نقاط على الحروف

بقلم
جواد أحيوض
التحدّي الاسرائيلي وعلاجه الائتماني من خلال «ثغور المرابطة (2/4)
 معالم النظريّة الائتمانيّة: 
قبل الحديث عن رمزيّة بيت المقدس وبعدها الحضاري، يتعيّن علينا أوّلا الوقوف على «المقاربة الائتمانيّة» لمعرفة طبيعتها وفلسفتها، لأنّ تحديد معالم بيت المقدس، هو تحديد يستمدّ هويّته بالأساس من خلال هذه المقاربة، لذا كان الوقوف على «النّظرية الائتمانيّة» الأساس الأول الذي سيزودنا بمفاتيحَ لفهمٍ أعمق.  
إن خوض طه في التّحدي الاسرائيلي،على حدّ زعمه، خوض فلسفي، ليس كخوض الآخرين؛ الذين يردّون الفلسفة الى التّاريخ أو الى السّياسة، فهو إذنْ خوض إبداعي جديد حول هذا التحدّي المهلك، سلك فيه صاحبه طريق التّأمل الفلسفي البعيد والبديع، لم يسبقه فيه أحد حسب ادعائه. وتكمن أهميّة هذا الإبداع التّفلسفي في التّحدي الكياني الذي تواجهه الأمتين: العربيّة والإسلاميّة، في كونه، يتأسّس على ما أطلق عليه في سابق مؤلّفاته (روح الدّين، وبؤس الدّهرانيّة، ودين الحياء) باسم «النّظريّة الائتمانيّة»(1). وهي عبارة عن «نظريّة أخلاقيّة، تتأسّس على حقائق الإنسان التي اشتركت فيها الأديان، وتوارثتها الحضارات، سواء أقرّت هذه الحضارات بأصولها الدّينيّة أو أنكرت هذه الأصول»(2). ولقد سمّاها طه في كتابه «دين الحياء» بـ «النّظريّة الميثاقيّة» نظرا لطبيعة «العلاج الائتماني» الذي قام به طه في هذا الكتاب، والذي كان إطاره: نقد «النّظريّات العَقديّة» للفلسفات الغربيّة ذات العقد الاجتماعي، المبنيّة على مسلّمة «أنّ الإنسان لم يشهد الاّ العالم المادّي»(3). 
إنّ النّظريّة الائتمانيّة هاته، مبنيّة في أساسها على ميثاقين: 
1. ميثاق الإشهاد؛ وهو الميثاق الذي أقرّ فيه الإنسان بربوبيّة خالقه، لما تجلى له بأسمائه الحسنى(4)  (هو الأصل في وجود الفطرة (5)). 
2. وميثاق الائتمان؛ وهو الذي حمَل بموجبه الإنسان أمانة القيم التي تجلّت بها هذه الأسماء الحسنى(6) (هو الأصل في وجود الأمانة). 
والنّظريّة الائتمانيّة هاته، بشقيها (الإشهادي والإئتماني) عبارة عن خروج الإنسان من مماته بالعودة الى الحالة الأصليّة، مع العلم أن مبدأ العَوْدِ الى الحالة الأصليّة، يفيد أنّ الإنسان نكث الميثاقين اللّذين أخذهما رَبّه منه في عالم الملكوت، لمّا وقع في الخيانة لِما واثق رَبّه عليه من حفظ إيمانه «يوم الإشهاد» وحفظ التزامه الأخلاقي «يوم الإئتمان». 
إنّ القصد من هذه المواثقة في «النّظرية الائتمانيّة» ليس تنظيم المِلكيّة حتّى لا يقع التّنازع والتّقاتل عليها، وإنّما توريث الائتمان، حتّى لا يبقى ما يُتنازع عليه، وتُسفَك الدِّمَاء من أجله؛ فهي تذكّرُ الإنسان بالمالك الحقّ الذي واثَقَه، إِذْ انّ التّواثق بين الخالق والمخلوق الإنساني ليس تعاهدا اجتماعيّا أو سياسيّا يضبط علاقات تبادل المصالح بين المواطنين، وإنّما هو تعاهد أخلاقي أو روحي يضبط علاقات التّعامل بين المؤمنين وخالقهم؛ فيلزم منه أنّه يتأسّس على عدد من المعاني الدّقيقة، التي لا يمكن أن ينشئها العقل المادّي من عنده، كـ «الوعد» و«الصّدق» و«الثّقة» و«الوفاء»؛ كما لا يلزم أنّ «التّعاقد الاجتماعي» لا يستقيم الاّ اذا استند الى هذه المعاني الرّوحيّة، فيكون بمنزلة الفرع من التّواثق الرّوحي (7) .
