذُّكران من العالمين، وتأمل قول أخيهم لوط: ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ، وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ، وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ﴾(7) وقد بلغوا منتهى الإسراف حين عاب بعضهم على بعض إتيان النّساء، حتّى تركوا الحليلات والخليلات، وهذا ما أشار إليه لوط في قوله: ﴿أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ؟ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ؟! بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ﴾(8)، ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ؟! بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾(9).
وبهذا انقطع قوم لوط عن عمارة الأرض انقطاعا جذريّا، وأسّسوا لمثال لا نظير له من إفساد الاجتماع البشري، ترددت أصداؤه عن طريق التّجار بين الأمم مع أصداء الدّعوة الإبراهيميّة، فتسامع النّاس أعجب خبرٍ في التّاريخ، مثالٌ رباني ومثالٌ شيطاني يعيشان جنبا إلى جنب، فصاروا يترقّبون لمن تكون الغلبة.
خصائص دعوة لوط
كان لوط عليه السّلام شاهدا على طفرة اجتماعيّة هائلة، اتجهت بقومه نحو الشّذوذ في بناء العلاقات، لهذا لم تشبه دعوته دعوة من كان قبله من الرّسل، والذي يدلّ على ذلك من القرآن الكريم:
أولا- أنّ اللّه لم يحْكِ عن لوط دعوةً إلى ترْك الأنداد، مع أنّ الأمم كانت مولعة يومئذ باتخاذ الأصنام آلهة، فلا شكّ أنّ القوم قد ورثوا عن آبائهم معبودات، لكنّهم تخلّوا عن هذا الميراث الوثني، فلهذا أيضا لم نجدهم يحتجّون على لوط بآبائهم، وفي هذا خروج على سنّة اطردت في كلّ الأمم الهالكة لقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ، وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾(10)
ثانيا- علّة ذلك اعتمادا على الآية نفسها ما ذكرناه سابقا من عموم التّرف في قوم لوط، فلم تبق حاجة إلى اتخاذ الأصنام، لأنّ الصّنميّة صناعة المترفين لحرمان المستضعفين من حقّهم في الشّراكة التي تقتضيها قاعدة الاستخلاف في الأرض، وهي النّعمة التي اختص اللّه بها الإنسان، والسّبيل الذي كانت تصدّ عنه النّخبة المترفة: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ، وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ، قُلْ: تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ﴾(11)
ثالثا- وقد زاد القومَ جرأةً على نبذ أصنامهم عاملان اثنان، أوّلهما أنّهم كانوا منتشرين في ممرّ استراتيجي لا بديل عنه بالنّسبة للقوافل التّجاريّة، ممّا جعلهم مطمئنين لاستمرار تدفّق الأموال حتّى بعدما ساءت أخلاقهم.
رابعا- العامل الثّاني هو أثر الدّعوة الإبراهيميّة، والذي يشهد لهذا الأثر فيهم مقام إبراهيم بجوارهم، والمصاهرة التي وقعت عن طريق لوط، هذا مع أنّ المبدأ الحنيفي الذي تمسّك به إبراهيم بعد الهجرة هو اعتزال المجتمعات الوثنيّة، وهذا ما صرح به في آخر دعوته القوميّة: ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي، عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا﴾(12) وأهم هدف لهجرته عليه السّلام هو البحث عن بيئة تربويّة بريئة من لوثة الشّرك، ولهذا دعا ربّه قائلا: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾(13)
هذا في نظري ما جعل نبوّة لوط لا تشبه غيرها من النّبوّات القوميّة التي استهدفت الدّعوة إلى عبادة اللّه وحده وترك ما سواه من الأنداد.
وقائع اليوم الأخير من أيّام قوم لوط
كانت اللّحظات الأخيرة في قصّة قوم لوط شاهدا على تطرّفهم في العدوان الذي لا يستحي من رقيب، ولا يرعى ذمّة قريب، ولا يبالي بحرمة غريب، وحسبك من ذلك قول لوط: ﴿هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾(14)، وقد اقتضت حكمة اللّه - تمحيصا للمؤمنين ومحقا للكافرين - أن يرسل ملائكة في صورة رجال مسافرين يلتمسون ضيافة لوط، وهكذا بدأت تتوالى الأحداث في اتجاه الكارثة.
