بهدوء

بقلم
د.ناجي حجلاوي
من التّفسير إلى التّفكير - سورة الفيل أنموذجا الحلقة الأخيرة: نتائج البحث
 إنّ النّاظر في البناء اللّغوي للنّصّ القرآني انطلاقا من سورة الفيل يُلفي أنّ الخطاب يركز على دور المتلقّي «ألم تر». وبغض النّظر عن تحديد هذا المخاطب هل هو الرّسول أم المؤمن في كلّ عصر وفي كلّ مصر. فإنّ الملاحظ هو أنّ المشتغلين بالدّراسات القرآنيّة قديما وحديثا يعكسون الأمر ويركّزون على الباثّ ومقاصده ويهملون المتلقّي، وما يصدر عنه من تصوّرات وإمكانات في الفهم. ولمّا كان الوحي ناهضا على التّصوّر الرّمزي وضرب الأمثال واعتماد القصّة بما هي أداة في التّواصل مع المخاطب، فإنّ هذه الأدوات تحمل أكثر من إمكان تأويليّ. وما الجنوح إلى الاقتصار على مصداق واحد إلاّ تضييق من الآفاق الواسعة الكامنة وراء هذه الشّفرات اللّغوية المتعدّدة. 
ويظلّ النّصّ القرآني هو منبع الفكر ومثار الجدل لأنّه نصّ مفارق ومحايث في الوقت ذاته، مفارق من حيث المصدر ومحايث من جهة المتلقّي. وقد أشار القرآن إلى هذه الرّحلة من الباثّ المطلق إلى المتقبّل النّسبي بتفريقه بين الإنزال كمّا والتّنزيل كيفا. ولعلّ هذه الطّبيعة في النّصّ القرآني هي الّتي حدت بجمال الدّين بن الشّيخ إلى اعتبار أنّ العلوم الدّينيّة المُثبتة في قلب الأجهزة المفاهيميّة وكلّ الكتابات المعرفيّة الموزّعة حسب دوائر، هي موظّفة لخدمة استراتيجيّة بعيْنها هي مركزيّة القرآن (1).
والمهمّ أنّ المعجزات الّتي تضمّنتها النّبوءات السّابقة عن القرآن كانت من جنس مغاير لطبيعة النّبوءة، وهي معجزات ماديّة، أمّا معجزة الرّسول الخاتم فكانت من جنس النّبوءة، وهكذا تمّ التّضامّ بين المعجزة والمنهج. وفي هذه الحالة أصبح النّصّ يحيل على ذاته وهو الدّليل المثبت لمصداقيته. فالقرآن بما هو معجز، فإعجازه شاهد على صدقه، وصدقه في ذاته، يقدّم دليلا متّحدا مع دالّه، فالصّدق والوضوح داعيان قوّيان لكثرة الأتباع على مرّ العصور، لاقتناعهم بهذه الحالة الّتي تميّز الوحي في الرّسالة الخاتمة. وعلى هذه الصّورة يظلّ الإعجاز ظاهرة داخليّة ضمن فضاء النّصّ ذاته، إذ هوّ نصّ مفارق لبقية النّصوص نوعا ومحتوى. فما هو بالشّعر، ولا هو بالنّثر وإنّما هو قرآن على حدّ عبارة طه حسين في كتابه من «حديث الشّعر والنّثر».
إنّ طبيعة البنية اللّغويّة متحوّلة الإفادة لما تنهض عليه من تجاويف وفراغات دلاليّة قابلة للامتلاء بأكثر من صورة وأكثر من إمكان، لذلك تتعدّد الطّبقات الدّلاليّة في العبارة الواحدة وتنفتح على مهبّ التّأويلات لتتجاوز الغموض الوارد في الخطاب إلى مصاف الوضوح والبيان بواسطة الحجّة الدّامغة والدّليل المقنع، ومن ثمّ يتجاوز الإعجاز حدود المادّة  ونسبيّتها المرتبطة بزمان حدوثها ومكانها إلى آفاق أوسع وأرحب اقتضاها البناء اللّغوي النّاهض على اعتباطيّة العلاقة بين الدّال والمدلول.
