بحثا عن المشترك

بقلم
أ.د.احميده النيفر
الاستشراق المحلّي الرثّ الذّهاب إلى الحجّ فيما النّاس راجعون
 تحت عنوان «حتى يأتيك اليقين» كتب الأستاذ عبد السّلام المسدي(1) ذات مرّة في «العرب» مقالا متميّزا عن اندحار الأوضاع الفكريّة على أيدي بعض الجامعيّين التّونسيّين الذين يسعون إلى «تجفيف منابع الهويّة» بالحلول الاستئصاليّة.   
لم يذكر الكاتب في مقاله اسما واحدا من أسماء هؤلاء الذين أعرضوا عن إقامة معيار «ضبط حرّية الفكر بين خطاب العلم وخطاب الانتماء»، لأنّه ما كان يرمي فيما كتب إلى التّشهير بأحدٍ بقدر ما كان هدفه إيضاح موقفه من توجّه يعمل أصحابه من أجل التّألق عن طريق  ادعاء القدرة على فصل الجامعة عن الهويّة باسم «ثوريّة حرّية الإنسان الفرد». الأمر يتجاوز أشخاصا بأعيانهم إلى نوع من التّكوين الفكري القائم على الانغلاق على معارف ومقولات لا يمكن إعادة النّظر فيها، أي أنّ صميم المسألة يتطلّب فهم الظّاهرة ودرسها وتشريح دوافعها أكثر من الحاجة إلى اتهام أشخاص أو شتمهم فضلا عن تكفيرهم. 
نحن فعلا أمام حالة نادرة لا نكاد نجد لها نظيرا في أي قطر عربي آخر. هي حالة تجعل بعض مثقّفي تونس إزاء ما يجري من أحداث وتحوّلات قطريّة وعربيّة ودوليّة، فكريّة واجتماعيّة- سياسيّة، أشبه بـ «الأطرش في الزفّة»(2): إصرار على أنّ لا جديد تحت شمس المعرفة وفي عالم النّاس، وأنّه لا حاجة لوقفة تأمّل ومراجعة المقولة التي بنت كلّ مواقفها على جملة ادعاءات ترجع في صميمها إلى أنّ القرآن الكريم هو، في أفضل الحالات، «مجرّد نصّ تاريخي». معنى ذلك أنّه يظلّ مرتبطا بظروف زمانيّة ومكانيّة وفكريّة محدّدة لا يتجاوزها، وأنّه قائم على «بنية أسطوريّة» ممّا يجعله في نظر هؤلاء أحد «عوائق الحداثة والمعاصرة في الثّقافة العربيّة». 
هو توجّه ينزع عن النّص القرآني المؤسّس كلّ أصالة، فضلا عن القدسيّة، فلا يرى فيه من معنى، إنّما هي شراذم متناثرة وقطع متباعدة في زمن التّأليف وفي الدّلالة. لذا فهو غير حاوٍ لحقائق ولا يتضمّن صورة عن الحقيقة. ما يزهو به أصحاب هذا القول هو أنّهم يسيرون على خطى الاستشراق الذي يعتبرونه قام بدراسة النّصوص المؤسّسة (القرآن والسّنة) بـ«موضوعيّة» واشتغل على التّراث بـ«تجرّد علمي» لا مناص من تحقّقه في كلّ دراسة أكاديميّة قطعا مع الجمود والتّخلّف. 
هو إذن ضرب من الاستشراق المحلّي الذي يدّعي أنّ التّقدّم فكريّا يقتضي، كما يحلو للبعض أن يردّد، نزعَ إيماننا وخصوصيّاتنا العقديّة والثّقافيّة وتعليقها على المشجب قبل الدّخول إلى قاعة الدّرس. عندئذ، وعندئذ فقط، يمكن، حسب هذا التّفكير، أن تنجز مؤسّستنا الجامعيّة دراسات مبدعة تمكّن بلداننا العربيّة الإسلاميّة من الخروج من وهدة الرّكود! 
إشكال هذا النّوع من التّكوين مركّب لأنّه:
- لا يريد أن يدرك أنّ الموضوعيّة العلميّة في دراسة التّراث والتّاريخ تتطلّب مسافة تجاه الذّات، وأنّ ذلك مختلف جوهريّا عن التّخلّي عن الذّات والضّيق بها.
- يتجاهل أنّ الاستشراق متعدّد المدارس والتّوجّهات، وأنّ أهمّية الدّرس الاستشراقي تكمن في ثلاثة مرتكزات: هي الجهد في تحقيق التّراث والمنهج الواضح المعتمد والخطاب الفكري الشّامل. ذلك ما أتاح للمقالة الاستشراقيّة أن تغدو «شبكة معقّدة من المعرفة والقوّة» يمكن بها إعادة تكوين الشّرق كموضوع يتمّ وصفه وتنظيمه قصد امتلاكه والسّيطرة عليه. 
- لا تتاح المقارنة بين من يتميّز بهذه المرتكزات، يمارس بها إنتاجه الفكري والحضاري بصفته غربيّا يريد معرفة الشّرق وامتلاكه، وبين استشراق محليّ عاجز عن بناء منهج لأنّه لا ينظر في التّراث بل يشكّك فيه، ولأنه يصرّ على اعتبار أنّ الحضارة الإسلاميّة حضارة بائدة وفاقدة لمقومات النّهوض.