وقف الغرباء بباب لوط على حين غفلة من أهل المدينة، وهذا ما يستفاد منه أنّهم جاؤوه ليلا، فوقع لوط في كَرْب شديد، لأنّ أخلاقه تأبى عليه أن يردّهم، ولكنّه لا يستطيع حمايتهم من عدوان قومه، إلّا أنّ زوجته لم ترحم كُربتَه، فأفشت في قومها سرّ الضّيوف المثيرين، وهذا معنى الخيانة التي نسبها اللّه إليها في قوله: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا، فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ﴾(15)
﴿وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ - وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ - قَالَ: يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي، أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ؟!﴾(16)
ومن عجائب المفسرين في هذا المقام زعمهم أنّ لوطا عرض عليهم الزّواج ببناته، ولا معنى لذلك، لأنّ أهل المدينة كانوا في حالة هيجان جنسي، وكانوا كلّهم يريدون مباشرة المتعة المحرّمة، والحكاية تقصد بيان مبلغ هوان لوط على قومه، بحيث لم يبق له خيار إلاّ فداء ضيفه ببناته، وأمّا قوله: (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) فهو من باب: (بعضُ الشّرّ أهون من بعض)، ولا شكّ أنّ فاحشة إتيان النّساء أطهر من فاحشة إتيان الذّكور، فالطُّهر هنا نسبي لا مطلق، كما يقول أهل الجرح والتّعديل في الرّاوي الضّعيف: (هو أوثق من فلان)، ولا يقصدون أنّه ثقة، ويؤكّد ما قلناه في تفسير مقصد لوط قولُه تعالى في موضع آخر: ﴿وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ، قَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ، قَالُوا: أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ! لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾(17) فها هو يقول لهم وهم في سكرتهم: إن كنتم لا بدّ فاعلين للفاحشة، فهؤلاء بناتي!
فلوط كان بصدد دفع صائل أقبل كعاصفة هوجاء، لا يرده عن فجوره إلاّ أن تغريه بفجور آخر، فهذا ما أوقعه في اليأس، وألجأه عليه السّلام إلى محاولة دَرء الضّرر الأعظم وتحمّل الأخف، وكأنّه وهو يعرض بناته على أخوالهم كان يطمع في بقيّة من نخوة، لكن هيهات! ﴿قَالُوا: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ، وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ﴾(18) والحرمة التي زعموا في بناته، وذكّروه بأنّه يعلمها إنّما نشأت من عرفٍ فاجر حدث فيهم مع التّرف، وكان عليه السّلام يستنكره عليهم، ألا وهو استباحة الاستمتاع بالرّجال وتحريم النّساء.
وهاهنا شعر لوط بالخذلان، ورأى نفسه - وقد حاصر القومُ بيتَه، وهمّوا بالاقتحام - كأنّه ألقي به في هاوية مظلمة لا قرار لها، ﴿قَالَ: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ! قَالُوا: يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ، فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ، إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ، إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ، أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ﴾(19). وهكذا انقلب اليأس إلى أمل واثق، وبدأ العدّ التّنازلي لإعلان النّهاية، إذ وقع عذاب القوم الظّالمين على مراحل:
فكان أول ذلك أن طمس اللّه أعينهم وقت السّحر، وبذا انكسر الحصار المضروب على بيت لوط، فتمكّن أن يخرج بأهله إلى مكان عَيّنته له الملائكة خارج دائرة العذاب.
ومع طلوع الشّمس كان لوط لا يزال في الطّريق إلى المحل المعلوم، ولهذا أوصته الملائكة بعدم الالتفات، لأنّ مشهد العذاب سيكون فوق طاقة البشر: ﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ، وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ، وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ﴾(20).
