ونفس وما سواها

بقلم
د. سعيد الشبلي
أسرار النّفس البشريّة: قراءة قرآنيّة الحلقة 10 : نفس تهب نفسها
إنّ حديث القرآن عن النّفس يصل إلى قمّة معجزة في تبيين خصالها وتوضيح أسرارها وتفصيل أحكامها. ولا غرابة، فاللّه خالق النّفس وربّها وصانعها هو المتكلّم بالقرآن. يقول تعالى للنّبي ﷺ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾(1).
موضع الاعتبار في هذه الآية ومناط اهتمامنا فيها هذه المرأة المؤمنة التي وهبت نفسها للنّبي ﷺ. وقد حصل ذلك فعلا على ما جاء في كتب السّيرة (1) وحكمها أنّها حِلّ للنّبي ﷺ خالصة له من دون المؤمنين . فماذا تعني هبة المرأة نفسها؟ ولماذا قبل اللّه فعلها؟ ولماذا جعل نكاحها حلاّ للنّبي ﷺ دون غيره من المؤمنين؟  
إذا انطلقنا من عمل هذه المرأة المؤمنة ونظرنا فيما فعلت بنفسها، فسنجد أنّها وهبتها كاملة للنّبي ﷺ، والهبة كما نعلم لا تستردّ. فهل يجوز أن يعطي الإنسان نفسه؟ ولمن يجوز إعطاؤها؟ 
إنّ القرآن واضح الدّلالة بيّن الإشارة في تحريم إعطاء النّفس وبيعها لغير اللّه تعالى، بل إنّه عبّر بالبيع فجعله أسلوب التّبادل بينه وبين عباده المؤمنين ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم﴾(3).  فكيف يحلّ لهذه المرأة أن تهب نفسها للنّبي؟. والجواب وباللّه التّوفيق، أنّ النّفس الإنسانيّة لا تستقيم بدون عقل يلحقها بأنوار اللّه تعالى، ويحكم ربطها بربها، ويدرأ عنها عبادة الطّاغوت من دون اللّه الواحد القهار. والنّبي ﷺ عندنا هو العقل المستنير الكامل الذي كمله اللّه تعالى بكمالات الإنسانيّة، وجعله أنموذجها وقدوتها وأسوتها. فإذا رغبت نفس مؤمنة في كمال الإحصان، فلن تجد عقلا أرفع من النّبي ﷺ يعقلها. غير أنّ هبتها لنفسها تعني أن ليس لها حقّ استرداد هذه النّفس، أي أنّها قبلت كنفس مؤمنة أن تذوب في ذات عقل النّبي ﷺ وأن لا تعقل لها وجودا نفسيّا خاصّا بل أن تصبح ضمن دائرته وفي حوزته وداخل ملكيته. إن هذا الحكم الخاصّ يشرّع لفناء النّفس في العقل، و لكن في حالة واحدة لا تتكرّر وهي حالة النّبي ﷺ . لماذا ؟
لأنّ النّبي ﷺ بما هو عقل مؤيّد مسدّد مستنير بوحي ربّه، لن يجد في هبة المرأة المؤمنة نفسها له أي سبب للكبر والاستعلاء. وهو الأمر الذي لا يؤمن من جانب سواه. فأن تهب نفس نفسها بهذه الكيفيّة أمر له دلالته الحقيقيّة على مدى قوّة العقل النّبوي المكرّم، وقّوة جاذبيته وشدّة استقطابه وصلابة معدنه. والحقيقة أنّه عقل أقدس مكرّم ترجو من ورائه هذه الإنسانيّة الكادحة أن تنال مقاما محمودا، وأن تبعث بعثا نيّرا سعيدا بإذن اللّه تعالى. ثمّ إن هبة المرأة المؤمنة نفسها للنّبي تتوقّف على قبوله هو هذه الهبة، وقد قبلها ﷺ بقبول حسن، ثم زوّجها أحد أصحابه. فدلّ بذلك على كمال ذاته، وعلى أنّه عقل محض، ونفس كاملة لا تقبل المزيد بما تولاّها اللّه تعالى بأنواره وأسراره، و أنّه إنّما أَجْرَى القبولَ التزاما بالشّرع الحنيف الذي يحرض على قبول الهديّة وعلى عدم رفض الهبة إن لم يكن فيها ما يخلّ. 
