في الصميم

بقلم
د.عثمان مصباح
القصص القرآني من منظور جديد (15) من هو لوط عليه السّلام؟
 صلة النّسب بين لوط وإبراهيم
تبيّن من الحلقتين السّابقتين أنّ إبراهيم عليه السّلام كان له في قومه دعوتان: دعوة استنكر فيها عبادة الأصنام بناء على الحجج الفطريّة، ودعوةٌ نبويّة بلّغهم فيها رسالة اللّه القاضية بعبادته وحده وترك الأنداد. ففي دعوته الأولى كان حنيفا، وفي الثّانية صار مسلما.
وقد لاحظنا أنّ لوطا لم يظهر إلاّ في المرحلة الثّانية، بمعنى أنّ إبراهيم ظلّ فردا لا يشاركه أحد فكرته، ولا يعبأ أحد بدعوته إلى أن آمن له لوط، فكان لوط ثاني اثنين في الإسلام، فلماذا لم يظهر لوط يا ترى إلّا في المرحلة الثّانية؟
الجواب أنّ إبراهيم حين فضح آلهة قومه في واقعة الهيكل كان في فتوته الأولى، ولم يكن لوط موجودا بعد، إذ لم يولد إلاّ حينما بلغ إبراهيم مبلغ الرّجال وتزوّج، فوُلد له لوط! نعم، ولد له لوط! فلوط هو ابنُ إبراهيم بشهادة القرآن: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا، وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ، وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَإِسْمَاعِيلَ ‌وَالْيَسَعَ ‌وَيُونُسَ ‌وَلُوطًا، وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾(1)
وفي القرآن إشارات دالّة على أنّ إبراهيم عليه السّلام تزوّج ثلاث مرّات، الأولى في قومه، ومنها كان لوط، لكنّ أمّ لوط إمّا أنّها ماتت قبل البعثة، وإمّا أنّها لم تؤمن، فلهذا لم يذكرها اللّه فيمن آمن بإبراهيم، ولا فيمن هاجر معه، وقد زعم عزيرٌ أنّ سارّة أمَّ إسحاق كانت من قوم إبراهيم، وأنّها كانت من المهاجرين، وهذا مردود بقوله تعالى:﴿فَآمَنَ ‌لَهُ ‌لُوطٌ﴾(2)وبقوله: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ ‌وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾(3)، فسارّة إذن ليست من قوم إبراهيم بل هي من القوم الذين سكن إبراهيم في ديارهم بعد الهجرة، وأمّا الزّيجة الثّالثة فلها علاقة ببناء الكعبة، وسنفصل ذلك كلّه في تكملة الحديث عن سيرة إبراهيم إن شاء اللّه.
لوط في التّاريخ اليهودي
زعم مؤرّخو اليهود أنّ تدوين عزير للتّوراة كان بسبب ضياعها على إثر حملة الملك الكلداني نبوخذ نصر أو بختنصر، والتي يقدّر وقوعُها في مطلع القرن السّادس قبل الميلاد (≈587 ق م)، والحقيقة أنّ هذا التّدوين كان تدوينا تحريفيّا تحت رعاية الفُرس وخدمة لأطماعهم التّوسعيّة، وهو الذي أخرج اليهود من كونهم سبطا من أسباط بني إسرائيل، وحوّلهم إلى أمّة ذات ديانة أرضيّة جديدة، ستعرف فيما بعد باليهوديّة، وهذا معناه أنّ اليهوديّة تمّ تأسيسها في القرن الخامس قبل الميلاد على أبعد تقدير(4)
وقد ذكر المؤرّخون المعاصرون أنّ أوّل إشارة لليهود باعتبارهم قوميّة كانت قبل الميلاد ببضعة قرون، وبالتّحديد في العصر الهلينستي بعد ظهور الإسكندر المقدوني، وأنّ أول من ذكر اليهوديّة باعتبارها دينا وعقيدة هو المؤرّخ اليهودي «يوسيفوس فلافيوس» الذي عاش في القرن الأول الميلادي.(5)
والقرآن نفى أن يكون إبراهيم يهوديّا، وذكر أنّ يعقوب أوصى بنيه باتباع الملّة الإبراهيميّة، وأن آباء الأسباط الإثني عشر كانوا مسلمين: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ: يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ: مَا ‌تَعْبُدُونَ ‌مِنْ ‌بَعْدِي؟ قَالُوا: نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾(6) ، وقد كان جميع أنبياء بني إسرائيل من المسلمين: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ‌النَّبِيُّونَ ‌الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا﴾ (7) والذين هادوا ليسوا هم اليهود كما سنبيّنه في محلّه من قصّة بني إسرائيل إن شاء اللّه.
