اقتصادنا

بقلم
أحمد الإدريسي
المقاصد الشّرعيّة من تداول الأموال عند الشّيخ محمد الطّاهر بن عاشور (1/2)
 المحور الأول: مقصد إثبات المال؛
إذا كان المقصد العام من التّشريع المالي، كما يقول المقاصديّون، هو؛ «إثراء الأمّة، أفرادا ومجتمعات ودولا»، لأجل القيام بدور الخلافة على منهج العبادة. فإنّه يجب أن تكون ملكيّتها ثابتة لأصحابها بوجه صحيح دون منازعة، وأن يتمكّنوا من التّصرّف فيها بحرّيّة، ما لم يخالف أحد شرع اللّه والقوانين المنظّمة، وما لم تتعارض تصرّفاته مع مصالح الآخرين.
أولا: إثبات الأموال
 من مقاصد الشّرع الحكيم في إثبات تملّك المال واكتسابه:
1 - ألاّ ينتزع المال من مالكه بدون رضاه، كما قال النّبي ﷺ: «مَن أحيا أرضًا ميّتةً فَهيَ لَهُ، وليسَ لعِرقِ ظالمٍ حقٌّ)(3). 
2 - ألاّ يؤخذ مال من مسلم إلاّ عن طيب نفس منه وبرضاه، يقول الشّيخ الطّاهر بن عاشور في تفسير قوله تعالى؛ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ﴾(4) «وهذه الآية أصل عظيم في حرمة الأموال، وقد قال رسول اللّه ﷺ: لا يحلّ مال امرئ مسلم إلاّ عن طيب نفس. وفي خطبة حجة الوداع: إنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام»(5).
3 - اختصاص المالك بما تملكه بوجه صحيح ولذلك شرع الإشهاد، وعلى ذلك بُـنيت أحكام صحة العقود وحملها على الصحة والوفاء بالشرط وفسخ ما تطرق إليه الفساد.
4 - حرية مالك المال في التصرّف فيه تصرفاً لا اعتداء فيه على أحكام الشريعة، ولا ضرر فيه على الغير.
ثانيا: وسائل إثبات المال؛ 
شرّع الإسلام طرق الإثبات عموما، ووسائل إثبات المال خاصّة، ونظّم القانون طرق إثبات الحقوق، ومنها:
1 - الإقرار: 
يعرف الإقرار بأنّه اعتراف شخصيّ بادعاء يوجّهه إليه شخص آخر. وأنّه: «اعتراف الخصم أمام القضاء بواقعة قانونيّة مدّعى بها عليه، وذلك أثناء السّير في الدّعوى المتعلّقة بها الواقعة».
2 - شهادة الشّهود أو البيّنة الشّفهيّة: 
قبل اكتشاف الكتابة كانت البيّنة الشّفهيّة تحتل الصّدارة في مجال الإثبات، عن طريق شهادة الشّهود، وهي: «التّصريح الذي يدلي به الشّخص أمام القضاء بواقعة صدرت من غيره وترتّب عليها حقّ لهذا الغير». وقيل هي؛ «إخبار من شخص ليس خصما في مجلس القضاء بإجراءات معيّنة منها حلف اليمين بما رآه أو سمعه، أو أدركه بحاسّة من حواس الإدراك». 
ويشترط في الشّاهد أن يكون راشدا متمتّعا بكامل الأهليّة، كما تقبل شهادة الطّفل المميّز وتسمع شهادته بدون يمين وتكون على سبيل الاستئناس والاستدلال، كما يشترط في الشّاهد ألاّ يكون محكوما عليه بعقوبة جنائيّة لم تنته مدّتها بعد، ويمكن أن تُسمع منه على سبيل الاستدلال. وتوجد حالات يجوز فيها الإثبات بشهادة الشّهود، والتي اختصّ بها القانون التّجاري.
3 - المعاينة: 
يقصد بالمعاينة انتقال القاضي أو من يكلّفه من أعوان القضاء كالمحضرين إلى مكان النّزاع لمعاينته بنفسه أو بموجب أمر صادر عنه، ويعتبر المشرّع المعاينة طريقةً من طرق الإثبات يلجأ إليها القاضي من تلقاء نفسه أو بطلب من أحد الخصوم لإثبات واقعة مادّية تستوجب معاينتها للفصل في النّزاع. 
4 - الكتابة: 
وتتضمّن المحرّرات. فمع اكتشاف الكتابة تضاءل دور البيّنة خاصّة في زمان النّاس هذا، والذي يمنحها القوّة الثّبوتيّة المطلقة. والمحرّرات نوعان: 
- المحرّرات الرّسميّة: وهي«العقد الرّسمي الذي يثبت فيه موظّف أو ضابط عمومي أو شخص مكلّف بخدمة عامّة وفق ما تمّ لديه أو تلقّاه من ذوي الشّأن، في حدود سلطته واختصاصه».