وفي قوله تعالى على لسان موسى عليه السّلام :﴿إِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾(4) حقائق باهرة حول النّفس الإنسانيّة وأحكامها. فهناك أوّلا مسألة ظلم النّفس حيث يتبّين أنّه درجات، وأنّه في كلّ الحالات يعني تعدّي حدود اللّه، وأنّه في أقصى درجاته: الشّرك باللّه والكفر بنعمه. فقد رأينا أنّ الذي يخرج زوجته من دارها بدون أن تأتي بفاحشة مبيّنة ظالم لنفسه. وهنا نجد أنّ بني اسرائيل قد ظلموا أنفسهم باتخاذهم العجل. فالموقف من النّفس في كلتا الحالتين واحد وهو ظلمها، غير أنّه هنا يصل إلى قمّته بتنصيب اله آخر هو العجل وترك عبادة اللّه الرّحمان الرّحيم الذي نجّى هؤلاء من فتنة فرعون وملئه. وما يدلّنا على أنّ الشّرك باللّه هو أعلى درجات ظلم الإنسان لنفسه، الحكم الذي حكمه اللّه على بني اسرائيل حتّى يقبل توبتهم وهو أمرهم بقتل أنفسهم ﴿فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾(5).
إنّ الخالق البارىء قد يتجاوز على النّفس عديد أخطائها، ويغفر عديد زلاّتها، وقد لا يكترث في كثير من الأحيان لسعيها وراء شهوتها، إلاّ أنّه يغضب بالفعل ويتّخذ موقفا واحدا صارما في حالة إشراك هذه النّفس به إلها آخر. ولذلك استعمل اسمه البارئ هنا تأكيدا على صفة الخالقيّة وأنّه كما برأ الخلق يتبرّأ من ولايتهم إذا أشركوا به. إنّ الشرك تجاوز للحدّ الأعظم، وإذا أشركت النّفس فلا يرجى منها خير، ووقوعها في الشِّرْك دليل على  أنّها وقعت في شَرَك الشّيطان. فالشِّرك هو فخّ الشّيطان المحكم. ومن وقع فيه فهو نصيبه الذي لا يفرّط فيه، وهو حقّه المتّفق عليه. ولا ريب أنّ الشّيطان لا يترك هذا النّصيب على ما هو عليه، بل لا بدّ أن يحنّطه في معبده، وأن يحكم أسره ويعلّمه بعلاماته. فما الحلّ حينئذ؟ ويجيب القرآن الكريم:﴿فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ﴾. هذا الحكم الذي يبدو ظاهريّا حكما قاسيّا هو الأمل، وهو باب الخلاص(6). 
أجل ليس أمام الإنسان من حلّ هنا إلاّ ان ينتحر، ففي انتحاره حياته ونجاته وتوبة اللّه عليه. ولنذكر ما يفعله بعض أسرى الحروب، إذ يعلمون استحالة الخلاص من عدوّهم واستحالة النّجاة من كيده فيقومون بابتلاع السّم نكاية بالعدوّ وحفظا لأسرار بلادهم ومحافظة على شرف النّضال.
هذا بالضّبط العمل المطلوب بالنّسبة للنفس التي أوقعها الشّيطان في الشّرك باللّه، لابدّ لها من طهارة ولا تتمّ إلاّ بالدّم: أن تنتحر قبل أن يقدم بها الشّيطان على ربّه ليجعلها حجّة له أمامه على أنّه الصّادق يوم رفض السّجود للإنسان. لأنّه إن قدم بها ضمن قلادته الشّيطانيّة وضمن عبيده الملاعين، فلن تخلص وأيم اللّه من النّار، بل إنّ الشّيطان قد يطمع في أن يجد الحجّة والتّخفيف، أمّا هي فلا حجّة ولا تخفيف. 
إنّ المحارب الباسل يشرب السّمّ حفاظا على شرف النّضال. وهذه النّفس وحفاظا على حرمة اسم اللّه البارئ الذي نسيته، يجب عليها أن تنتحر. وانتحارها موتها الاختياري أمام اللّه ومن أجل اللّه وفي سبيل اللّه وتوبة إلى اللّه.
فإن فعلت ذلك فحينئذ عسى اللّه أن يتوب عليها. وتكون التّوبة هنا بظهور نفس جديدة عوضا عن النّفس الأولى الميتة قصاصا وجزاء وفاقا. يقول تعالى لبني اسرائيل :﴿فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ﴾. هنا تأكيد على أنّ العقل يبقى محاسَبا على مصير النّفس في كلّ الأوقات بل في أشدّ اللّحظات صعوبة وأسوأ أوقات النّفس وأردئها. يجب أن لا ينهار مشروع الإنسان، ومشروع الإنسان هو مشروع العقل المؤمن المستنير الحرّ الذي يرفض عبادة غير اللّه. وعلى الإنسان أن يناضل بشرف وبشراسة في سبيل هذا البقاء.
