في العمق

بقلم
د.محرز الدريسي
العنف المدرسي: تمثلات التلاميذ ومدخل الجودة التربوية (5)
2 3- 2- مبررات العنف المدرسي أو معضلات المناخ المدرسي
أظهر تقرير اليونسكو (2017)(1) ندرة المدارس التي توفّر مناخا ملائما للتّعلّم وتتيح حياة مدرسيّة محفزّة للتّعلّمات، وهو ما أكّدته مختلف تقييمات العشريّة الفارطة من تدهور للمناخ  التّربوي في المدارس التّونسيّة، وبيّنت أنّ قرابة 60 % من التّلاميذ يدرسون في مدارس تسودها إشكالات انضباط (غيابات، تأخّرات، غشّ) وعنف مادّي ولفظي (تخريب، تهديدات...). وهو ما أثبتته أيضا عدّة دراسات من أنّ تردّي العلاقات التّربويّة داخل المدارس يؤدّي ضرورة إلى ظهور حالات من العنف والإخلال بالنّظام، وينظر إلى العنف المدرسي على أنّه عنف خاصّ ضمن فضاء خاصّ، ينتعش من طبيعة المؤسّسات ومن أزمة الضّبط الاجتماعي ومن «القلق المدرسي» ومن قواعد تنظيم الحياة المدرسيّة غير المكيّفة مع متطلّبات التّلاميذ.  تعدّ «مفروضة علينا ولم تتم استشارتنا» بمفردات تلميذ مشارك، إذ أنّ غالبيّة الذين تحادثنا معهم عبّروا عن شعور قويّ بالظّلم في المدرسة والإحساس باللاّعدالة، ووصفوا الفضاء المدرسي كفضاء اللاّمساواة بين حقوق الكهول (المربّين) وحقوق التّلاميذ، وأنّ «كلامهم لا يساوي شيئا تجاه كلام ورأي المدرّس»(2) ويذكرون أمثلة عديدة عن سوء استعمال النّفوذ، حيث حادثة سلوكيّة ولو بسيطة تفضي إلى إقصائهم ظرفيّا أو طردهم نهائيّا من المدرسة.
ويمارس التّلاميذ العنف إذا ما شعروا بالظّلم وعدم الاعتراف والاحتقار والحطّ من الكرامة،  وهذا يظهر  بشكل مكثّف في علاقتهم بالمدرسة من خلال المفردات المستعملة ومنسوب الكراهيّة أو على الأقل النظرة السّلبية مثل «تعيسة والقراية تفدّد والجو خانق ونجي للمدرسة كأني جاي للحبس»(3)، وتستفزهم وتدفعهم دفعا نحو الإيذاء والاعتداء على كلّ العلامات (الجدران، النّوافذ، التّجهيزات، النّظافة،المربّين...). ويتعمّق هذا الإحساس بالمرارة حين التّصريح بأنّ المدرسة «مافيهاش مستقبل»(4)، وانسداد للأفق المستقبلي، فالمناخ المدرسي ينمّي حالات من الضّيق والاختناق ويثير السّلوكات العنيفة ويغذّيها ويؤجّج تعبيراتها «يتبعونا حتّى في التّواليت» بعبارات مشارك. وتزداد تعكّرات المناخ المدرسي بسوء تسيير المدارس من خلال هرم الأقسام الذي يشكّل حسب تصنيف التّلاميذ، بتفريق المجموعات المتضامنة أو ممكنة التّضامن، وتفتيت وحدتها وتفكيك روابطها، حتّى لا تكون مصدر «إزعاج»  في الوسط المدرسي، بمعنى تتكوّن تركيبة الأقسام/ الصّفوف حسب المحاباة ، أقسام للتّلاميذ المتقاعسين أو المشوّشين أو من ذوي التّحصيل الدّراسي الضّعيف، وأقسام ذوي النّتائج الجيّدة والمقبولة و«العاقلين»، ولا تنفصل هيكلة الصّفوف عن نوع من «تصنيف» الانتماء الاجتماعي النّاعم(5)، «نحن الزّووالة يلمّونا مع بعضنا، القاعة المكسّرة لينا، والجدول الخايب لينا،  ونحس في عينهم الحقرة»(6)، ذلك أنّ كلّ مؤسّسة لا تخضع إلى معايير موضوعيّة، وإنّما تتأثّر  باعتبارات شخصيّة أو معرفيّة أو اجتماعيّة أو جهويّة. 