الإنسان المقدسي والمنظور الائتماني:
لقد بنى طه، مقاربته هاته، على الأسس المميّزة للإنسان الفلسطيني من خلال معرفة هذا الأخير حقّ المعرفة، في إطار علاقته بالأرض المقدّسة.
ولأنّ الإنسان الفلسطيني يمتاز بخصوصيّة أرضه التي هي («ملتقى العوالم» الشّهادي منها والغيبي؛ وارثه «ملتقى الأبعاد» الزّمني منها والسّرمدي)، فإنّ «المقاربة التّاريخيّة» -حسب طه- لا تفيد في معرفة حقيقته، لأنّها تُسقط بُعده السّرمدي، حتّى ولو لم تسقط عالمه الغيبي؛ كما لا تفيد، في هذه المعرفة، «المقاربة القانونيّة» لأنّها تسقط عالمه الغيبي ولو لم تسقط بُعده السرمدي، ولا، بالأولى، تفيد فيها «المقاربة السياسية» لأنّها تسقط عالمه الغيبي وبُعده السّرمدي كليهما. وبالتّالي يرى طه، أن «المنظور الائتماني»، هو المنظور الأصلح لعلاج مشكلة بيت المقدس؛ لأنّ الأصل في الصّراع الاسرائيلي الإسلامي، هو احتلال أرض ليست كالأراضي، إذ هي ملتقى الأديان المنزّلة؛ فعلاقة هذا الصّراع بالأرض تابعة لعلاقته بالدّين، لذا يجب حسب طه، أن يتقدّم اعتبار الدّين على اعتبار الأرض (8). 
ومن هنا، فإنّ الإنسان الفلسطيني لا يمكن أن تُعرف حقيقته، ولا أن تُدفع أذيّته، الاّ بهذه المقاربة التي تصل العالم الشّهادي لأرضه بعالمها الغيبي، كما تصل البعد الزّمني لإرثه ببعده السّرمدي.
ولأجل هذا نجد طه، على وجه التّحديد، قد سلك مقاربة فلسفيّة لا تجرُّد الأرض الفلسطينيّة من أيّ عالم من عوالمها، ولا تجرِّد الإرث الفلسطيني من أيّ بعدٍ من أبعاده. ويرى أنّ هذا المسلك هو الذي سيمكن المهتم بالقضيّة الفلسطينيّة من الاهتداء بطبيعة الأذى الذي يعانيه الإنسان الفلسطيني روحا ومادّة، وبالتّالي الاهتداء الى طريقة دفعه(9).
فهو إذن طرح جديد في: بُعده النّظري: بالرّهان على نوع الإنسان الذي تتوخّاه المقاربة الائتمانيّة بغية القيام بالواجب الحضاري الأمانتي تجاه الأرض المقدّسة. وفِي بُعْده العملي: الذي يطرح وسائل عمليّة بديلة مُمَكّنة من التّغلّبِ على التّحدّيات التي تواجهها بيت المقدس
المعالم الرّمزية لبيت المقدس :
لقد ركَّز طه في طرحه المقدسي، على أبعاد بيت المقدس الدّلاليّة الحضاريّة، التي جاءت المقاربة الائتمانيّة لتلامس جوهرها ومشكلتها بغية التّعامل معها تعاملا خاصّا، لا يشبه المقاربات الأخرى التي ذكرناها سالفا. لأنّ طبيعة «المقاربة الائتمانيّة» هاهنا، مبنيّة على الدّلالات الرّمزيّة لهذا «البيت المقدَّس»، فكلّما برزت الدّلالات، واستوعبتها النّفوس، استطاعت هذه الأخيرة الاقتناع بهذه المقاربة، على أنّها الأجدر والأنفع في معالجة المشكلة. فما هي إذن هذه المعالم الرّمزيّة؟
إنّ أول سمة للأرض المقدّسة؛ كونها، 
- أرضا ليست كالأراضي الأخرى؛ فهي ملتقى الأديان المنزّلة، وبالتّالي، تُعدُّ ميراثا روحيّا عظيما، خلَّفه الرُّسل والأنبياء عبر القرون، ولا يزال صداه يغشى أكناف بيت المقدس وسيبقى الى يوم الدّين. 