فدين اليهوديّة لم يظهر إلاّ في المرحلة الأخيرة من تاريخ بني إسرائيل، وموسى عليه السّلام لم يعرف هذا الدّين، لأنّه دين مستحدث قائم على القول بأنّ عزيرا(8)ابن اللّه، وأنّ اليهود شعبه المختار، والوارث الوحيد للعهد الإبراهيمي، والميعاد في توراة عزير دنيوي، ولا حديث فيها عن اليوم الآخر.
ومن أجل إحكام الاصطفاء الحصري لليهود زعم كهانهم أنّ العناية الإلهيّة بالإنسان لم تظهر في تاريخ البشرية إلا مع نوح، فكل من كان قبله، وكل من لم يركب سفينتَه ذهبوا ضحيّة الخطيئة التي ارتكبها آدم في الجنّة، غير أنّ العناية الإلهيّة لم تشمل ذريّة نوح كلّها، بل فاز بها سامٌ وحده، ثمّ اختصّ بها إبراهيم من ذريّة سام، لا باعتباره نبيّا صاحب رسالة إلهيّة، بل لمجرّد إعجاب من اللّه بهذا الرّجل إعجابا لا يُعرف له سرٌّ معقول، سوى أنّ اللّه لم يشأ أن يكون ربّا للعالمين، بل أحبّ أن يكون له شعب خاصّ من نسل إبراهيم، يحقّق من خلاله وجودا تاريخيّا مجيدا يعلو به على الأرباب التي جعلها اللّه للأمم الأخرى كما زعم مزورو التّوراة، إذ نسبوا إلى موسى أنّه نهى بني إسرائيل عن عبادة الصّور الممثلة للنّجوم وأنواع الحيوان لا لأنّ عبادتها باطل، بل لأنّ «اللّه ربَّكم قد قسمهنّ بين جميع الشّعوب الذين تحت السّماء»(9)، «وأحبَّ آباءَكم فاجْتبى خُلوفَهم من بعدهم، فأخرجكم بوجهٍ جريءٍ عظيم من مصر، ليُهلك مِن قُدّامكم شعوبا عظيمة هم أشدّ منكم، ويدخلَكم أرضَهم، ويعطيَكم إيّاها ميراثا»(10).
ولوط عليه السّلام لم يكن في هذه الأسطورة إلاّ حجر عثرة يجب استبعادها كما استبعدت كلّ الأحجار التي انتصبت حائلا دون دعوى الاصطفاء العرقي المزعوم، ولهذا أخرج كُهان اليهود لوطا من ذريّة إبراهيم، وزعموا أنّه ابنُ أخيه المسمّى هاران بن تارح، وهذه فرية أخرى فضحها القرآن لمّا صرح باسم آزر أبي إبراهيم، فإبراهيم بنص القرآن هو ابن آزر وليس ابن تارح، ومن مقاصد هذا التنصيص إبطال علم الأنساب الذي اختلقه فُسّاق اليهود، وشحنوه بالتزوير وقذف الأعراض لصناعة شعب أسطوري يحل الله فيه، فيتجلى جبروته لباقي الشعوب. 