وتتجلّى المبرّرات الدّاخليّة للعنف المدرسي في سمة «التسلّط» التي تسم بعض الأعوان الإداريّين والتّربويّين في كثير من مواقفهم وتدخّلاتهم، فالمدير والمربّون يمثّلون السّلطة والقانون أكثر من رعاية قيم التّعاون والتّعاضد،  « كان الأوامر في وقتها وفي غير وقتها وعمرهم ما حكاو معنا»، وهي نقطة مهمّة استخلصناها من محادثتنا مع التّلاميذ. فضلا عن ضمور الاشتغال الجماعي والافتقار إلى فضاءات الحوارات لمناقشة الشّؤون اليوميّة للمدرسة، فجسور الحوار مغلقة مع تعطّل قنوات التّواصل. وتحدّث المشاركون عن غياب الاحترام «ما يقدروناش وما يحترموناش وما يسمعوناش». يمكن أن نفهم ذلك جزئيّا من  افتقاد  مسيّري المؤسّسات التّربويّة ومختلف الأسلاك إلى تكوين عميق في أساليب تنظيم مجتمع المراهقين وعدم إلمامهم بعلم النّفس التّربويّ، واعتماد الدّولة على تشغيل مؤطّرين تربويّين في الوسط المدرسي بآليات التّشغيل الهشّ. فالعنف صناعة محليّة ومؤسّسيّة، تنبع من داخل المدرسة ومن بين جدرانها. 
وأبانت لنا معظم أراء التّلاميذ المستجوبين عن تبريرات موضوعيّة لسلوكاتهم كردود عنيفة داخل المدرسة، ومنها تجاه عنف أعضاء الإدارة وسلك الإرشاد (الضّرب حتّى من المدير، الإخراج من القسم عنوة، ...). بمعنى أنّ أحد مصادر عمليّات الاعتداء تردّي المناخ المدرسي وتراجع الجودة التّربويّة، غالبا ما تحفزها وتدفعها نزعة حاقدة وكارهة لهذه المدرسة، التي لم تمكّن التّلميذ من الاندماج المدرسي وبما هي مصدر خيبته وفشله.  
يكشف المشهد المدرسي أنّ المدرسة بأنشطتها الحالية وهيكلتها وأسلوب اشتغالها الدّاخلي تؤكّد الخلاص الفردي بالاعتماد على مبدأ الاستحقاقيّة والتّنافس الشّرس حسب «فرنسوا دوبي وماري دوري بيلا»(7)،  ولا زالت توزّع «الخيارات المدرسيّة» (الأعداد)، وتنتج اللاّمساواة (الانتقاء) بين «المنتصرين» و«المنهزمين» داخلها، ولم تحقّق وعودها في تكافؤ الفرص وتقديم الخدمات. انتشرت داخلها مظاهر الوهن العلائقي بتقلّص الفرص التّربوية لتنشئة اجتماعيّة صلبة داخل المدرسة. وتبدو المدرسة على خلاف صورتها المعياريّة فضاء لروابط اجتماعيّة ضعيفة، وفضاء للإقصاء وللإيذاء والاعتداء، جعلها تعيش نوعا من «العجز الدّيمقراطي» حسب «فرنسوا دوبي»، فالحياة المدرسيّة لا تعدّ أرضيّة لقيم التّضامن والتّفاعل الإيجابي ، بل «تثير الفدّة والانزعاج» وفق مفردات أحد المتعلّمين، فهي مدرسة الفوق /الأعلى، ومدرسة الأدنى/ الأسفل، وغياب الرّوح الجماعيّة والتّلاميذ غير متساوين ناجح/ راسب، نتائج جيدة/ نتائج ضعيفة، شعب نبيلة/شعب غير نبيلة(8). نلحظ انقلابا عميقا صلب المدرسة العموميّة، تبدو بعض ملامحه في تأجيج العنف المدرسي، كنّا ننتظر منها تثمين الذّاتيّات، وتنمية شخصيّة التّلميذ وتطوير الكفايات الأفقيّة والمهارات الاجتماعيّة كما تنصّ على ذلك التّشريعات والنّصوص المرجعيّة، على خلاف ذلك، كرّست انمحاء الذّاتيّة التّلمذيّة/ الإنسانيّة وغرست الإحساس بالإخفاق الشّامل، « نشعر بالقهرة وأنّي ما نساوى حتّى شيء» (9)، خاصّة أنّها تثمن «التّميز» و«التفوّق» والانتقاء النّخبوي، ولا تولى أهمّية لمرافقة التّلاميذ ذوي الصّعوبات الدّراسيّة والسّلوكيّة «ما فماش حتى دعم أو مساعدة»(10).
تدفع هذه السّياقات الخانقة هذه الفئة/الضّحايا للبحث عن علامات تميّزهم وعن الاعتراف بهم  خارج الاستحقاقات المدرسيّة باعتماد أساليب الإيذاء اللّفظي أو المادّي مع أقرانهم أو مع المدرّسين ومحاولة إثبات الذّات بكلّ الطّرق اللاّمدرسيّة. وتتعدّد مبرّرات السّلوكات اللاّمدنيّة التي قد تنبثق من تصرّف بسيط مثل «شبيك تقحرلي، شبيك الدّز، نعملو عليه جو» بتعبيرات أحد المشاركين، إلى الاستفزازات البدنيّة والمسّ من الحرمة الجسديّة «يا طويل، ياقصير، يا بُطّي...»(11) والقدح في نوعية اللّباس «متاع بوك، من الحفصيّة، من أي متحف...»(12)  أو الانتماء المناطقي«ياقعر، ياجبري، من وراء البلايك» على حدّ مفردات تلميذ، وقد يتدحرج العنف اللّفظي إلى شجارات وعراك بسبب «سرقة الأدوات، تبادل الملابس، علاقات عاطفيّة»(13)، وقد يرتكز على خلافات بين الأقسام والشّعب والمعاهد أو نزاعات بين الأحياء السّكنيّة، وتجاذبات بين أحباء الجمعيّات الرّياضيّة، تنتقل من المدارج إلى ساحات المدارس. وعلى ضوء غياب آليّات المرافقة والتّأطير، تكون مجموعة الرّفاق «ملجأ رمزي» في الفضاء المدرسي وخارجه، يتقاسمون معهم التّجارب والرّموز والعلامات، وتشمل أشكالا تعويضيّة لغياب الرّأسمال المدرسي، وتتكوّن نتيجة لذلك تضامنات تلمذيّة ضدّ المدرسة، وتتبلور ثقافات فرعيّة تأخذ أبعادا مخالفة للمعياريّة المدرسيّة في (اللّغة، اللّباس، تسريحة الشّعر..)، وتصطدم القواعد المدرسيّة، وقد تجعل من العنف المدرسي لا مجرد سلوكات  فرديّة لدى بعض الشّبان بل قد يتحوّل إلى براديغم علائقي يمكن أن يتطوّر داخلها. 
