تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
أزمة مروءة؟ .. لا، إنها أمور أخرى
 أصبحت المرآة كاذبة لا تعكس حقيقة ما نرى، ربّما لأنّها مسطّحة لا تبتعد بأبعادها أبعد ممّا تتطلّبه حقيقة الأشياء. ولا تكتمل الصّورة دون الانتباه الى ما يُلتقَط من حين لآخر من شظايا الحقيقة التي تمرّ بنا كشُهُب لا يُدرك معدنها إلاّ بجمع ما أمكن من أجزائها أحجار نيازك نادرة وثمينة.
واقفا في عربة قطار السّاعة الخامسة وعشرين دقيقةً الذي انطلق يوم السّابع من أكتوبر من السّنة الثّانية والعشرين بعد الألفين -في موعده هذه المرّة- لم أكن الوحيد واقفا بين المقاعد المشغولة جميعها ولكنّني كنت من أكبرهم بل بدا لي من السّهل التّأكّد أنّني كنت أكبر سنّا من جميع من كان في العربة، حكم عليّ كبريائي بتحدّي أوجاع ظهر تنطلق من فتق خذروفي قديم وتتشعّب عبر تفرّعات عرق الأسى، ليصيب عضلات الكاحل فتنشدّ وتتيبّس. وحكم عليّ طبعي - الذي لان لتجارب الحياة ولتأثيرات شغلي داخل الإدارة حتّى جعلني نظاميّ التّفكير والسّلوك- بالصّبر وتحمّل أزمات هذا الوطن وأوجاع ومعاناة شعبي المتزايدة من سنة إلى أخرى، على أمل أن نكون ربّما قد بلغنا القاع انحدارا، فيميل المنحى نحو الانفراج. 
وما ساعدني في ركوب قطار هذه الحياة والتّشبّث به، إلاّ ما وفّره العمر من معارف وحكمة ومدى فاعليّة خميرة الإيمان في نفسي بعد أن تضخّمت لبنته. تجلّدت وفتحت كعادتي كتابا كنت بصدد مطالعته، وواصلت من حيث انقطعت أجمع الكلمات والمفردات التي تبعثرت أمام عيني من شدّة اهتزازات العربة، وأعيد القراءة والرّجوع إلى السّطر الهارب من مكانه حتّى لا تنفلت منّي المعاني خارج العربة فألتقطها عند فتحة النّافذة التي يصفّر من خلالها الهواء البارد القارس، وأحيانا جريا قبل مغادرتها العربة من بابها الذي تعطّل نظام غلقه، فدفع بالمسافرين لإخلاء السّقيفة شديدة البرد والتّجمع داخل العربة بين المقاعد لينعموا بالدّفء البشري.
تعوّدت ألاّ استوعب ما قرأت دون هذا الجهد. وأصبح يستهويني أن تختلط الأسطر وتصبح بلا فاصل بينها، على صفحة طالما وجهتها للنّافذة أسترق من خلالها ما تبقّى من إضاءة النّهار الهارب خلف قطار مندفع، يخترق أبواب اللّيل ولا يستقرّ إلاّ في أحلك أوقاته. أين الإنارة؟ لماذا ظلّت فوانيس العربة منطفئة؟ هل من أحد يبلغ السّائق؟ ربّما نسي تشغيل قرص الإضاءة على لوحة القيادة. لا أحد اهتم بالإضاءة سواي. أنا الوحيد الذي مسك بكتاب وتعذّر عليه القراءة دون إنارة.
والآن هل لي أن أشغل نفسي بشيء آخر غير الإلهاء بمن حولي من هؤلاء الجالسين الذين اتخذوا مقاعدهم من دون هؤلاء الواقفين؟ أو أن أفعل مثلهم، فهم ليسوا بحاجة لإنارة لأنّهم ملهون بشاشات هواتفهم الذّكيّة المضيئة تلقائيّا. لعلّ منهم من يطالع كتابا رقميّا أو يتابع فِلْمًا أو يتصفّح إحدى المجلاّت، ولكن جميعهم في كلّ الحالات يبحرون في فضاءات  افتراضيّة، فلم يعودوا في وعي بعالمهم الحاضر، هذا القضاء التّقليدي الذي وجدت نفسي فيه واقفا في عربة قطار مظلمة. لم يكتشفوا ظلام العربة ولا وجودي واقفا حتّى يستشعروا تعبي، فترقّ قلوبهم لحالي. 