إنّ هذه المعاني تجد لها صدى فيما ذُكر من أنّ أحرف القرآن في اللّوح المحفوظ كلّ حرف منها بقدر جبل قاف، وأنّ  تحت كلّ حرف معان لا يحيط بها إلاّ الله عزّ وجلّ. وقد أشار الغزالي إلى أنّ هذه الأحرف سترة لمعانيه. وقد قيل في الأثر: «إنّ القرآن يأتي بكرا يوم القيامة». وهذا التّصوّر المتعلّق بأصل النّصّ القرآني بالقدر الّذي يزيد من قداسته فإنّه مدعاة لتوليد المعاني اللاّمتناهية، ولا غرابة في ذلك فقد استخدم هذا النّصُّ الرّمزَ والقصّة وضرب المثل، فإسماعيل الّذي رُئي في المنام يُذبح، ناب عنه الكبش. وأبناء يعقوب رُمز إليهم بالكواكب، والأبوان مُثّلا بالشّمس والقمر. وقد أوّل النّبي يوسف العديد من الرّؤى بما علّمه اللّه من حُسن تأويل الأحاديث. 
ولذلك استطاع النّصّ أن يستقطب إليه أطراف المعنى ولا يهَب دواخله إلاّ لمن ألقى إليه السّمع وأمعن فيه النّظر. ولو لم يكن النّصّ مكتنزا بالدّلالة ما استطاع القارئ أن يمدّ يد التّأويل إليه. وأكثر ما يتمّ هذا الامتداد إنّما يكون تجاه النّصوص الكبرى المؤسّسة للمعنى والمستفزّة للعقل لأنّه أشبه ما يكون بالبحر ذي القعر البعيد، وبالطّود ذي الرّأس الشّامخ.
وإذا كانت القصّة تمثّل ركنا شديدا في النّصّ القرآني، فإنّه مجال يتقاطع فيه التّاريخي بالدّيني. وبصريح العبارة القرآنيّة، إنّ هذه الإشارات القصصيّة هي عبارة عن خلاصة لأهمّ الحوادث التّاريخيّة، وهي غير مطلوبة لذاتها، وإنّما الغاية منها استلهام العبرة من الصّيرورة التّاريخيّة النّاجمة عن جدل الإنسان مع الطّبيعة من جهة، وجدل الإنسان مع الإنسان من جهة أخرى. ويبدو أنّ القصّة لا تهَب من العبر للمتدبّر إلاّ بقدر ما يمعن فيها النّظر، تبعا لمنهجه المعتمد. والقصّة طريقة بيانيّة مفعمة بالحوادث الماضية وأحوال النّاس وأنباء القرى.
وإزاء هذه الإشارات دعا القرآن إلى السيْر في الأرض للنّظر والتّأمل في بدء الخلق وفي عواقب الأممُ الغابرة وآثارها. وما من شكّ في أنّ هذه الدعوة دعوة غائيّة تستهدف الإدّكار والموعظة والوقوف على كيفية اشتغال السنّن الطّبيعية والقوانين المتحكّمة في الظّواهر الكونيّة والاجتماعيّة. إلاّ أنّ مهمّة الدّارس تزداد عُسْرا في تتبع مفاصل القصّة القرآنيّة ضمن المدوّنة التّفسيريّة لما أضافته الرّوايات الملحميّة والسّير والمغازي خاصّة وأنّ القائمين على تقديم القصّة وتفسيرها جعلوها تستدعي الخلاص والمهدويّة وغلبة ما هو مثالي على حياة الأسلاف، هروبا إلى الحلول الميسّرة السّهلة حيث يتمّ اللّجوء إلى الأيّام الخوالي بدلا من مواجهة الواقع بصعوباته. 
إنّ هذه النّزعة الهروبية تشي بسوء الظّن بالقدرات الإنسانيّة وبرداءة الحاضر وسوء مآله في المستقبل. فالقصّة حينئذ فضاء شاسع يسمح بالرّكون إلى الحنين بما فيه من سحريّة وافتتان ولاسيّما إذا اضطلع الخيال بوظائف التّجميل والتّلوين بإضافة الخوارق وتوسيع عناصرها. وهذه الرّؤية تعمل على إضاعة المحتوى الدّيني ضمن ما أسماه محمّد عبده بضروب الخيال. 