ما استرعى انتباهنا في خطاب التّلاميذ تناولهم فضاء «السّاحة»، إذ رغم هامشيّتها المؤسّسيّة، وادراكها مساحة/استراحة، اعتبروها ميدانا حيويّا في تأجيج العنف، ففيها تجرّب «موازين القوى» والإستراتيجيّات الفرديّة والجماعيّة، وحالات التّنازع والجذب والتّدافع، وتبرز في سياقها تصرّفات «القيادة» و«التّبعيّة» بين المراهقين، وتتكوّن فيها ملامح ثقافة شبابيّة متمرّدة من خلال الأنشطة المشتركة خاصّة خلال الإعداد «لدخلة الباك السّبور»(14)حيث تتظافر جهود التّلاميذ من أجل «دخلة» ناجحة ومتميّزة عن المؤسّسات الأخرى وبين الشّعب الدراسيّة والانتماءات الكرويّة الأخرى، وتتجلّى النّزاعات في جمع الاشتراكات الماليّة لشراء الأزياء الرياضيّة الموحّدة وإعداد اللاّفتات والمعلّقات والرّسوم، أو في «الكراكاج»(15) كنوع من التّعبير الجيلي والشّبابي. وتتمّ هذه الاحتفاليّة الجماعيّة ضمن سلوك تحرّر ظرفي من ضغط المؤسّسة وتجاوز لبعض ضوابطها في التّصرّفات والشّعارات قد تصل إلى حدّ التّهوّر الاجتماعي أو إلى تخوم التّسيس، حيث استعملت قضايا وطنيّة (موت الرضع،الإرهاب،...) أو قوميّة (فلسطين) في مضامين هذه التّظاهرات التّلمذيّة. 
وأشار بعض تلاميذ حلقات التّركيز  إلى الفضاءات «المنسيّة» أو «الوحدات الصّحيّة»، التي تشكّل جدرانها مساحة للكتابة والرّسم « أبواب وحيوط التّواليت نخربشو فيها صور وكلمات وجمل، تنفّسنا من الضّغط»(16)، تعبّر عن ثقافة تحتيّة أو اللاّمعبر عنه في السّجلات العاديّة، وتجسّم مواقف رافضة لعالم الكبار «الى ما يفهموناش»(17). إنّها كتابة تجسّد الأحاسيس المتحرّرة وجدار للتّعبير عن مكبوتات لم تجد لها صدى في الواقع أو قنوات لتصريفها. وتشكّل هذه الفضاءات «سوقا» للتّبادل، تتمّ فيها كلّ المبادلات «اللاّقانونيّة» والخفيّة بعيدا عن أعين الرّقابة الإداريّة، «ما نخبيش، نتكيفوا الزّطلة وكل شيء ونتبادلوا الحبوب المخدرة بأنواعها»(18)، ويتمّ داخلها أيضا تبادل مقاطع موسيقيّة أو فيديوهات مختلفة وممارسة العنف والتّنمّر.
لا تقتصر أسباب العنف على طبيعة المناخ المدرسي وأنماط التّسيير فحسب، بل تتعدّى ذلك إلى الهندسة المعماريّة للمدارس، وخاصة تأثير تهرّم المباني واهتراء بنيتها التّحتيّة وتقادم الوسائل التّربويّة واكتظاظ الأقسام(19)، إضافة إلى كثافة الأفعال التّخريبيّة (تهشيم البلور، تكسير الطاولات والكراسي، الأقراص الكهربائيّة...)، بينما تعدّ سلامة المباني وجماليتها بعدا أساسيّا في تأمين المناخ المدرسي السّليم، بل يعتبرها الإيطالي (Reggio Emilia) «المدرّس الثالث»، فالرّفاهية جزء من تحقيق الجودة التّربويّة، وأنّ تأثيث أرجاء المدرسة بالألوان والرّوائح والتّهوئة والفضاءات المريحة يعزّزها. 
