بهدوء

بقلم
د.ناجي حجلاوي
من التّفسير إلى التّفكير - سورة الفيل أنموذجا الحلقة 10 : قصّة الفيل في ضوء التّفكير 2/3
 مكابيون أم مكّة؟(1)
يذهب الباحث ناصر بن رجب إلى أنّ قصّة أصحاب الفيل هي عظة عربيّة استخلصت من تاريخ العبرانيّين التي تحدّثت عنها أسفار المكابيين خاصّة السّفريْن الثّاني والثّالث. وهي نصوص استثمرت موروث الشّرق المسيحي بما فيها المسيحيّة السّريانيّة. والسّفران يركّزان على سرد أحداث دارت ضمن محاولات جيش ملكي مشرك استخدم الفيلة في الهجوم على جماعة يهوديّة مؤمنة لغاية سحقها. وفي السّفريْن إشارة صريحة إلى التّدخل الإلهي لإنقاذ المؤمنين به والتّنكيل بقوى الشّرك وهزم فيلة الحرب بهزيمة ساحقة(2).
وإذ يخلص هذا الباحث إلى تقرير أنّ النّصّ التّوراتي ثاو وراء الخطاب التّفسيري الموروث. فإنّ الجدير بالملاحظة هو أنّ المفسّرين قد وجدوا في الثّقافة الكتابيّة سندا قوّيا لإشباع الولع بالتّفاصيل الدّقيقة والغريبة علما بأنّ المفسّر كلّما كان أغرب كان أشدّ قربا من العامّة وتأثيرا فيها. يقول إبراهيم النّظام فيما روى الجاحظ عنه: «لا تسترسلوا إلى كثير من المفسّرين وإن نصّبوا أنفسهم إلى العامّة وأجابوا في كلّ مسألة، فإنّ كثيرا منهم يقول بغير رواية على غير أساس وكلّما كان المفسّر أغرب عندهم كان أحبّ إليهم»(3). وفي هذا الاتّجاه يندرج ما ذهب إليه التّهامي نقرة من أنّ الأمر الخطير حقّا هو أن نجد في بعض التّفاسير القديمة الّتي اكتسبت لتقادم عهدها نوعا من القداسة عند النّاس أخبارا غريبة يرويها المفسّر ولا يعقّب عليها بالتّجريح أو التّضعيف، في حين أنّها من نسج خيال سخيف، لأنّ همّه أن يستوعب الأخبار عمّن سلف، ويحشد النّقول، ويجمع الرّوايات أيّا كان مصدرها، وإن كانت غريبة(4).
 إنّ ناصر بن رجب لم يعدم إمكانيّة الرّبط بين لفظتيْ الطّير والأجنحة المنسوبة صراحة في القرآن إلى الملائكة. والأجنحة لازم من لوازم الطّيران ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾(5). وعليه فإنّ المعادل التّفسيري للطّير الأبابيل، من غير المستبعد أن تكون الملائكة المصطفّة والمجتمعة أحيانا والموزّعة أحيانا أخرى. وهو ما ينسجم تمام الانسجام مع نزول الملائكة في غزوة بدر لتأييد المؤمنين بالسّكينة والتّثبيت في قوله تعالى: ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾(6).
واعتبارا لهذا الفهم الّذي ينهض على تأييد اللّه لطائفة المؤمنين لا يجد الدّارس وجها منطقيّا في تلاوة النّبي لهذه السّورة وتذكيره المشركين والوثنيّين بنصرة اللّه لهم مقابل جيش من أهل الكتاب. في حين أنّ المفترض هو تذكيرهم بنصر اللّه للمؤمنين به والموحّدين له على غرار نصره للرّوم، ﴿الم غُلِبَتِ الرُّومُ  فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ  فِي بِضْعِ سِنِينَ  لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ  وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾(7). بالإضافة إلى أنّ القرائن التّاريخيّة لا تثبت أيّ هجوم  عسكري على مكّة ولا وجود لفيلة مسخّرة في حرب على الحجاز. 
