خواطر

بقلم
محمد المرنيسي‎
الصّحة في المصحّة
 لاحظته عن بعد خارج المصحّة ينتظر على قارعة الطّريق، أوقفت سيارتي بجانبه، وقلت له: «اصعد ياأبا سالم»؛ نظر إلي منكسر الخاطر، وقال بعد أن استوى في مقعده وتنفّس الصّعداء: «ما ابعد السّلم والسّلامة في حياة العامّة ! الصّقورتنعم بما تشتهي في الأعالي، والدّواب تبحث عن ثمار الأشجار والدّوالي، في السّهول والرّبى وفي السّفوح المهجورة والمروج الخوالي».
قلت: «وما علاقة السّلم والسّلامة بالمصحّة يا أبا سالم؟ أليست المصحّة شركة تعرض خدمات متخصّصة في جسمي وجسمك بمقابل مادي لا غير؟»
قال: «لو كان تعريفك هذا صحيحا لكان بائعو الخضر والفواكه والأسماك والمواد الغذائيّة وما شابه ذلك أصحاب شركات أيضا؛ لأنهم يسلكون نفس الطريق، ويسعون لتحقيق نفس الهدف».
قلت: «أعتذر،لقد أخطأت في التّعبير والفهم، حين سويّت بين سكّان القصور والجحور، وبين اللّباب والقشور، وبين العقول الكبيرة والأدمغة السّاذجة الفارغة».
أجاب في نبرة حزن وأسى: «ما أخطأت في تعريف المصحّة في واقع النّاس اليوم، ولكن غياب الجانب الإنساني لدى أغلب العاملين هناك بما فيه حسن التّعامل، وتحجيم الهدف ليصبح هاجس رفع الدّخل أولويّة كبرى لديها، فتلك هي أبرز مشاكل الصّحة في المصحّة».
قلت: «أفصح ياأبا سالم، أنا لا أستطيع مجاراتك في تفسير الخطاب وقراءة الأبعاد ومرامى المباني والمعاني».
قال: «سألت بعض العارفين عن طبيب متخصّص في الجهاز الهضمي، فدلّني على أحدهم في هذه المصحّة، لديه – حسب ما قرأت  في ملفّه الشّخصي - ما لا مزيد عليه من الكفاءة المهنيّة، وتحمّل المسؤوليّة في مهام أخرى ذات الصّلة. أخذت موعدا معه عبر موقع المصحّة، وتمّ قبول الموعد حسب الاقتراح باليوم والسّاعة قبل حلوله بأكثر من عشرة أيام، وفي صباح اليوم الموعود وصلتني رسالة تذكّرني بالموعد، في السّاعة الخامسة مساء؛ جمعت بعض الوثائق من الملفّ الطّبّي؛ تحاليل وتقارير ووصفات سابقة، رتّبتها تاريخيّا لأقدّمها للأستاذ الدّكتور الذي ذاع صيته وانتشر في مجتمع الجار والمجرور، وقلت:لعلّ ولربّما يرشدنا إلى الطّريق لنخرج من هذه الدّوامة التي نعيش فيها منذ سنوات بين أطباء مشهورين ومغمورين.
غادرت البيت قبل الوقت بنصف ساعة تقريبا احتراما للموعد، دخلت متفائلا من باب المصحّة، فوجدت النّاس يشغلون الممرّات جيئة وذهابا، وعلامات الهلع والخوف بادية على ملامحهم وفي نبرات أصواتهم، تقدّمت إلى مكتب الاستقبال، وجدت المسؤولة في حوار مع شخص يسأل عن غرفة مريض قصد زيارته، ثمّ أخذت الهاتف مباشرة تتحدّث، وطال انتظاري، لاحظت قلقي فأنهت المكالمة وسألتني عن حاجتي، قلت:عندي موعد مع الدّكتور فلان، فأشارت إلى مكتب آخر عن يسارها به ثلاث موظّفات، اتجهت إلى المكتب، وكررت لإحداهن مطلبي، فقالت:عليك بأداء أجرة الفحص مسبقا، قلت في نفسي:لا بأس، من الحزم سوء الظّنّ، أدّيت المبلغ وأخذت وصلا للإدلاء به قبل الفحص، وأرشدتني إلى ممرّ نصف دائري به مجموعة غرف مرقّمة للفحص حسب التّخصّصات، ينتهي هذا الممرّ عند فضاء واسع به عدّة مقاعد صلبة لأصحاب المواعيد.