وكشفت المحادثات العلاقة الصّعبة بين المدرسة والأسرة، التي تتّسم بالسّلبيّة، وتظلّ العلاقة النّفسيّة للأولياء بالمدرسة متوتّرة، ولا يعلمون شيئا عن الإجراءات المنظّمة للحياة المدرسيّة وكيفية اشتغالها، «تستدعى عائلاتنا إلاّ عند المشاكل» على ما ذكر أحد التّلاميذ، مثلما أنّ الصّلات المتأزّمة تفسّر بعدم تدريب المدرّسين والطّاقم الإداري والإرشادي في كيفيّة التّواصل مع الأولياء، فاللّقاءات عادة ما تضخّ سوء فهم ونزاعات، والنّتيجة تتصاعد وضعيّات الخلاف وتُنشط مظاهر العنف ولا تسهم في حلّه. 
2 3- 3- المبررات التربوية والبيداغوجية للعنف المدرسي
تتّفق الأدبيّات التّربويّة أنّ كسب رهان الجودة داخل المنظومة التّربويّة مرتبط بتوفّر شروط بيداغوجيّة ملائمة، وتبنّي مقاربة نسقيّة تستحضر مجمل العوامل الكفيلة بدعم نجاعة المنظومة التّربويّة والرّفع من أدائها، وحثّ التلاميذ طوال تمدرسهم على تلبية حاجاتهم «للمعنى» (المتعة، المنفعة، الجماعي، الإنساني، والأمن) (Reboul,1992 ). ويعتبر عنف التّلاميذ ردود أفعال تجاه فراغ المعنى، ذي الصّلة بالبرامج والوسائل البيداغوجيّة، حيث تبدو المعرفة المدرسيّة معزولة عن محيطها، حيث تتكوّن من محتويات ووسائل لا تتجدّد دوريّا، فالبرامج لم يتمّ تجديدها فعليّا منذ عقدين(20)، ولم تواكب التحوّلات الوطنيّة والعالميّة في كلّ فروع المعرفة، في حين تغيّرت العقليّات وبرز جيل جديد مع التّحوّلات التّكنولوجيّة وتبدّل خارطة القيم والنّسيج العلائقي. وتوقّف المشاركون مليّا عند الأسباب التّربويّة والبيداغوجية للعنف المدرسي، ويرون في الدّراسة مضيعة للوقت والجهد والبرامج مملّة و«حكايتها فارغة»(21)، ويشعرون بصعوبات التّدريس ورفض المدرّسين تفسير ما استعصى عليهم من قواعد «يفسّر مرّة واحدة وكي تطلب يعاود يقحرلك ويواصل» على حدّ قول أحد المشاركين، تدفعهم للإحساس بهبوط الدّافعيّة والرّغبة في التّعلّم. 
كما يرسم التّلاميذ عبر أقوالهم جدولا قاتما عن الممارسات البيداغوجيّة التّقليديّة، التي تستند  على الإملاء والحفظ «احفظ وعاود وهذه بضاعتكم ردّت إليكم»(22)، وعلى فقر التّجهيزات والحوامل المطابقة تجعل من العسير نقل المعرفة بصفة تفاعليّة في المواد العلميّة أو الاجتماعيّة. 
لئن تأثّرت المنظومة التّربويّة وأعداد محدودة من المدرّسين بمكتسبات الحداثة البيداغوجيّة، في مستوى المضمون والأفكار والمنهج، فإنّه عمليّا، يوجد انحباس للأفكار والمبادرات، وتقلّص للمناخ الحواري والعمل الفريقي، إذ لا يزال الصّف في صيغته التّقليديّة، حاضرا في التّصوّرات الموروثة بطقوسه وعناصره المادّية، ولم تتغيّر كثيرا طرق إدارة التّعليم الصّفّي في الضّبط والنّظام. حيث احتفظ فعليّا بمركزيّة المدرّس وامتثاليّة المتعلّم، «الأستاذ يملي الدّرس ويكتب على الصّابورة ويوزّع التّمارين ومساحة الحوار ضعيفة جدّا وما فماش نقاشات»(23)، فالبيداغوجيا المعتمدة لا تحث على العمل الجماعي وتبادل الحوارات. فالمدرسة التّونسيّة لم تبتكر ولم تطوّر وسائل بيداغوجيّة ملائمة لتيسير التّعلّمات بالإحاطة والتّعديل، ولم تترك مساحات حرّة للمدرّس ولم تدربه على ترقية أساليب نقل المعرفة، وهو ما أفضى إلى محدوديّة الأداء المدرسي وضعف استيعاب المواد العلميّة واللّغويّة، ومن ذلك انبثاق السّلوكات اللاّمدنيّة والمرور إلى التّصرّفات العنيفة. 