- المحرّرات العرفيّة: ويقصد بها كلّ ورقة مكتوبة يحرّرها أطراف عاديّون دون تدخّل أطراف رسميّة، وهي نوعان:
* المحرّرات العرفيّة المعدّة للإثبات، ولابدّ فيها من توفّر شرطيّ التّوقيع والكتابة؛ لانعقاد المحرّر العرفي المعدّ للإثبات.
* المحرّرات العرفيّة غير المعدّة للإثبات، وتتمثّل في: البرقيّات، والرّسائل، والدّفاتر التّجاريّة، والأوراق المنزليّة، وكلّ ما يفيد براءة ذمّة المدين، أو يفيد التّأشير على سند الدَّين.  
5 - اليمين: 
وتسمى أيضا «اليمين الحاسمة» لأنّها تحسم النّزاع، وهي اليمين التي توجّه من أحد الخصمين للآخر بقصد حسم النّزاع، حيث يجوز لكلّ من الخصمين أن يوجّه اليمين الحاسمة إلى الخصم الآخر. وقد حذّر الإسلام من اليمين الغموس، لأنّها يمين كاذبة يقتطع بها الإنسان حقّ أخيه من غير موجب شرعي. لذلك شدّد النّبي ﷺ الوعيد فيها، فعن أبي أمامة رضي اللّه عنه، أنّ النّبي ﷺ قال: (من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرئ مسلم بغير حقّ، فقد أوجب اللّه له النّار، وحرّم عليه الجنّة)(6) .  
6 - الخبرة القضائيّة: 
أصبحت الخبرة طريقا من طرق الإثبات، خاصّة مع تطوّر وسائل العصر؛ العلميّة والتّكنلوجيّة، ولاسيّما في بعض المسائل الفنّية الدّقيقة، أو القضايا العلميّة التي يصعب على القاضي إدراكها والوقوف على حقيقتها دون الاستعانة بخبير أخصّائي، فالخبرة هي وسيلة للتّحرّي في جميع فروع القضاء سواء منها المدني أو الجنائي أو التّجاري أو الإداري.
7 - اعتبار القرائن: 
القرينة هي ما يستخلصه القاضي أو المشرّع من أمر معلوم الدّلالة على أمر مجهول، وبذلك تعتبر القرائن أدلّة غير مباشرة، حيث لا ينصّ الإثبات فيه مباشرة على الواقعة محلّ التّعدّي، وإنّما على واقعة أخرى بديلة. والقرائن نوعان:
- قرائن قضائيّة: يترك فيها التّقدير للقاضي لاستنباط كلّ قرينة لم يقرّرها القانون. 
- قرائن قانونيّة: وهي التي يستنبطها المشرّع من حالات يغلب وقوعها، والقرينة القانونيّة تغني من تقرّرت لمصلحته عن أيّة طريقة أخرى من طرق الإثبات، ومعنى ذلك أنّ القرينة إذا وجدت في صالح المدّعي فإنّها تعفيه من عبء الإثبات المباشر الذي كان مكلّفا به.
المحور الثاني: مقصد حفظ المال؛
حفظ المال من الضّروريات الخمس، ويشمل المال العام والمال الخاصّ، قال اللّه تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾(7). وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أنّ النّبي ﷺ قال: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا» (8) . 
وقد بيّن أئمة الأصول والمقاصد، أنّ مقاصد الشّرع متعلّقة بمصالح العباد في الحال والمآل، ثمّ بيّنوا أنّ مصالح العباد رهينة بحفظها، وبالمقابل يعتبر تركها إضرارا بمصالحهم، مستدلّين بعموم نصوص الشّريعة الإسلاميّة. يقول الإمام الغزالي رحمه اللّه: «إن مقصود الشّرع من المال خمسة؛ أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكلّ ما يتضمّن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكلّ ما يفوّت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة»(9) . وبالنسبة لـ «حفظ المال»؛ أوجب الشّرع الحفاظ عليه صيانة لمصالح العباد؛ فحرّم ما يهدّد وجوده كتبذيره وأكل أموال النّاس بالباطل، وأمر بكلّ ما يؤدّي إلى تعزيزه وتنميته بالكسب الحلال والاستثمارات المباحة، وإنفاقه في الوجوه التي رغب الشّرع فيها. ويكون ذلك بثلاثة أمور أساسيّة، وهي:
1 - حفظ أجزاء المال المعتبرة من التّلف بدون عوض.
2 - حفظ مال الأمّة من الإتلاف.
3 - حفظه من الخروج إلى أيدي غير الأمّة بدون عوض.