ومع الشّروق أخذت القومَ صيحة واحدة ما لها من فَواق، فإذا هم خامدون، ثمّ جُعلت عالي قُراهم سافلَها، ثمّ أُمطروا بحجارة من سجّيل أعدّت لهم إعدادا، فصار معظمهم في باطن الأرض، وبقيت من الهالكين بقيّة ظاهرة كانوا في النّواحي، وهم المشار إليهم بالغابرين، وامرأة لوط كانت منهم، لأنّها خرجت مع زوجها لكنّها هلكت في الطّريق: ﴿وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ، ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ﴾(21)، ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا، وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ، وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾(22) ﴿وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾(23)، وهم صنفان: علماء يتوسّمون باستنطاق الآثار، ومؤمنون يصدّقون ما في كتاب اللّه من الأخبار: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ، وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ﴾(24)
المثليّة الجنسيّة بين العقاب الإلهي والتّشريع الاجتماعي
ذكرنا أعلاه أنّ الذي سبق إليه قم لوط هو التّواطؤ الاجتماعي على استحلال إتيان الرّجال وترك النّساء، والإكراه على ذلك، والذين قاسوا عقوبة الشّذوذ الجنسي على ما فعل اللّه بقوم لوط فقدروا فيه الرّجم وقعوا في غفلة عن الفوارق الكبيرة بين المقيس والمقاس عليه، وعلى رأسها الفرق بين حال الأمّة المتمالئة على الفاحشة، ولا يكون لجهة في الأرض سلطان عليها، وبين الأفراد الذين تعتبرهم الأمّة منحرفين، وتملك سلطة تقويمهم.
والغريب أنّ القرآن قد أرشد إلى تدابير لوقاية المجتمع من إشاعة هذه الفاحشة، ممّا يدل على أنّها كانت تقع في المجتمع المدني زمن النّبي ﷺ، فقد قال سبحانه: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ، فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا، فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا، إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾(25)فالآيتان تشيران إلى الفاحشة التي يأتيها الإناث فيما بينهن، أو الذّكور فيما بينهم، وأرشد اللّه إلى أنواع من المعالجات في حالة المجاهرة، ولم يذكر منها عقوبة الرّجم، أضف إلى ذلك أنّ قوم لوط إنّما أهلكتهم الصّيحة، فأمّا الرّجم فكان المقصود منه الإطباق على موطنهم في باطن الأرض.
خاتمة
قصّة قوم لوط كانت من إرهاصات المرحلة الثّالثة من سيرة إبراهيم، لهذا وقعت مشتبكة معها، فرسل العذاب هم أنفسهم الذين بشّروا إبراهيم بإسحاق ويعقوب جزاء له على بلائه الحسن في قصّة الذّبيح، وهؤلاء الثّلاثة سيفتتحون عهدا جديدا من النّبوّة تحت رعاية إمام الحنفاء إبراهيم الخليل، لذا كان تطهير طريق البخور من أثر أولئك المجرمين من ضرورات نجاح الدّعوة الإبراهيميّة العابرة للقوميّات.
الهوامش
(1) سورة النساء، الآية 87
(2) سورة الشعراء، الآيتان 160 و161
(3) سورة الحجر، الآية 76
(4) سورة الحجر، الآية 79
(5) سورة الصافات، الآيتان 137 و138
(6) سورة الأعراف، الآيتان 80 و81
(7) سورة العنكبوت، الآية 29
(8) سورة الشعراء، الآيتان 165 و166
(9) سورة النمل، الآية 55
(10) سورة الزخرف، الآية 23
(11) سورة إبراهيم، من الآية 28 إلى الآية 30
(12) سورة مريم، الآية 48
(13) سورة إبراهيم، الآيتان 35 و36
(14) سورة هود، الآية 77
(15) سورة التحريم، الآية 10
(16) سورة هود، الآية 78
(17) سورة الحجر، من الآية 67 إلى الآية 72
(18) سورة هود، الآية 79
(19) سورة هود، الآيتان 80 و81
(20) سورة الحجر، الآية 65
(21) سورة الصافات، من الآية 133 إلى الآية 136
(22) سورة هود، الآيتان 82 و83
(23) سورة العنكبوت، الآية 35
(24) سورة الحجر، من الآية 75 إلى الآية 77
(25) سورة النساء، الآيتان 15 و16
|