وفي الأخير ما ذنبهم أن أدركوا مقاعدهم قبل الآخرين؟ وما ذنبهم أن توفّر لديهم دون عناء كبير هواتف من الجيل الجديد تعرض عليهم حيوات أخرى يعيشونها ويكسبون منها  أموالا افتراضيّة حتّى أصبحوا أغنياء كما لم يكن أحد يتوقّع. وعجبي أكبر أنّ ثرواتهم الافتراضيّة المكدّسة أصبح يمكنها الانزلاق للفضاء الحقيقي وتصرف في شؤون حياتهم التي لم تعد عادية. فهمت وأنا اتصفّح وجوه الشّباب وأتابع انقباضها أحيانا وانشراحها أحيانا أخرى دون تأثيرات من هنا ولا من هناك، أنّهم وإن وجدت أجسامهم في الفضاء الذي نحن فيه، فإنّ عقل كلّ واحد منهم مسلوب ليعيش خارج هذا العالم في فضاءات مغايرة بأبعاد أخرى لا أعرف ما يربطها بالفضاء الذي يحوي أبدانهم. ولكنّني كنت متيقّنا أنّه لا تفصلها عن فضائنا التّقليدي إلاّ برازخ كما جاء في الذّكر الحكيم «بينهما برزخ لا يبغيان». فيكفي أن تسترعي انتباه أحدهم حتّى يعود إليك فيتواصل مع بيئته،  فيكتشف حينها كم كان مخطئا أن تركني ومن مثلي واقفين وهو الشّاب المتعافى قاعد. وتحضر حينها ثقافة وأخلاق واقعهم التي علمتهم كيف يحترمون الكبير ويبجلونه.
احذروا أن تقرؤوا نقصا في أولادنا، فهم يعيشون عوالم من دوننا وبيئات لم نكن صنعناها ولم نكن قادرين على الاستئناس بها. فتحت لهم أبواب ونوافذ بقيت موصدة في وجوهنا، فلم نتطلع إليها ولم نكن من مستكشفيها. هم يبصرون بأعين جديدة نحن عمي بدونها. وكم كنت ولازلت أعشى دون نظاراتي.
وأنا أغيّر من وقفتي وأسند ظهري إلى ما يناسب وضعي الجديد معتمّدا دائما على السّاقين في آن واحد باعتبار أنّ كليهما لا تقوى وحدها على حمل ثقلي طول السّفرة، التقط نظري وجه شابّة جالسة على خلاف أندادها، تبدو طالبة لم تتعلّق بهاتفها مثل الآخرين والأخريات، ولكنها انكمشت في مقعدها حتّى باتت في حجم طفلة. لم أتمعّن من وجهها لغياب الإنارة وانتشار الظّلمة، ولكن ذهب اعتقادي حتّى بلغ اليقين أنّ البنت تشكو ربّما هبوطا في السّكري جعلها غير قادرة على الحركة أو التّفكير وغلبها حياؤها فصبرت. 
حالات لم تكن تخفى عنّي في مثل عمري وأنا أبٌ لأولاد استقلّوا بعيدا عنّي ليتابعوا تعليمهم بالعاصمة وبولايات داخل البلاد. كنت أخشى أن يبيت أحدهم في ليلة دون عشاء. وما أخشاه على أولادي يحزنني أن يحصل لبعض الطّلبة ممّن لا معيل لهم ولا سند. فعلا كنت كلّما وضعت بين يدي شيئا من الأكلات السّريعة التي طالما التجئ إليها في تنقّلاتي «سندويشا كان أو مقلوبا» أسأل نفسي كم مِن الطّلبة غير القادرين على اقتناء مثل ما توفّر أمامي لا يسدّ له رمق ؟ وأجد الجواب دون عناء على وجوههم لمّا أنظر فيها ولمّا أسأل لماذا كلّ هذا العزوف عن الدّراسة الجامعيّة، أو لماذا كثر الفساد في مدارسنا وكلياتنا؟.
مازلت أتململ في الظّلمة الكاشفة لأسرار ما كانت لتكشفها الأنوار ولا تعكسها مرآة، فإذا بفوانيس العربة تنشر الضّوء فتنير أجسادا متيبّسة ووجوها باهتة وغائبة، إلاّ تلك التي كانت مباشرة أمام عيني وقد أنارها هذا الضّوء وفضحت حياءها حبّات عرق انبجزت على جبينها من شدّة ما أصابها.