وحفظ المال يكون أيضا من جهة الوجود ومن جهة العدم:
1 - حفظ المال من جهة الوجود:
شرّعت أحكام لحفظ المال من جهة الوجود، ومنها الحثّ على العمل، والكسب الحلال، والبحث عن الرّزق، وإجلاله، وجعله عبادة وقربة يثاب عليها صاحبها. قال تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ﴾(10). وقال عز وجل: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا﴾(11) 
ومن هذه الأحكام:
- إباحة البيوع والإجارة وكما يسهم بطريق مشروع في تبادل الأموال وترويجها بين النّاس.
- التكسّب وهو إيجاد ما يسدّ الحاجة إمّا بعمل أو بدين أو بالمرضاة مع الغير.
- العمل في الشّيء مع مالكه، كالمغارسة والقراض والشّركة. والتّبادل بالعوض عن طريق انتقال المال بالتّبرع أو الإرث.
- إحياء الأرض الموات. وقد فصّل الطّاهر بن عاشور هذا الكسب والكدح بقوله: «وقولي في التّعريف؛ حاصلاً بكدح ، أردت به أنّ شأنه أن يكون حاصلاً بسعي فيه كلفة ولذلك عبّرت عنه بالكدح وذلك للإشارة إلى أنّ المال يشترط فيه أن يكون مكتسباً والاكتساب له ثلاثة طرق؛...) (12) . ثمّ ذكر هذه الطّرق وشرحها.
2 - حفظ المال من جهة العدم (13) :
أ- أحكام لحفظ المال من جهة العدم:
من أهمّ الأحكام التي شرّعت لحفظ المال من جهة العدم:
- تحريم تبذير المال وإضاعته، ولو في المباح المشروع.
- ضمان المتلفات، ولو ممّن اضطر على ذلك الإتلاف.
- تحريم السّرقة والرّشوة والغصب، وتشريع العقوبات والزّواجر المترتّبة على كلّ أشكال أكل أموال النّاس بالباطل؛ يقول الشّيخ الطّاهر بن عاشور رحمه اللّه في تفسيره لقوله تعالى ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾(14) : «وخصّ هذه الصّورة بالنّهي بعد ذكر ما يشملها وهو أَكل الأموال بالباطل؛ لأنّ هذه شديدة الشّناعة جامعة لمحرمات كثيرة، وللدّلالة على أنّ معطي الرّشوة آثم مع أنّه لم يأكل مالاً بل آكلَ غيره، وجُوز أن تكون الواو للمعية و«تدلوا» منصوباً بأن مضمرة بعدها في جواب النّهي فيكون النّهي عن مجموع الأمرين أي لا تأكلوها بينكم مُدلين بها إلى الحكام لتأكلوا، وهو يفضي إلى أنّ المنهي عنه في هذه الآية هو الرّشوة خاصّة، فيكون المراد الاعتناء بالنّهي عن هذا النّوع من أكل الأموال بالباطل)(15).
ب- أهم الوسائل لحفظ المال من جهة العدم:
منع الاعتداء على الأموال، ومنع الإسراف والتّبذير، وتأمين ثقة المكتسب بالأمن على ماله، وغرم المتلفات، وتحريم الرّبا.  
الهوامش
(1) ابن عاشور؛ محمد الطاهر. «مقاصد الشّريعة الإسلاميّة». (دار الكتاب المصري، القاهرة، ودار الكتاب اللبناني، بيروت، الطبعة الأولى: 2011م). من ص:290 إلى ص:320.
(3) رواه الإمام البيهقي في «السنن الكبرى»، كتاب: الغصب. باب: ليس لعرق ظالم حق. حديث رقم: 10802.
(4) سورة النساء - الآية 29
(5) ابن عاشور؛ محمد الطاهر. «تفسير التحرير والتنوير». (الدار التونسية للنشر، طبعة 1984م). ج:5 / ص: 24.
(6) رواه الإمام مسلم في صحيحه، باب: تغليظ اليمين الكاذبة عمدا. حديث رقم: 137.
(7) سورة النساء - الآية 29
(8) رواه الإمام البخاري، كتاب: الحج، باب: الخطبة أيام منى. حديث رقم: 1664. ومثله في صحيح مسلم، حديث رقم: 1679.
(9) الغزالي؛ أبي حامد. المستصفى. تحقيق وتعليق: محمد سليمان بن الأشقر. (مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1417هـ-1997م). ج:2 / ص: 284. 
(10) سورة الجمعة - الآية 10
(11) سورة الملك - الآية 15
(12) ابن عاشور؛ محمد الطاهر. «تفسير التحرير والتنوير». (الدار التونسية للنشر، طبعة 1984م). ج:2/ص:188-189.
(13) الأصل في هذه النظرة المقاصدية من كتاب الموافقات للإمام الشاطبي. 
يُنطر: ج: 2 / ص:266 وما بعدها. (مرجع سابق).
(14) سورة البقرة - الآية 188
(15) ابن عاشور؛ محمد الطاهر. «تفسير التحرير والتنوير». (الدار التونسية للنشر، طبعة 1984م). ج:2/ص:190.