إقتصادنا

بقلم
أحمد الإدريسي
المقاصد الشّرعيّة من تداول الأموال عند الشّيخ محمد الطّاهر بن عاشور (2/2)
 المحور الثّالث: العدل في الأموال
العدل في التّصرّفات الماليّة مصلحة ضروريّة لحصول الضّبط بها وعدم الانضباط مع من لا يوثق بهم، وبهذا تتّسع دائرة الأسباب والتّجارات والصّناعات والحرف النّافعة، ويحصل التّعاون بين المتعاملين، وتُحسم المنازعات، وتقلّ المشاجرات والخصومات. ومقصد العدل في المعاملات الماليّة مبْثوث ومفصّل في مؤلّفات علمائنا، فقد ورد التّعبير عنه في كتب القواعد الفقهيّة بألفاظ متنوّعة، مثل قاعدة؛ «المعاملة مبناها على العدل»، أو «المعاوضة مبناها على المعادلة والمساواة بين الجانبين» أو «الأصل في المعاوضات والمقابلات هو التّعادل بين الجانبين». ومن مقتضيات مراعاة العدل في المعاملات الماليّة؛ أن نراعـيَ دفع الأضرار، وحفظ المصالح العامّة، فإنّ حرّية المرء في التّصرّف في أمواله مقيّدة بعدم الإضرار بالغير وعدم تعارضها مع المصلحة العامّة.
فالعدل في المعاملات واجب، وتصرّف المرء في ماله يكون مرهونا بمراعاة العدل كسبا وتداولا وإنفاقا، بأن يكون حصولها بوجه مشروع، وبتحريم الظّلم في كلّ المعاملات الماليّة، والاحتكار وكلّ أشكال أكل أموال النّاس بالباطل. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «المعاملات من المبايعات والإجارة والوكالات والمشاركات والهبات والوقوف والوصايا ونحو ذلك من المعاملات المتعلّقة بالعقود والقبوض؛ فإنّ العدل فيها هو قوام العالمين لا تصلح الدّنيا والآخرة إلاّ به. فمن العدل فيها ما هو ظاهر يعرفه كلّ أحد بعقله كوجوب تسليم الثّمن على المشتري، وتسليم المبيع على البائع للمشتري، وتحريم تطفيف المكيال والميزان، ووجوب الصّدق والبيان، وتحريم الكذب والخيانة والغش، وأنّ جزاء القرض الوفاء والحمد. ومنه ما هو خفيّ جاءت به الشّرائع أو شريعتنا فإنّ عامّة ما نهى عنه الكتاب والسّنة من المعاملات يعود إلى تحقيق العدل والنّهي عن الظّلم: دقّه وجله؛ مثل أكل المال بالباطل، وجنسه من الرّبا والميسر. وأنواع الرّبا والميسر التي نهى عنها النّبي ﷺ» (2) . 
المحور الرابع: وضوح الأموال؛
أولا: الوضوح أهم صفة موجبة للعدل.
مع وضوح الأموال اتّصف المال بأعظم صفة، وهي «العدل»، لأنّ الوضوح يعتبر من أهمّ الصّفات الموجبة للعدل. ومثال لذلك أنّ الشّرع الحكيم فرّق بين الرّبا والبيع، فـ «أحلّ اللّه البيع وحرّم الرّبا». يقول محمد الطّاهر بن عاشور في هذا الصّدد: «فالوجه عندي في التّفرقة بين البيع والرّبا أنّ مرجعها إلى التّعليل بالمظنّة مراعاة للفرق بين حالي المقترض والمشتري، فقد كان الاقتراض لدفع حاجة المقترض للإنفاق على نفسه وأهله لأنّهم كانوا يعدّون التّداين همّاً وكرباً، وقد استعاذ منه النّبيﷺ وحال التّاجر حال التّفضّل. وكذلك اختلاف حالي المُسْلِف والبائع، فحال باذل ماله للمحتاجين لينتفع بما يدفعونه من الرّبا فيزيدهم ضيقاً، لأنّ المُتسلّف مظنّة الحاجة، ألا تراه ليس بيده مال، وحال بائع السّلعة تجارةً حالُ من تجشّم مشقّة لجلب ما يحتاجه المتفضّلون وإعداده لهم عند دعاء حاجتهم إليه مع بذلهم له ما بيدهم من المال»(3). 