تجسّد الأقسام مجال التّمييز وانسداد التّواصل، وقادحا للعنف، لهذا لا نغفل أنّ التّواصل غير اللّفظي للمدرّسين يبثّ في بعض مناحيه رسائل رفض وتهميش، فالتّلاميذ يتحمّلون غالبا عنف الفضاء المغلق للقسم والمعرفة المغلقة، إلاّ أنّهم لا يقبلون التّنقيص من قيمتهم، حيث توجّه إليهم إهانات مزعجة حول مستواهم الدّراسي ومواقف تمييزيّة فيما بينهم  «حل مخك وإلاّ حل وذنيك، أو هاو صاحبك فهم وأنت شبيك، وإلا هذه زادة ما تعرفش تعملها» مثلما أشار أحد المتعلّمين. واشتكي عدد من المشاركين من نقص الاحترام من قبل بعض المدرسين الذين لا يأبهون بهم، وتقتصر علاقتهم على إلقاء الدرس فقط، «ساعات تظهر العلاقة سيّئة والأساتذة يعادون التّلاميذ ويدخل يعيط ويخرج يعيط» بمفردات متعلّم مشارك، مع علاقات تربويّة متعالية وفوقية « يكلمك من الفوق ويتعاملون معنا بطريقة جافة وما يعرفوش يتعاملو معنا»(24)، لازالوا يعتمدون أساليب السّلطة التّقليديّة، ما يؤدّي إلى صراع وفجوة جيليّة، حيث يجد عديد المربين صعوبة في تفكيك لغة الشّباب وفهم انتظاراتهم وأنماط تفكيرهم وسلوكاتهم. ويرى أكثر من نصف التّلاميذ المشاركين في عدم الحوار وعدم الاعتراف بدورهم والشّعور بالإحباط دافعا مهمّا في عنفهم، وأنّ سلوكهم هذا نتاج البيئة الصّفية والنّمط التّواصلي المغلق وشعورهم بالامتعاض تدفعهم للتّفتيش عن مصادر للتّعويض وتثمين الذّات، للدّفاع عن النّفس أمام اللاّعدالة والظّلم، والبحث عن الاعتراف بأيّ شكل كان، ويتعلّق الأمر أكثر بالتّلاميذ الذي يعانون من الفشل الدّراسي والذين لا يحصلون على التّشجيع والدّعم، يقودهم الشّعور بالمعاناة والإحباط إلى تبني منطق الانسحاب أو ممارسة مختلف أشكال العنف المدرسي. 
وكشفت المحادثات عن حاجتين الأكثر حساسيّة للتّلاميذ في صلتها بظاهرة العنف وهي حاجة التّواصل وحاجة التّقدير والقبول، وترتبط المعاني بتثمين الذّات، في حين يغلب على مهام المدرّسين البعد  التّدريسي مع ذبول في ديناميّتهم التّواصليّة، وأثار عدد من التّلاميذ غياب الإصغاء لمشاكلهم وانعدام مرافقتهم خلال الأزمات التي يمرّون بها، «ما نلقاو حتى شخص يعاونا ويقف معنا»(25)، بمعنى أنّ المشهد التّربوي يفتقر إلى آليات إصغاء وهياكل المرافقة والمساعدة النّفسيّة والتّأطيريّة.