ولمّا تمّ الرّبط الوثيق بين ولادة النّبي وحدث الفيل، فإنّ بعض المستشرقين  أشاروا إلى الخطأ التّاريخي في هذا الرّبط(8). ويبدو أنّ تسرّب المرويّات الكتابيّة ضمن السّياق الثّقافي الشّفوي هو العامل الأساسي الكفيل بتوضيح ولع المؤمنين في كلّ دين بالاحتفال بالخلاص التّوحيدي والنّصر الإلهي العُلوي الآخذ بيد المؤمنين والمُعلي لكلمته ضدّ الأعداء المشركين.
إنّ التّشابه القائم بين قصّتيْ الفيل الإسلاميّة من جهة والمسيحيّة من جهة أخرى الواردة في سفريْ المكابيين الثّاني والثّالث، يمكن رصده في النّقاط التّالية: المدد الإلهي الّذي أنقذ يهود أورشليم من خطر الفيلة السّلوقيّة في المكابيين الثّاني يقابله المدد الإلهي الماثل في الطّيور الأبابيل الّتي انتقمت من جيش أبرهة الحبشي. وإذا سلّط اللّه طيورا ملوّنة تحمل حجارة على الجيش الحبشي فإنّ ذلك يعود بالدّارس إلى ما ورد في سفر الخروج «من أنّ الربّ قد أمطر على سدوم وعمورة كبريتا ونارا من السّماوات»(9).
وإذا مثّل «نيكانور» سائس الفيلة الشّرير في السّفر ذاته، فإنّه يصبح سائسا خيّرا في القصّة الإسلاميّة وهو نوفل بن حبيب الّذي أسرّ في أذن الفيل بأن يتعقّل ويرشد ويبرك. والقائد «ديميتريوس» السّلوقي الّذي قرّر أن يقيم ألْكيمُسَ لأعظم هيكل في العالم حسب المكابيين الثّاني في الإصحاح14، يناظره قرار أبرهة بإقامة القُلّيس أعظم هيكل لم يُر له من قبل نظير. 
وأمّا تضرّع يهوذا لربّه طلبا للنّصرة على الجيش السّلوقي السّاحق بفيلته الكثيرة. وتضرّع آلعازر في سفر المكابيين الثّالث وهما اللّذان أفضيا إلى التّدخّل الإلهي «الربّ العظيم والمجيد والإله الحقيقي كشف عن وجهه القدّوس وفتح أبواب السّماء من حيث نزل ملكان يرتديان المجد والشّكل المهيب فرآهما الجمع ما عدا اليهود»(10)، والنّتيجة هي سُحق جيش «بطليموس» بفيلته. وهذان التضرّعان يذكّران بتضرّع عبد المطلب على باب الكعبة، وهو تضرّع انتهى بتحطيم الأعداء والقضاء عليهم. 
وأمّا قوله: للبيت ربّ يحميه فهو صنو ما قاله يهوذا: «وقد احتشد العدوّ واصطفّ الجيش وأقيمت الفيلة في مواضعها وترتّبت الفرسان على الجناحيْن. تفرّس المكّابيّ في كثرة الجيوش وتوفّر الأسلحة المختلفة وضراوة الفيلة، فرفع يديْه إلى السّماء، ودعا الربّ الرّقيب صانع المعجزات لعلمه أنّ ليس الظّفر بالسّلاح ولكنه بقضائه يؤتي الظّفر من يستحقه»(11). وأمّا ما ذُكر من مصير «أبرهة» من تساقط أعضائه الواحد بعد الآخر إلى أن عاد إلى النّجاشي حيث انصدع صدره عن قلبه، فإنّ ناصر بن رجب يرى أنّه  يُحيل على ما تعرضّت إليه جثّة القائد «نيكانور» من أنواع التّنكيل، إذ أمر يهوذا المكابيّ بقطع رأسه ويده وكتفه وحمل كلّ ذلك إلى أورشليم. وأمّا ما عمل المسلمون على اعتباره تعظيما لميلاد النّبي الّذي سيُبعث بعد أربعين سنة فهو نظير ما أعده اليهود أنّ هذا اليوم الّذي انتصروا فيه على عدوّهم وعدوّ اللّه هو يوم عيد لهم يُحتفل به في كلّ عام (12) .