ثمّ قال رحمه اللّه في موضع قبل هذا: «واعلم أنّ مبنى شبهة القائلين «إنّما البيع مثل الرّبـا» أنّ التّجارة فيها زيادة على ثمن المبيعات لقصد انتفاع التّاجر في مقابلة جلب السّلع وإرصادها للطّالبين في البيع النّاض ، ثمّ لأجل انتظار الثّمن في البيع المؤجّل ، فكذلك إذا أسلف عشرة دراهم مثلاً على أنّه يرجعها له أحد عشر درهماً، فهو قد أعطاه هذا الدّرهم الزّائد لأجل إعداد ماله لمن يستسلفه؛ لأنّ المقرض تصدّى لإقراضه وأعدّ ماله لأجله، ثمّ لأجل انتظار ذلك بعد محلّ أجله... وأشار الفخر في أثناء تقرير حكمة تحريم الرّبا إلى تفرقة أخرى زادها البيضاوي تحريراً، حاصلها أنّ الذي يبيع الشّيء المساوي عشرة بأحد عشر يكون قد مكّن المشتري من الانتفاع بالمبيع إمّا بذاته وإمّا بالتّجارة به، فذلك الزّائد لأجل تلك المنفعَة وهي مسيس الحاجة أو توقع الرّواج والرّبح ، وأمّا الذي دفع درهماً لأجل السّلف فإنّه لم يحصّل منفعة أكثر من مقدار المال الذي أخذه، ولا يقال: إنّه يستطيع أن يتَّجر به فيربح لأنّ هذه منفعة موهومة غير محقّقة الحصول، مع أنّ أخذ الزّائد أمر محقّق على كلّ تقدير» (4) .
ثانيا: وسائل وضوح الأموال،
حثّ الإسلام على توثيق العقود، والمعاملات الماليّة؛ بالكتابة، والإشهاد، والرَّهن، ونحوها، والأمر بالكتابة والشّهود أصله قديم وجد مع وجود الإنسان على الأرض، ومن ذلك ما روي عن أبي هريرة رضي اللّه عنه، أنّ النبي ﷺ أخبر عن آدم عليه السّلام، لمَّا أتاه مَلَكُ الموتِ، وحان أجلُه، قال: «...فَأَتَاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ، فقال له آدَمُ: قَدْ عَجَّلْتَ؛ قَدْ كُتِبَ لِي أَلْفُ سَنَةٍ؟! قال: بَلَى، وَلَكِنَّكَ جَعَلْتَ لاِبْنِكِ دَاوُدَ سِتِّينَ سَنَةً، فَجَحَدَ؛ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَنَسِيَ؛ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ، قال: فَمِنْ يَوْمِئِذٍ؛ أُمِرَ بِالْكِتَابِ وَالشُّهُودِ»(5)، ثم أقره ديننا الحنيف، وجعله أصلا من أصوله. 
فمتى بُنيَت المعاملات على الوضوح وعلى العدل تحسنت طرق أدائها، وتمّ التّبادل العادل بين المتعاملين، وحصلت الثّقة بينهم، لأنّ «العدالة في التّصرّفات الماليّة مصلحة لحصول الضّبط بها، وعدم الانضباط مع الفسقة ومن لا يوثق بهم، وبهذا تتّسع دائرة الأسباب والتّجارات والصّناعات والحرف النّافعة، ويحصل التّعاون بين المتعاملين، وتقلّ الخصومات والمشاجرات، وتحسم المنازعات كلّها أو معظمها» (6) .
المحور الخامس: رواج الأموال
ويقصد به دوران الأموال بين أيدي أكبر عدد ممكن من النّاس بوجه حقّ، وذلك بالتّجارة وغيرها. 
إنّ المقصد العام من التّشريع المالي بما في ذلك الماليّة الإسلاميّة هو إثراء الأمّة، أفرادا ومؤسّسات ودولا، لأجل القيام بدور الاستخلاف على منهج ربانيّ، ومنهاج نبويّ رشيد. فمسألة كنز الأموال ليست مسألة شخصيّة وإنّما هي مسألة تشريعيّة، والدّولة مُطالبة بمنعه ووضع القوانين المناسبة وتنفيذها؛ تحقيقاً لمقصد رواج المال وتداوله. لذلك ينبغي تحريك الأموال وعدم اكتنازها، حتى لا تتداوله فئة قليلة من النّاس، قال تعالى: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾(7).
أولا: وسائل ترسيخ مقصد رواج المال:
1 - من النّاحية الأخلاقيّة:
* التّربية على البذل والإيثار،
* إشاعة معاني التّضامن والتّكافل والأخوّة.
* القضاء على ظاهرة الجشع.
2 - من النّاحية القانونيّة:
* التّخفيف من الالتزامات الضريبيّة والإجراءات الجمركيّة،
* توفير البيئة القانونيّة اللاّزمة، 
* توسيع مساحتها للتّيسير على النّاس.
3 - من النّاحية الميدانيّة: 
* تكثير العقود وتطويرها وتنويعها، وحُسن تسويقها، 
* تسهيل المعاملات الماليّة، وتعميمها. 
ثانيا: تفعيل مقصد رواج المال: 
ويتحقّق ذلك بما يلي:
1 - جَعَلَ الشّرع الحكيم الأصلَ في العقود الماليّة اللّزوم، وليس التّخيير إلاّ بشرطه. لأمر اللّه عز ّوجل في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(21)، وهو نصّ لقاعدة كلّيّة.
