نافذة على الفلسفة

بقلم
أ.د. عبدالرزاق بلقروز
الواجب الأخلاقي و الشر السائل
 تمتلك كلمة الواجب قيمة معتبرة في الحياة الأخلاقيّة للإنسان، إذ أنّه بفعل الواجب يكون بادئا ومبادرا وفاعلا وغير مُنتظر لمبادرات الآخرين؛ لأنّ الواجب هو الفعل ليس استجابة لمنفعة عاجلة، أومنفعة فرديّة، بل إنّ دافعه الجوهري هو الحافز والقانون الذي يعطي للأفعال صفتها الأخلاقيّة؛ وقد عرف الواجب صورة التّأسيس النّظري كمشرّع للفعل الخلقي مع الفيلسوف الألماني «إيمانويل كانط»، الذي عاند ودافع به ضدَّ المذاهب الأخلاقيّة التي تنتصر في تعاليمها للمنفعة ولقانون حساب اللذّات؛ في إعراض تامّ عن الفعل الأخلاقي الذي تحرّكه دوافع الرّوحانيّة والأخلاقيّة الخالصة .
إن الواجب مع الفيلسوف الألماني «إيمانويل كانط» يعدّ هو المشّرع للفعل الخلقي الصّحيح؛ انطلاقا من المعايير الذّاتيّة للعقل العملي، وليس إنطلاقا من سلطة المجتمع أو أيّة سلطة أخرى ولو كانت متعالية؛ ودليله على ذلك هو؛  كما أنّ العقل النّظري حاوٍ على مبادئ تنظيم المعرفة بصورة مبدئية، فإنّ العقل العملي يماثله في هذا الإحتواء على مبادئ للعقل العملي مستقلّة عن ضغط الدّوافع والميول. وبهذا، لا يمكن للإنسان في فعله الأخلاقي أن يتحرّك وفق ما تمليه المصلحة الخاصّة أو مبدأ السّعادة الخاصّة كما يسمّيها «كانط»، لأنّ لكلّ إنسان سعادته الخاصّة من منظوره، ولو أنّنا أقررنا بأنّ مبدأ السّعادة الخاصّة هو المشرّع للأخلاق، لاستحالت الأخلاقيّة التي تسري على الجميع. 
وإذا كان هذا، هكذا؛ فإنّ الفعل لن يصبح  أخلاقيّا إلاّ إذا  تجرّد من التَّجربة الممثلة في المنافع اليوميّة العاجلة والخاصّة، لأنّها متغيّرة والأخلاق تبتغي الاستقلاليّة والكلّية، وهذا التجرّد لن يجد منطلقا أسمى من الأخلاقيّة التي تتّخذ من الواجب مبدأ لها في التّشريع، وهكذا، أدخل «كانط» إلى المذاهب الأخلاقيّة قانون الواجب المتجرّد من الأغراض المنفعيّة والشُّروط المصلحيّة. وباتت التَّشريعات الأخلاقيّة تكتسب مشروعيتها من هذا البناء الأخلاقي للواجب وليس من حساب منافعها تحت عنوان العمل وفقا لنداء الطبيعة/الغريزة المنفلة عن أي تحكّم روحي .  
إلا أنّ عالما وفيلسوفا آخر أطل علينا بعبارة كئيبة لكلّ مؤلفاته ونصوصه، هذه العبارة هي السّيولة، فبتنا أمام الحداثة السّائلة والحبّ السّائل والحياة السّائلة، وآخرها الشّرّ السَّائل الذي نودّ التّفكير معه في هذه اللّفتة. وربطه بقانون الواجب الأخلاقي. لأنّ ثمّة تلازم في الحضور اليوم بين ما يسمّيه «جيل ليبوفتسكي»: «أفول الواجب» وبين ما يسميه « باومان»: « الشرّ السائل». فما وجه العلاقة بينهما رغم أنّ روح الحداثة الأخلاقيّة تكتسي ثوب الواجب الأخلاقي؟
يشير «باومان» إلى أنّ المقصود بالشّر السّائل، هو الانفصال الذي حدث بين مبدأ الخيال ومبدأ الواقع، وهيمنة مبدأ الواقع على مبدأ الخيال، وبيان ذلك أنّ الخيال يعني به تلك الغايات التي يرسمها الإنسان وتكون مبرّرا لأفعاله أو اليوتوبيات بما هي مُثُلُ عالية تحفّز الإرادة على الفعل، والتي منها : التّقدم نحو الأفضل، السّعادة، الحرّية، العلم والواجب الإنساني المنفصل عن تشريعات الإله.
أمّا وأنّ حالة الإنسان المعاصرة الذي دخل مرحلة السّيولة لم يعد خياله بقادر على إنتاج الصّور التي ترسم الغايات والمثاليّات الجميلة والجديدة، فإنّه أضحى أسيرا للواقع، وقَفَصِ الواقع، وإكراهات الواقع؛ بسبب الحال الاقتصادي العولمي والأنموذج الاستهلاكي الغالب، حيث لم يعد يقوى أن يرفع بصره نحو السّماء، ولا حتّى يطرح على نفسه الأسئلة الكلّية و النّهائيّة التي تذكّره بمصيره الأخير.
هذا هو الشّرّ السّائل، ليس هو الشَّرُّ الممثَّلُ في الإعتداءات المباشرة على الإنسان، لكنّه أضحى شرَّا سائلا واعتداء بأقنعة لذيذة وغير مؤلمة؛ يَسْري في مرافق الإعلام الإستهلاكي، والإقتصاد المادّي، وتدفق الصّور الإشهاريّة التي ينتج عنها : تسطيح التّفكير، وجمود العضلات، وضعف البصر، والبرمجة نحو الموت.
 ونتج عن هذا الشّكل من أشكال الشّرّ، أفول الواجب وتحلُّل الذَّات التي كانت تؤثّر في العالم بمُثُلها العليا وغاياتها المتجاوزة للواقع، وهنا نستنتج أنّ الهاجرين للواجب و المعرضين عن العمل وفق قانون الواجب، مردّها إلى  أنّه لم تعد هناك غايات متجاوزة للواقع أو خيال يصنع يوتوبيات جديدة. وهذا هو معنى مدلول الشّرّ السّائل، في انفصال مبدأ الخيال عن الواقع.
إنّ غياب الواجب سببه الشّرّ السَّائل، أي الشَّر النَّاعم الذي يتسلَّل لكي يُحَوّلَ النّرجسيّة كاستراتيجيّة في الحياة، وخلاصة هذا الأمر كلّه، انعدام الاستجابة الأخلاقيّة في نفس الإنسان وتخدير الوازع الأخلاقي، حينها تتحكَّم الطّاقة الحيويّة في الإنسان وتستحوذ عليه الدّوافع « الدّافع الغذائي/ الدّافع التّناسلي/ الدّافع التّملّكي...» وينحصر وجوده في ضيق هذا القفص.
وإذا لم يتدارك هذا النّموذج حالته هذه؛  بإحياء روحه وإيقاظ الحاسّة الخلقيّة التي تملك وحدها القدرة على تجاوز الواقع، فإنّ مصيره هو الوجود المحدود بين موت الواجب والشّرّ السّائل.