ومن مصادر العنف التي تمت الإشارة إليها في حلقات التّركيز أخطاء التّقييم (إسناد العلامات)، حين لا تخضع إلى مقاييس دقيقة، بل تكشف معايير غير تربويّة مثل المركز الاجتماعي للوالدين وأصحاب النّفوذ المحلّي «لم نعد نثق في أعداد المدرس، فمه أمور أخرى تدخل في الحسابات»(26)، يشعر المتعلّمون بأنّهم «ضحايا» التّقييم الجزائي غير العادل من قبل بعض المدرّسين للضّغط عليهم من أجل حضور الدّروس الخصوصيّة، أو التّهديد بالحطّ من العدد فرديّا أو جماعيّا بسبب سلوك سلبي، يراكم بعض المراهقين هذه المشكلات ويتحوّلون بالتّالي إلى حالات يصعب مراقبتها والإحاطة بها.
وتطرقت بعض المحادثات إلى سلوكات عنيفة نتيجة قبّعة المراهق «المظلّة»، فهي ليست مجرّد لباس أو مجرد غطاء بل هي وسيلة تعبير وهي «جزء منّي ومن بدني ومن شخصيتي وشنوة الغلط كي نلبسها»(27)، إنّ مطالبة المراهق  بالتّخلّي عن قبّعة أو حلاقة شعره، يختزن شحنة استفزازيّة تجاهه، قد تتحوّل إلى كارثة، وهو ما بيّنته البحوث التّربويّة منذ السّتينات من أنّ المدرّس لا صلة له بكلّ ما يتعلّق بمسائل الثّياب و«اللّوك»(Werthmon ,1963).
الهوامش
(1) ملخص التقرير العالمي لرصد التعليم «المساءلة في مجال التعليم»، 2017، الرابط: https://bit.ly/2XQgfHA
(2) سفيان، س، 15 سنة، تلميذ 1 ثانوي، معهد الهادي شاكر بصفاقس.
(3)  نفسه 
(4) عطيل،م، 16 سنة، 2 ثانوي، معهد حي الأمل بفوشانة .
(5)  Lobrot, Michel, La pédagogie institutionnelle. L’école vers l’autogestion (Paris, Gauthier-Villars, 1966).
(6)  نسرين، إ، 16 سنة، 2ثانوي، محادثة فردية.
(7)  Bellat, 10 propositions pour changer l’école. 
(8) ( François, Dubet, La préférence pour l’inégalité. Comprendre la crise des solidarités (Paris, Editions du Seuil, 2014
(9)  علاء، ي، 16 سنة،  ثانوي2 ، معهد جبل الجلود.
(10)  نفسه
(11) رائد، ب، 14 سنة، 9 أساسي، م،إ، 2 مارس بالزهراء.
(12)  أيمن،د، 17 سنة، 2 ثانوي، محادثة فردية.
(13) نفسه
(14) طقوس احتفالية تتم في فترة ما قبل اجتياز اختبار باكالوريا الرياضة.
(15) احتفالية تتم بإطلاق عشرات «الفلامات» أمام المعهد في مناسبات يختارها التلاميذ.
(16) مراد، ك، 17 سنة، 2 ثانوي، محادثة فردية. 
(17) مية، ع، 16 سنة، 2 ثانوي، محادثة فردية. 
(18) بسام، ح، 17 سنة، 2 ثانوي، معهد حي الأمل فوشانة.
(19) المخطط  الاستراتيجي القطاعي التربوي ( 2016-2020)، وزارة التربية، الرابط: https://bit.ly/3igCxtw
(20) آخر التعديلات مع قانون التوجيهي للتربية والتعليم (2002).
(21) نسرين،إ، 16 سنة، 2 ثانوي،  معهد الهادي شاكر بصفاقس.
(22) وائل،ط، 16 سنة، 2 ثانوي، معهد أحمد نور الدين بسوسة.
(23) نسرين، إ، محادثة سابقة.  
(24) نفسه
(25) عزيز، ز، 16 سنة، 1 ثانوي، معهد جبل الجلود. 
(26) نفسه 
(27) محمد، س، محادثة سابقة.