في كلمة كيف يمكن لهذا الاستشراق المحلّي الذي لم يستطع أن يبني منهجا بيّنا مكتفيا بتلفيق من هنا وترميق من هناك أن يحقّق التّقدّم في زمن العولمة الثّقافيّة؟ 
كيف يمكن له أن يزعم أنّ نزع الأصالة عن النّصوص المؤسّسة للحضارة العربيّة الإسلاميّة والإطاحة بأهمّ الرّموز الثّقافيّة للعرب والمسلمين هو من قبيل حرّية الفكر في وقت يسارع هو للمحاكم يريد إنزال القصاص بمن يخالفه الرّأي، لأنّه لا حقّ له في حرّية الفكر؟ 
كيف يمكن لهذا الفكر أن يتواصل مع مجتمعه ليجدّد ثقافة شعبه وأمّته، في حين أنّه يزدريه ويضيق بها؟ وهل يتاح لهذا الفكر في هذا الزّمن، زمن العولمة التي لا منجاة فيها لنا إلاّ بالتّثاقف بين الأنا والآخر، أن يصنع تقدّما في وقت يتنكر فيه إلى الشّعب الذي يعني نظاما أخلاقيّا وثقافيّا وقانونيّا ويتجاهل أنّ مهمة النّخب في إرساء أواصر مع الشّعب بتقوية الوعي الوطني إفرازا لإرادة واحدة.
ما انتبه إليه هشام جعيط، تلك القامة العربيّة الأخرى الباسقة من تونس، في دراسته لجذور هذه الحالة اللاّفتة للنّظر في «الشّخصيّة العربيّة الإسلاميّة والمصير العربي» جدير بالتّذكير. كتب بحصافة يقول:«إنّ مستقبلنا سيندرج في جدليّة ذات الشّيء وخلافه. لسنا بمتغرّبين ولا مغتربين ولذا علينا أن نفصّل حداثتنا في نسيج كياننا إذ نحن مجبرون على ذلك لا محالة»(3). 
مثل هذا الكلام الذي كتب قبل أربعة عقود من الزّمن يدلّ على موقف مناهض للاستشراق المحلّي لكونه لا يقوى على مواجهة تحديات اللّحظة الحضاريّة الحاليّة، ولأنّه يحمل وعيا مضى زمانه وفات أوانه. 
لقد وقفتُ على هذا بصورة حيّة حين أقيمت ندوة علميّة لتكريم المفكر محمد أركون في إحدى كليّات الجامعة التّونسيّة. استمعت إلى مقالات للاستشراق المحلّي أجابتها أصوات مختلفة بوضوح وجرأة مؤكّدة أنّ الوعي العربي الإسلامي في هذا القطر قادر على النّقاش والحوار. ما لفت النّظر إلى جانب ذلك هو أنّه لما وقع التّعسّف برفض السّماح بالكلام لبعض من طلب الرّد على الخطاب الرثّ، عندئذ أدرك العديد من الحاضرين من مختلف الأعمار أن لا فائدة من الحضور، فخرجوا من القاعة احتجاجا ومللا.   
قبل هذه الحادثة بسنوات شاركتُ في بيروت في ندوة تحديث الفكر العربي حيث ذكر عزيز العظمة أنّ من بين موانع قيام حداثة عربيّة: «الاستناد إلى أساطير القرآن، بدلاً من الإصغاء لأمثال أدورنو وهوركهايمر ومدرسة فرانكفورت!». قام عندئذ محمد أركون، وهو من هو، وقد ضاق ذرعا بالاستشراق المحلّي الرثّ، فعلق على صديقه قائلا:«وكيف تفعل إذا كان مليار مسلم لا يشاطرونك الرّأي في خصوص القرآن؟!»
بعد كل هذا هل تستغرب إن قال أحدهم إنّ هذا الاستشراق المحلّي، فضلا على أنّه يقدّم صورة عن تونس لا علاقة لها بحقيقة الأوضاع ولا بالجهود والإمكانات المتوفّرة فيها، هو من أسباب ظهور تطرّف وعنف مأتاهما احتكاره للقول الفصل رغم رثاثة فكره وعقم خطابه؟ 
الهوامش
(1) د.عبد السلام المسدّي (مواليد 26 جانفي 1945، صفاقس، الجمهورية التونسية) أكاديمي وكاتب ودبلوماسي ووزير للتعليم العالي سابقا في تونس. من أهم الباحثين في مجال اللسانيات واللغة.
يُعدُّ واحدا من النقاد القلائل الذين ترسخت أسماؤهم في حركة النقد الأدبي ليس في تونس فقط بل في العالم العربي، فعلى مدار مسيرته الطويلة قدم عطاءً وافراً أسهم في ثراء الحركة النقدية العربية، وهو بالإضافة إلى هذا له إسهامات في العمل السياسي والدبلوماسي والأكاديمي؛ حيث يعمل أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية، كما تولى عدة مناصب سياسية من بينها توليه حقيبة التعليم في تونس.
(2) «الأطرش في الزفّة» هو مثلٌ شعبي ، يقال لكلّ من كان متواجداً في مكان ما ويحضر مشكلة او حديث أمامه، دون أن يعي ماذا يجري أمامه .!
(3) «الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي»، د. هشام جعيط، دار الطليعة، الطبعة الأولى مايو 1984، ص102.