وفيما يتعلّق بما ذُكر في الرّواية الإسلاميّة مع مُقاتل بن سُليمان أنّ الفيلة رغم تناولها الخمرة وأنّها لم تتقدّم إلى هدم الكعبة، فإنّ سفر المكابيين الثّالث يذكر أنّ القائد «بطليموس» قد رسم خطّة جهنّميّة للقضاء على اليهود قضاء مبرما بواسطة خمسمائة فيل قد  جُنّت بما شربته من النّبيذ. ولكنّ اللّه سلّط على هذا القائد نومًا فوّت عليه الهجوم على اليهود. وفيما يتعلّق ببرك الفيل وارتداده على عقبيْه في القصّة الإسلاميّة فشبيه بما ورد في سفر المكابيين الثّالث من ذهول الملك المشرك وبيان ما جاء من أجله، فخافت الفيلة وأدبرت وانقلبت ضدّ الجنود المسلّحين الّذين كانوا يمشون خلفها فسحقتهم دوسا بالأقدام(13). 
إنّ الجدير بالملاحظة هو الإشارة إلى أنّ سفر المكابيين الثّالث ينهي القصّة باستسلام الملك المشرك «بطليموس» إلى اللّه وبالإذعان لقدرته الخارقة، في حين أنّ أبرهة الأشرم في القصّة الإسلاميّة يموت على دينه مصرّا على فعلته الّتي قرّر فعلها وهي هدم بيت اللّه. وإذا كان النّصر في سفريْ المكابيين حليفا لليهود المؤمنين فإنّ النّصر الإلهي في القصّة الإسلاميّة كان لصالح المشركين الوثنيّين، وهو ما جعل القصّة الكتابيّة أكثر انسجاما وأكثر تماسكا ممّا وردت عليه أحداث القصّة الإسلاميّة.
ويخلص ناصر بن رجب إلى أنّ الرّواية الإسلاميّة غير دقيقة في ضبط عدد الفيلة على خلاف الرّواية الكتابية الّتي تذكر عدد الفيلة بشكل نهائي غير مشكوك فيه. وإذ تصمت الرّواية الإسلاميّة عن كيفيّة تصرّف بقيّة الفيلة في الحالة الّتي رفض فيها الفيل «محمود» التّقدّم نحو الكعبة. فإنّ الفيلة بأسرها في القصّة المسيحية تتصرّف بشكل متشابه متمثّل في التّمرد على الجنود ودوسهم.
إنّ سلوك الفيل «محمود» يثير في الذّهن سؤالا مركزيّا مفاده أنّ تصرّفه الرّافض للتّقدّم يمثّل معجزة في حدّ ذاته وهو ما يدعو للاقتناع بالمدد الإلهي. وعندئذ تكون الحاجة إلى الطّير الأبابيل وإلى الرّجم بالحجارة أمرا لا فائدة منه. 
إنّ هذه الأوجه الدّاعمة للتّشابه بين السّياقيْن الثّقافييْن المسيحي والإسلامي يدعّم، حسب ناصر بن رجب، أنّ هذه المرويّات كانت تتمتّع بصدى كبير لدى التّوحديّين ولاسيّما تحت تأثير التّهديد الوثني الّذي تقوده الإمبراطوريّة السّاسانيّة المشهورة باستخدام الفيلة الهنديّة الشّرسة في الحروب. وهي ثقافة شفويّة كانت منتشرة في الأوساط النّاطقة باللّسان العربي.  