وادعى المفترون أن إبراهيم ليس هو صاحب الهجرة، بل كان مجرد تابع لأبيه، قالوا: «وَأَخَذَ تَارَحُ أَبْرَامَ ابْنَهُ، وَلُوطًا بْنَ هَارَانَ، ابْنَ ابْنِهِ، وَسَارَايَ كَنَّتَهُ امْرَأَةَ أَبْرَامَ ابْنِهِ، فَخَرَجُوا مَعًا مِنْ أُورِ الْكَلْدَانِيِّينَ لِيَذْهَبُوا إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ. فَأَتَوْا إِلَى حَارَانَ وَأَقَامُوا هُنَاكَ.»(11)، لكن تارح مات في حاران، فأكمل إبراهيم الرّحلة ومعه لوط وسارّة. 
وفي أرض كنعان اغتنى إبراهيم ولوط، وكثرت مواشيهما، حتى اقتتل رعاتهما على المرعى، فاقترح إبراهيم على ابن أخيه لوط أن يفترقا، فغادر عمَّه وسكن مدينة سدوم، بلدَ الخُطاة، وبهذه الفِرية هيّأ المحرّفون الفرصة لإسقاط لوط وذريّته من العهد الذي اختصّ اللّه به إبراهيم وذريّته، فقد جاء في توراة عزير: «وَقَالَ الرَّبُّ لأَبْرَامَ بَعْدَ اعْتِزَالِ لُوطٍ عَنْهُ: «ارْفَعْ عَيْنَيْكَ وَانْظُرْ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ شمَالًا وَجَنُوبًا وَشَرْقًا وَغَرْبًا، لأَنَّ جَمِيعَ الأَرْضِ الَّتِي أَنْتَ تَرَى، لَكَ أُعْطِيهَا، وَلِنَسْلِكَ إِلَى الأَبَدِ»(12).
لم يقف فجور الكهّان عند هذا الحدّ، بل زعموا أنّ لوطا بعد هلاك سدوم سقته ابنتاه خمرا حتّى سكر في ليلتين متتاليتين، فتسلّلت الكبرى إلى مضجعه في اللّيلة الأولى، وتسلّلت الصّغرى في اللّيلة الثّانية، فنتج عن هذا السفاح الشّنيع شعبان: المؤابيّون والعَمّونيّون، وهكذا ألصقوا العار والخزي بلوط وبآل بيته المتطهّرين، لاستبعادهم من الدّائرة الإبراهيميّة.
الاختبار الذي فشل فيه صُنّاع التّراث الإسلامي
في التّوراة عناية عجيبة بالأنساب، وكأنّها أطلس للشّعوب، وكان غرض عزير من ذلك إبراز فضل الشّعب اليهودي، وأنّ عودته إلى أرض الميعاد تمثّل نهاية التّاريخ. ولأنّ اليهود كانوا من السّبّاقين إلى تدوين الأنساب فقد أفسدوه، أضف إلى ذلك أنّها من أهمّ مصادر المشروعيّة التي لجأ إليها طلاّب الزّعامات في كلّ الأمم، فلذلك كثرت فيها دسائس رجال السّياسة ورجال الدّين، فصار هذا علم الأنساب من أكذب العلوم.