- وثانيها؛ أرض «الإسراء» وخصوصيّة هذا الإسراء النّبوي، الذي حصل بين مسجدين عظيمين من مساجد اللّه: المسجد الحرام والمسجد الأقصى؛ وحقيقة المسجد، أنّه البيت الذي لا يملكه أحد غير اللّه، بحيث لا أدلّ منه على حقيقة «الأمانة» التي تشغل ذِمّة الإنسان (10). 
- وثالثها أن بيت المقدس، بإفادته معنى «الصّلاة الجماعيّة للأنبياء» ينزل منزلة «الآيات الكونيّة»، وبالتّالي لا ينفكّ نظرنا الآياتي في فضائه المقدسي، لأنّ هذا النّظر يوسّع أفق الحكم على الأشياء بما يجاوز أفق العالم المنظور، واصِلًا له بعالم غير منظور-العالم الملكوتي/عالم المعاني الرّوحيّة والقيم الأخلاقيّة- لولاهُ ما كان (11)
وعلى أساس هذه الآثار الرّوحيّة، تجد «المقاربة الائتمانيّة» مكانتها البارزة في كونها الأجدر لمعالجة مشكلة بيت المقدس، ولقد بناها طه، على مبدإ أساسي، وهو أنّ لكلّ شيء بعدين، أحدهما، الصّورة، وهي المظهر الخارجي؛ والثّاني، الرُّوح، وهي الجوهر الدّاخلي، بناء على أنّ الرّوح هي الأصل في تفسير الصّورة (المظهر الخارجي) وأنّ الصّورة إنّما هي تعبير عن الرّوح أو تصوير لها (12). 
طبيعة الأذى الإسرائيلي:
وهذا المبدأ الائتماني، هو ما سيطبِّقه طه على الإيذاء الاسرائيلي، ليشخّص طبيعته. ومن خلال هذا المبدأ، تبيّن لطه أنّ صورة هذا الإيذاء تقوم، على وجه الإجمال في إيذاء الفلسطينيين من جانبين: أحدهما: إيذاء الأرض التي بارك فيها ربُّهم؛ والثّاني، إيذاء الإرث الذي أنتجته فطرتهم.  
وإذا ما تأمّلنا هذين الايذاءين، وجدنا أنّ روح «إيذاء الأرض المباركة» تتمثّل في إيذاء الذي بارك في هذه الأرض، أي «إيذاء الإله». وأنّ روح «إيذاء الإرث الفطري» تتمثّل في إيذاء من أنتج هذا الإرث، أي «ايذاء الإنسان». ومن هذين الايذاءين يخلص طه إلى نتيجة جوهريّة، هي الأساس في مقاربته الائتمانيّة للقضيّة الفلسطينيّة، وهي كما يلي: لمّا كانت الرّوح هي الأصل في تفسير الصّورة، وجب أن يكون «ايذاء الاله» هو الأصل في تفسير «إيذاء الأرض»، وأن يكون «إيذاء الإنسان» هو الأصل في «إيذاء الإرث» (13). 
إذن فالمشكلة هنا مزدوجة: 
- «إيذاء الإله» المتمثل في «احتلال الأرض»؛ عن طريق منازعة هذا الإله في «صفة المالك الحقّ»؛ اذ الحقّ سبحانه، هو المالك المطلق، الذي يؤتي الملك لمن يشاء، وينزعه ممّن يشاء، لكن هولاء الاسرائيليّون أبوا إلاّ أن يكونوا هم المالكين وغيرهم هم المملوكون، الى درجة استوى عندهم الأمران: المِلك والوجود (14).