سلفت الإشارة إلى أنّ ناصر بن رجب قد انتبه إلى الرّوابط الدّلاليّة بين لفظة طير الواردة في السّورة والأجنحة الواردة في الآية الأولى من سورة فاطر. وعليه اعتبر أنّ الطّير استعارة طبيعيّة تطلق على الملائكة، وأنّ عذاب اللّه في كلّ مرة يتمّ إنزاله على يد الملائكة الطّائرة، وهو يستفيد من المنهجيّة القائمة على ضمّ الآيات الّتي تشترك في تناولها للقضيّة بعيْنها. ويبدو أنّ هذا الرّبط بين أجزاء السّور أكثر انسجاما مع الاستعارة القرآنيّة بصفة عامّة. وقد سلك هذا الباحث مسلكا مقارنيّا بين النّصوص الدّينيّة، فوقف على نقاط تشابه كثيرة بالقدر الذي خوّل له الانتباه إلى أنّ الأمّيّة الكتابيّة لدى العرب زمن التّنزيل قد سهّلت انقيادهم إلى الكتابيّين في مستوى فهم النّصوص وتفسيرها، لذلك زخرت كتب التّفسير بمرويّات تكاد تكون حرفيّة للنّصّ التّوراتي أو الإنجيلي. وهذا الجهد المقارني يعضده التّمعّن في السّيرورة التّاريخيّة لتعديل الفهم الّذي تشير إليه الكتب المقدّسة الّتي هي في جوهرها ليست كتب تاريخ. وعليه فقد بدا المحصول النّظري الذي توصّل إليه ناصر بن رجب من الآيات القرآنيّة محصولا معدّلا في ضوء الوقائع التّاريخيّة. وهذا الجهد يحيل على جهود باحث آخر هو قصي هاشم فاخر الّذي تناول تحليل السّورة بواسطة منهج لساني يسمّيه بالمنهج اللّفظي التّرتيلي. وهو ما سنتعرّض إليه في الحلقة القادمة إن شاء اللّه.
الهوامش
(1) كثيرة هي الدّراسات الّتي تصدّت لموضوع التّشابه بين ما أوردته كتب التّفسير وما ورد في العهديْن القديم والجديد من قبيل مصطفى بوهندي، نحن والقرآن: مقدمات في أصول التّدبّر: دراسة منهجية نقدية في علم التّفسير، مطبعة النّجاح الجديدة، الدّار البيضاء، ط1، 2002. وأكثر من ذلك ذهبت بعض الأعمال إلى رصد التّشابه بين النّصّ القرآني وما ورد في النّصوص الإغريقية، والبابلية. انظر يوسف الصّديق، هل قرأنا القرآن؟ أمْ على قلوب أقفالها، دار محمّد علي للنّشر ودار التّنوير للطّباعة والنّشر، تونس، لبنان، مصر، ط1، 2013. وعمر سنخاري، القرآن والثّقافة اليونانية، الصادر بباريس 2014 باللّغة الفرنسية. وفي هذا الصدّد تُمكن العودة إلى محمّد بالحاج سالم في مقال له بعنوان: القرآن والثّقافة اليونانية: عرض نقدي لكتاب عُمر سنخاري، مقال منشور بموقع «الأوان» الالكتروني www.alawan.org، بتاريخ 3 أكتوبر 2016.
(2) ناصر بن رجب، مكّابيّون وليس مكّة: الخلفيّة التوراتيّة لسورة الفيل،ج1، مقال منشور بمركز الدراسات والأبحاث العلمانية في العالم العربي، بتاريخ 05/10/2018. http://www.ssrcaw.org .
(3) الجاحظ، الحيوان، ج1، تحقيق عبد السلام هارون، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، ط2، 1965، ص343.
(4) التّهامي نقرة، سيكولوجية القصّة في القرآن، الشّركة التونسية للتّوزيع، ط2، 1987، ص279.
(5) سورة فاطر 35، الآية 1.
(6) سورة الأنفال 8، الآية 9.
(7) سورة الرّوم 30، الآيات 3،1.
(8) انظر Lammens, l’islam, croyances et institutions, IMP. Catholique, Beyrouth, 3éme édition,1943, jeunesse de Mahomet,p33. . ومحمّد العمارتي، السّيرة النبوية في كتاب الإسلام «عقائد ونظم»، مقال صادر ضمن مجلة دراسات استشراقية، السنة الثّالثة، العدد8، صيف 1437ه، 2016م، ص ص82،81.
(9) سفر الخروج 14، الآية 24.
(10) سفر المكابيبن 3، الإصحاح 6، الآية 18.
(11) سفر المكابيين 2، الإصحاح 15، الآيتان27،26.
(12) سفر المكابيين 2، الإصحاح 15، الآية 36.
(13) سفر المكابين 3، الإصحاح 6، الآيات 19، 21.