جلست قبالة  الغرفة التي كتب عليها اسم الطّبيب وتخصّصه باللّغة الفرنسيّة فقط، قبل الخامسة بربع ساعة، لم أجد هناك غير امرأة مسنّة ورفيقة لها متوسّطة العمر، ورجل كهل يذرع الممرّ ذهابا وإيابا، بيده ورقة تحتاج إلى التّوقيع كما يبدو، سألت الممرّضة التي تعمل هناك بعد أن سلّمتها وصل الأداء عن حضور الطّبيب، فأجابت ببرودة: ربّما يتأخر قليلا، قلت:لا بأس، فتحت مصحفي من شاشة هاتفي وشرعت أقرأ سرّا سورا من الورد اليومي.
دخل الطّبيب بعد الخامسة بقليل، طال انتظاري، قلت: لعلّه يصلّي أو يتغذّى،أو يرتاح من التّعب.. وحوالي الخامسة وعشرين دقيقة نودي على المرأة التي كانت قبلي، وتمّ توقيع وثيقة الرّجل الكهل، وبعد ربع ساعة تخرج المرأة مع رفيقتها، فوقفت بباب غرفة الطّبيب،خرجت الممرضة ونادت باسم مريضة أخرى، قلت لها: هذه السّيدة جاءت بعدي، ولقد توصّلت هذا الصّباح برسالة الكترونيّة للتّذكير بموعدي في الخامسة مساء، وقدّمت لها هاتفي لتقرأ الرّسالة المعنيّة، قالت:إنّ الطّبيب حدث في برنامجه تأخير بسبب أعماله المهنيّة، قلت لها: لا بأس، ولكن كان عليكم أن تخبروني بهذا التّأخير حتّى لا أضيع وقتي في الانتظار، وإذا كنتم أنتم لا تحترمون الوقت الذي حدّدتموه سلفا، فلماذا نعيب على الآخرين في المهام الدّنيا عدم احترامهم للمواعيد؟
سمع الطّبيب هذه العبارة، ويظهر أنّها اخترقت كبرياءه ولم يتحمّل سماع الحقيقة، ففتح الباب وقال للممرضة بلغة خشنة: سلّمه وصل الأداء ليأخذ فلوسه، فلن يدخل عليّ.
قام رجل مسنّ، وطلب منّي أن أستريح، وسيعمل على تلطيف الجوّ مع الطّبيب ليتراجع عن قراره، قلت له: لا تفعل، فلا خير في هذا الأمر الذي جئت من أجله،﴿وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.
نظرت يمينا وشمالا هل من مسؤول أحكي له ما وقع، لا أحد، فوّضت أمري إلى اللّه، واتجهت إلى شبّاك الأداء، سلّمت الوصل للموظفة هناك وشرحت لها الواقعة باختصار، فسلّمتني المبلغ الذي كنت قد أدّيته سابقا دون تعليق، خرجت من البوابة متشائما إلى الشّارع، وأنا أدعو اللّه القويّ العزيز أن لا ألتجئ إلى هذه المصحّة ما بقي من عمري، تلك هي القصّة كما رويتها لك يا أبا الفضل،فهل من معتبر؟»
في هذه الأثناء كنت قد وصلت إلى مسكن أبي سالم، أوقفت السّيارة،وودّعته بلطف الكلام وحسن الختام، ووعدته أن أكتب قصّته كما رواها دون خيال أو أوهام، ومن يختار الصّدق وقول الحقّ عند العقلاء لا يلام، بل يستحقّ التّقدير والاحترام.