- و«إيذاء الإنسان» المتمثّل في «احتلال فطرته» التي يصنع بها تراثه الأصيل؛ وهو على رتبتين: «قلب القيم» و«سلب الفطرة». فاحتلال الفطرة هنا، عبارة عن إفسادها لدى الإنسان الفلسطيني، بفصله عن بعض القيم الفطريّة، بما يجعله يتلقى بالقبول مفاسد احتلال أرضه. إلّا أنّ «قلب القيم» حسب طه احتلال جزئي، بينما «احتلال الفطرة» احتلال كلّي، أي نهاية في إفسادها، فيبقى الإنسان بلا فطرة قاطعا صلته بعالم الغيب الذي خرج منه، وهذا النّوع الكلّي من الاحتلال، هو ما عُرِف في الخطاب السّياسي والقانوني المتداول باسم «التّطبيع» بأنواعه الثّلاثة (التّطبيع الفلسطيني، والتّطبيع العربي والتّطبيع الإسلامي) (15) . 
في الحلقة القادمة سنتعرّف على «البعد الفاعل في المقاربة الائتمانيّة» المتمثّل في «المرابطة المقدسيّة» ولماذا طرحه طه عبدالرحمان مصطلحا بديلا لمصطلح «المقاومة». 
الهوامش
(1) ثغور المرابطة، ص11-12
(2)  ثغور المرابطة، ص 12
(3)  طه عبد الرحمن، دين الحياء: من الفقه الائتماري الى الفقه الائتماني: 1- أصول النظر الائتماني. المؤسسة العربية للفكر والإبداع: بيروت/لبنان، ط1 - 2017، ص 16-17
(4)  عالم الإشهاد، او الشهود،  ومعناه ان ترى الروح معاني غيبية حاضرة في المعاني المرئية. والإشهاد تحقق في عالم الغيب؛ بعد ان أشْهَدَنا اللهٰ على شهودِنا مرّتين: مرة، يوم الميثاق الاول في العالم الغيبي. والثانية، يوم بلوغ الدعوة إلينا في العالم المرئي. طه عبد الرحمان، [روح الدين: من ضيق العلمانية الى سعة الائتمانية، المركز الثقافي العربي: الدار البيضاء/المغرب، ط2-2012، ص284 و286].
فالإشهاد، او الشّاهديّة، هي التي أدّاها الحق سبحانه وتعالى على نفسه؛ فقد شهد على تفرّد ذاته العلية بهذه الوحدانية القدسية، وشهد على شهادة عباده بها في العالم الغيبي، ودلَّنا على حصول هذه الشهادة بوجود أثرها في الفطرة التي فطر النّاس عليها، والتي هي بمنزلة ذاكرتهم الغيبية. [روح الدين، ص384-385]
(5)  «الفطرة هي مستودع القيم الاخلاقية ذات الاصل الديني». دين الحياء، ص 14
(6)  دين الحياء، ص 17.
«فهو ميثاق يقوم على حفظ الحالة الائتمانية الأصلية، وهي الحالة الاولى التي عرض فيها الحقّ سبحانه وتعالى الأمانة على مخلوقاته، فأبت حملها، استعظاما لأمرها، الا الانسان، فإنّه ارتضى حملها؛ فهذا التّعهّد الأوّل، الذي واثق به الانسان ربّه هو الأصل في وجود الأمانة». (ثغور المرابطة، ص 40) (روح الدين: ص 448-452)
(7) دين الحياء، ص 17-19
(8) ثغور المرابطة، ص 12
(9) ثغور المرابطة، ص 20.
(10) ثغور المرابطة، ص 20
(11) ثغور المرابطة، ص 12 و 19 و 45-46
(12) ثغور المرابطة، ص 19-20
(13) ثغور المرابطة، ص 20. 
(14) ثغور المرابطة، ص 21-23
(15) ثغور المرابطة، ص 23-35