2 - تشريع عقود المعاملات لنقل الحقوق الماليّة بمعاوضة أو تبرّع. ومنه شُرعت بعض العقود، مع كونها مشتملةً على بعض الغرر، كبيع السّلم، والقرض، والمغارسة، والاستصناع؛ تيسيرا على العباد ورفعا للحرج، حيث قصد العلماء تسهيل المعاملات وترجيح جانب المصلحة فيها على ما يمكن أن يعترضها من مفسدة محتملة، مع التّسامح بشيء من الغرر في بعض العقود.
3 - تحريم الاحتكار ومنع كنز المال، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾(22).
4 - إيجاب النّفقات: كالنّفقة على الزّوجات، وتشجيع التّبرعات والصّدقات، وإباحة نفقات التّحسين والتّرفّه، وذلك كلّه يساهم في دعم الطّبقة الوسطى والدّنيا.
5 - تيسير التّعامل بالنّقدين (الذّهب والفضّة) كبديل عن المقايضة، وذلك ليحصل الرّواج بهما، لذلك يرى بعض العلماء أنّ النّبي ﷺ نهى عن استعمال الرّجال للذّهب والفضّة لحكمة بالغة وهي؛ عدم تعطيل رواج النّقدين بكثرة الاقتناء المفضي إلى قلتهما.
خاتمة:
إنّ حفظ المال قاعدة كليّة ترجع إلى قسم الضّروري، وهي تقوم على نظام نماء المال، وتفعيل طرق دورانه والتي تعتبر مسألة حاجيّة، كما تقرّر عند ابن عاشور رحمه اللّه، حيث تعرّض بعد ذلك إلى مسألة حفظ أموال الأمّة في مجموعها وحفظ أموال آحاد أفرادها وكيف ينحل التّعارض في حال اعتبار مال الأفراد في صلته بمال الأمّة. 
كما وضع الإسلام قواعد لحماية المال، وتحقيق العدل في المعاملات الماليّة، ونظرا لأهمّية الوضوح في المعاملات، أمر الإسلام بالتَّوثيق، ويكون بالكتابة، أو الرّهن، أو الإشهاد، وشرّع الرّهن والضّمان والكفالة، وأباح العقود التي تثمر تحوطاً مناسباً كبيع السلَم، والاستصناع والسّلم واستصناع الموازيين، وخيارات البيع (22) ، وبيع العربون، والتّأمين التّعاوني، والمضاربة بشرط عدم المخاطرة بالمال، وحثّ على تنمية المال وعدم كنزه، فكلّما بنيت المعاملات على الوضوح، والثّقة والأمان، وعلى العدل في المعاملات الماليّة تحسنت طرق أدائها، وتمّ التّبادل العادل بين المتعاملين، وحصلت الثّقة بينهم.
وقد رأينا أيضا أنّ الشّريعة الإسلاميّة تحثّ على رواج المال وتداوله في أوسع شريحة ممكنة، وعلى العمل فيه بأمانة وبجدّية، وتوزيع المهام بين أفراد المجتمع وفئاته، قال عزّ وجل: ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّه﴾(23). وورد في القرآن الكريم، وفي أحاديث النّبي ﷺ، وعن علماء الأمّة الكثير من التّوجيهات التي ترسّخ هذه السّياسة الماليّة، وتحقّق مقاصد رواج الأموال واستثماره وتداوله.
ومن أجل ترسيخ المقاصد الشّرعيّة من تداول الأموال، يحتاج علماء الأمّة إلى إعمال الفقه الاستثنائي، وإلى التّكامل التّخصّصي لدى الباحثين ولدى المختصّين في الإفتاء وفي نوازل المعاملات الماليّة. كما ينبغي الاجتهاد في تربية أفراد الأمّة على القيم، وبالأخصّ قيم الإسلام وأخلاقه في التّعامل بالمال؛ كسبا وتداولا وإنفاقا.
الهوامش
(1) ابن عاشور؛ محمد الطاهر. «مقاصد الشّريعة الإسلاميّة». (دار الكتاب المصري، القاهرة، ودار الكتاب اللبناني، بيروت، الطبعة الأولى: 2011م). من ص:290 إلى ص:320.
(2) ابن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية. تحقيق: علي بن محمد العمران. (مجمع الفقه الإسلامي – جدة. ط1: 1429ه). الصفحة: 211.
(3) ابن عاشور؛ محمد الطاهر. «تفسير التحرير والتنوير». (الدار التونسية للنشر، طبعة 1984م). ج:3 / ص: 85.
(4) ابن عاشور؛ محمد الطاهر. «تفسير التحرير والتنوير». (مرجع سابق). ج:3/ص:84.
(5) رواه الإمام الترمذي، في سننه، حديث رقم: 3368. وقال حديث حسن.
(6) ذ. زغيبة، مقاصد الشريعة الخاصة بالتصرفات المالية. (مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث – دبي، ط1. 2001م). الصفحة: 300.
(7) سورة الحشر - الآية 7
(21) سورة المائدة - الآية 1
(22) سورة التوبة - الآية 34
(23) ومنها خيار الشرط وخيار العيب وخيار المجلس.
(24) سورة الزمر - الآية 20