والمؤرّخون المسلمون كانوا مجرّد تلامذة لليهود في هذا المجال، إذ جعلوا التّوراة في مقدمّة المصادر التي استمدّوا منها تاريخ الأمم والأنبياء، ولهذا وقعوا في أخطاء علميّة فادحة، وخالفوا صريح القرآن، وبلغ من هيبة توراة عزير في نفوسهم أنّهم لووا أعناق الآيات لتوافق افتراءاته، ونسب لوط من أمثلة ذلك، فقد زعم المفسّرون «ِأَنَّ لُوطًا مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، وَلَيْسَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ حَسْبَمَا جَاءَ فِي كِتَابِ التَّوْرَاةِ»(13)، هذا مع أنّ اللّه تعالى قد قال في قصّة إبراهيم: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا، وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ، وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَإِسْمَاعِيلَ ‌وَالْيَسَعَ ‌وَيُونُسَ ‌وَلُوطًا، وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾(14) 
لكن جمهور المفسرين رجحوا أنّ الضمير في ﴿ذريّته﴾ عَائِدٌ إِلَى نُوحٍ لَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ، قال ابن كثير: «وُعَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى نُوحٍ - لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْمَذْكُورِينَ - ظَاهِرٌ. وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جرير(15)، ولا إشكال عليه؛ وعوده إِلَى إِبْرَاهِيمَ - لِأَنَّهُ الَّذِي سَبَقَ الْكَلَامُ مِنْ أَجْلِهِ - حَسَنٌ، لَكِنْ يُشْكِلُ عَلَى ذَلِكَ (لُوطٌ)، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ»(16)، وهذا من أثر الانسحاق تحت سلطان الإسرائيليّات، وإلّا فإنّ الآية مع سِباقها ولِحاقها تنفي هذا التّفسير الرّكيك، وبيان ذلك من عدّة وجوه، وهي:
الوجه الأول: أنّ آية الذّريّة وردتْ ضمن الحديث عن قصّة إبراهيم وتبيان فضائله، كما لاحظ ذلك الذين خالفوا الجمهور في عائدية الضمير، ولهذا قال ابن كثير إن عود الضمير على إبراهيم حسنٌ، لأنه محور الكلام.
الوجه الثّاني: لو كان المقصود هو ذكر ذريّة نوح من الأنبياء لكان هودٌ وصالحٌ أوْلى بالذّكر، فلماذا لم يُذكر هاهنا نبيٌّ واحدٌ قبل إبراهيم؟! 
الوجه الثّالث: ما اقتصرت الآية على من عاصر إبراهيم ومن جاء بعده إلاّ لصلة خاصّة بإبراهيم، ويؤكّد ذلك عدم ذكر شعيب الذي بعث بعد زمن إبراهيم، لكنّه ليس من ذريّته، فلو كان المقصود بيان ذريّة نوح لذُكر شعيب أيضا.
الوجه الرّابع: قوله تعالى ضمن النّص محل النّزاع: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾(17) أي أنّ هبة إسحاق ويعقوب وهدايتَهما، وأنّ إيتاء تلك الذريّة المباركة كان جزاء دنيويّا لإبراهيم على الإحسان الذي بلغ فيه أعظم مقام، ويشهد لهذا قوله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ، وَآتَيْنَاهُ أَجْرهُ فِي الدُّنْيَا، ‌وَإِنَّهُ ‌فِي ‌الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾(18) وقوله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ، اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، ‌وَإِنَّهُ ‌فِي ‌الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾(19)، فتلك الذريّة إذن كانت أعظم حسناته الدّنيويّة.
الوجه الخامس: أنّ اللّه قال في وصف هذه الذّريّة: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾(20)، ومعلوم أنّ الأنبياء قبل إبراهيم لم يؤت أحد منهم كتابا، وأنّ اللّه جعل ذلك من خصائص آل إبراهيم: ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ ‌مُلْكًا ‌عَظِيمًا﴾(21) ويؤكّد ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى، ‌صُحُفِ ‌إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ (22) 
الوجه السّادس: أنّ الجملة التي ذُكر فيها نوحٌ هي جملة اعتراضيّة وظيفتها التّأكيد على الاستمراريّة وعدم الانقطاع بين ما افتتحه نوح من النّبوّة وما افتتحه إبراهيم من دعوة حنيفيّة عابرة للقوميّات، فالهداية التي هدى اللّه بها الحنفاء هي من جنس ما هدى اللّه به نوحا، وشبيهٌ بهذا قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا ‌فِي ‌ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾(23)، فذكر نوح وإبراهيم على الخصوص هو ذكر للآباء المؤسّسين لمرحلتين من مراحل الحكم بين النّاس فيما اختلفوا فيه، مرحلةٍ افتتحها نوح، وقد تميّزت بالنّبوات القوميّة التي لم يكن فيها كتاب سماوي، وكانت تنتهي بهلاك القوم المنذَرين، ومرحلة افتتحها إبراهيم اقترنت فيها النّبوّة بالكتاب، وكانت دعوة الرّسل فيها عابرة للقوميّات، وهؤلاء الرّسل هم أيضا من ذريّة نوح، ولهذا صحّ أن يُقال على سبيل الإجمال: ﴿وَجَعَلْنَا ‌فِي ‌ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾.