وعليه أن يعلم أنّه فوق الأرض في حرب، وأنّه لابدّ أن يتزوّد بآلة الحرب وأن يدخل في قاموسه كلّ مصطلحات الحرب والنّضال والقتال والانتحار والبعث والإحياء والصّدمة والعودة والكرّ والفرّ والخدعة والصّبر والصّمت. وعلى الإنسان أن يعلم أنّه قد هبط هو والشّيطان معا إلى الأرض، وأنّه لن يرجع إلى الجنّة إذا رغب في الرّجوع إليها، إلاّ وحده. و أنّه لا سبيل إلى ذلك إلاّ بقتل الشّيطان. أمّا الشيطان، فيئس من العودة يأس الكفار من أصحاب القبور. غير أنّه وبفعل اليأس هذا، أراد أن يعبث بكلّ المشروع وأن يحطّم الأمل، وهو يعمل في سبيل هذا بكلّ قواه. إنّ أسعد لحظات وجوده الفاسد أن يدمّر أجنحة هذا الإنسان، وأن يجعله حشرة زاحفة على بطنها تزداد تواريا في الأرض والتصاقا بها لا هروبا منها.
أن يقتل الإنسان نفسه يعني ظهور نفس أخرى، لأنّ مشروع الإنسان هو مشروع النّفس. وهذه النّفس الأخرى هي النّفس المطمئنة. وفي فعل الحرب والقتال تصل فعاليّة الإنسان إلى منتهاها، وتصل قتاليّته إلى قمتها.وبهذه الصّرامة يستطيع أن يتجنّب مصيرا مرعبا. 
إنّها مغامرة المغامرات والمخاطرة الأكثر إثارة، تلتقي فيها كلّ المشاعر، وتبرز فيها كلّ معاني إنسانيّة الإنسان، كيف لا وفعل التّدمير يصبح  فعل البناء، وفعل الفناء يصبح فعل البقاء. وبهذا يستعاد الشّرف الإنساني. فالشّرف الإنساني لا يستعاد إلاّ بالشّهادة. وبالشّهادة فقط يبرأ الإنسان إلى البارئ من نفسه فيتوب عليه. ولذلك فمشروع الإنسان في الإسلام هو مشروع الشّهادة. ولذلك كانت الشّهادة تعني دخول الإسلام وترك الشّرك في لحظة واحدة؛ فجمعت بين النّفي والإثبات. ذلك على التّحديد معنى قولنا «لا إله إلاّ اللّه». ويجب أن تبقى هذه الشّهادة مطلقة خالصة صافية نقية، ويجب أن يكون الإنسان مستعدا لإعلانها في كلّ الظّروف، في كلّ الأوقات وكلّ الأمكنة وفي أركان الأرض الأربعة. يقول تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا، وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾(7).
الهوامش
(1) سورة الأحزاب - الآية  50(2) جاء في تفسير بن كثير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت يارسول الله إني قد وهبت نفسي لك، فقامت قياما طويلا، فقام رجل فقال يارسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» هل عندك من شيء تصدقها إياه؟» فقال ماعندي إلا إزاري هذا.. الحديث» نفسير القرآن العظيم، بيروت دار الكتب العلمية،1994، ط 1، مجلد 3، ص 457(3) سورة التوبة- الآية111(4) سورة البقرة- الآية 54(5) سورة البقرة- الآية 54(6) حقّا إنّ ما جاء في كتب التّفسير من كون بني اسرائيل قام بعضهم إلى بعض وذلك بعد أن ظلموا أنفسهم باتخاذهم للعجل، فقتل بعضهم بعضا ولم يبال الرّجل منهم من قتل إن كان أبا أو أخا حتّى قُتل منهم سبعون ألف رجل، فعندئذ تاب اللّه عليهم. أقول، هذه الرّوايات لا يخفى مصدرها الإسرائيلي وهي ظاهرة الوضع متهاوية ،فمثل أولئك الصمّ العمي البكم إلاّ من رحم اللّه ما بلغوا في الإيمان هذا المبلغ، وما تحكّموا في أنفسهم هذا التّحكم حتّى يقتلوها. وهم أشدّ خلق اللّه كرها للموت بصريح آيات الذّكر الحكيم ناهيك أنهم ما إن أعلنوا التّوبة عن اتخاذ العجل حتّى جاهروا موسى عليه السّلام بما لا يقل عن اتخاذهم للعجل من سوء الأدب مع اللّه تعالى، فقالوا أرنا اللّه جهرة. انظر تفصيلا لهذه الرّوايات الواهية ، ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج 1، ص 86 وما بعدها. (7) سورة النساء - الآية 135