إنّ الأزمة لا تكمن في القصّة في حدّ ذاتها طالما هي جزء لا يتجزأ من نسيج النّصّ القرآني، وإنّما الأزمة كامنة في قراءة هذه القصّة وكيفية التّعامل معها فهما وتدبّرا وتنقية من أكاذيب القُصاص وإضافات أهل الكتاب الّذين تصدّروا للعملية التّفسيريّة والتّأويليّة باعتبارهم أصحاب معرفة مسبقة بالكتاب المقدّس ومحتوياته ومكتسبين لأدوات فهمه. وإذا كانت القصّة القرآنية كاشفة عن الجدل القائم بين الغيب والشّهادة،  فإنّ القراءة التّراثية ضخّمت من التّقابل بين القدرة الإلهية والقدرة الإنسانية. ووظّفت القصّ في إبراز عظمة اللّه وانتقامه من الإنسان الضّعيف. ولقد جرت الفهوم المتعلّقة بالقصّة التّراثيّة إزاء القصّة القرآنيّة وراء هذه الفكرة حتّى وإن أدّى بها ذلك إلى الجمع بين الرّأي ونقيضه، ومن ذلك ما ورد في قصة أصحاب الفيل أنّ اللّه انتصر للوثنيّين في مكّة وانتقم من أهل الحبشة الموحّدين باعتبارهم مسيحييّن. ولا غرو في ذلك فهم من المغضوب عليهم والضّالين سلفا كما يقرّ بذلك الفعل التّفسيري. لقد ضاعت العبر المستهدفة من القصّة داخل البناء القصصي كما ورد في التّفسير المهتم بالتّفاصيل غير المفيدة من أزمة وأمكنة وشخوص وأحداث وسرد ووصف وحوار ومفاجآت. 
ولمّا كانت سورة الفيل نصّا مندرجا ضمن فضاء الوحي المكّي، فإنّ القطب الّذي يدور حوله الوحي في هذه المرحلة إنّما هو مقاومة الشّرك والحطّ من الوثنيّة لما فيها من ضعف الوعي التّجريدي وركون الذّهن إلى التّمثيل والتّجسيد. ولكنّ الأسئلة  المطروحة بناء على ما طرأ على لغة الوحي بمقتضى التغيّر الزّمني والمكاني تتمثّل في التّساؤل حول قدرة  العقل على إعادة صياغة الفهم العليق بالوحي طبقا لحاجات العصر ومنجزاته العلميّة، ولاسيّما أنّ الوحي ذاته قد أوكل فعل القراءة والتّدبّر في كلّ آياته إلى العقل المتلقّي. وقد تفطن محمّد إقبال إلى أنّ الصّورة المثلى لقراءة القرآن هي أن يُقرأ وكأنه يتنزل لأوّل مرّة الآن وهنا. 
وما من شكّ في أنّ أسلوب القصّ يتميّز بقدرة عميقة على التّأثير في الوجدان والعقل في آن واحد. فالاكتفاء بالمعنى الظّاهري الّذي تشي به العبارة القصصيّة قد يتحوّل في كثير من الأحيان إلى إفادة مسطّحة قد تُخفي دلالات أعمق ومصاديق محتملة أخرى لربّما كانت أعمق وأكثر ثراء. تلك هي العلامة المميّزة للوحي الّذي يجسّد المعجزة في الرّسالة الخاتمة حيث يمثّل كلّ طرف منهما وجها للآخر فهي دعوة برهانها منها ودليلها متّصل بها، على حدّ عبارة التّهامي نقرة. 
إنّ القصّة القرآنيّة حُبْلى بأبعادها التّعليميّة المتعدّدة في المستوى التّاريخي والتّربوي والسّلوكي والعقدي، وهي لا تخلو في كلّ ذلك من مسحة إعجازيّة. ولذلك هي قصّة ليست ككلّ القصص بها توسّل القرآن لتصوير المعنى الذّهني المجرّد والشّعور المرهف بالمثل المحسوس المتدفّق بالحياة. ومع ذلك مثّلت هذه القصّة في القرآن محور جدل أخذا وردّا ولاسيّما عند المستشرقين الّذين ربطوا بينها وبين حوادث التّاريخ ربطا مباشرا وأصدروا أحكاما جائرة مخالفة لحقائق القرآن معتبرين أنّها ذات محتوى تاريخي خاطئ.
الهوامش
(1)     Jamel Eddine Bencheikh et André Miquel, D’Arabie et D’Islam, éditions Odile Jacob, 1992, p42