الوجه السابع: لو افترضنا أنّ عُزيرا أسقَط ذكرَ لوطٍ بالكليّة كما أسقط ذكر هود وصالح وشعيب لما وجد المفسّرون مبرّرا لإخراج لوط من ذريّة إبراهيم، ومعلوم أنّ البيان القرآني مستغن عن أيّ بيان إضافي، وخاصّة فيما يتعلّق بالقصص، لقوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى، وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾(24)
فلوط إذن هو ابن إبراهيم، لا يماري في ذلك إلاّ من اغترّ بالإسرائيليّات من قدماء المفسّرين والمؤرّخين، وممّن ألغى عقله من المعاصرين تصاغرا أمام سلطان السّلف.
خاتمة
علم الأنساب التّوراتي بناهُ عزيرٌ على قاعدتي الإقصاء والاصطفاء بقصد جعل اليهود هم النّهاية، ولوط عليه السّلام لم يكن الضّحية الأولى ولا الأخيرة لهذا العلم اليهودي الزّائف، وقد آن لنا بعد هذا التّحقيق حول شخصيّة لوط أن ننتقل إلى بيان صلته عليه السّلام بالقوم الذين بعث إليهم، وعلاقة نبوته بالمشروع الإبراهيمي، فإلى اللّقاء في الحلقة القادمة.
الهوامش
(1) سورة الأنعام  - من الأية 84 إلى الآية 86
(2) سورة العنكبوت - الأية 26
(3) سورة الأنبياء - الأية 71
(4)انظر تقديم الدكتور سهيل زكار لكتاب: (التوراة: ترجمة عربية عمرها أكثر من ألف سنة) ص 15-16، دار قتيبة، دمشق-بيروت، الطبعة الأولى: 1428هـ - 2007م
(5) انظر مادة (اليهودية) في موسوعة ويكيبيديا، ومادة (Judaism) في موسوعة بريطانيكا وخصوصا القسم الذي بعنوان: «اليهودية الهلينستية»
(6) سورة البقرة - الأيتان 132 و133 
(7) سورة المائدة - الأية 44 
(8) عزير هو المعروف عند اليهود باسم عزرا الكاهن، أو عزرا الكاتب، كان موظفا في بلاط الإمبراطور الفارسي، يقال أنه توفي سنة 421 ق م
(9) التوراة: ترجمة عربية عمرها أكثر من ألف عام، سفر الاستثناء، الفصل الرابع، ص 417
(10) نفسه، ص 418
(11)  سفر التكوين 11: 31، موقع الأنبا تكلا هيمانوت
(12) سفر التكوين، 13: 14-15، موقع الأنبا تكلا هيمانوت 
(13) الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير: 7/ 338، الدار التونسية للنشر - تونس، 1984م
(14) سورة الأنعام  - من الأية 84 إلى الآية 86
(15)  انظر محمد بن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن: 9/381-382، تحقيق: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، الطبعة: الأولى، 1422هـ - 2001م
(16) أبو الفداء ابن كثير، تفسير القرآن العظيم: 3/ 298، تحقيق: سامي بن محمد السلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1420هـ - 1999م
(17) سورة الأنعام - الأية 84 
(18) سورة العنكبوت - الأية 27
(19) سورة النحل - من الأية 120 إلى الآية 122
(20) سورة الأنعام - الأية 89 
(21) سورة النساء - الأية 54
(22) سورة الأعلى - الأيتان 18 و19 
(23) سورة الحديد - الأية 26
(24) سورة يوسف - الأية 11